قراءة نقدية لـ ‘دوران’ إبراهيم الحارثي (1 / 3)

 

 

 

وضع العديد من كبار اساطين اللغة ودهاقنة النقد واساتذة العلوم والفنون المرتبطة بالكلمة جملة من القوانين الواجب اتباعها عندما تحط فراشات الكتاب النقاد على اغصان دوحة النص بمختلف مرجعياته الجنسية، غاية هذه القوانين تحجيم ميول هؤلاء النقاد وتوجيه طاقة اللاشعور المتولدة لديهم وهم يغوصون في اعماق منجزات الاخرين باتجاه حيادي مقنن، وكأنهم يريدون من الجميع السير باتجاه واحد لا يتزحزح يمينا او يسارا دون ان يرد في خاطرهم ان هناك عقبات ومطبات وتعرجات نفسية موروثة او انفعالات ثقافية متلازمة ارخت بيوغرافياً لسيرة اجتماعية وايديولوجية علمية وادبية لدى الناقد مع تواطئ جمالي خاص هي من سيكون لها القول الفصل في تجسيد الانطباع الواقعي لما تراه العيون وتسمعه الاذان وتحسه الروح وتتفاعل معه الموروثات الثقافية وهذا المنحى يختلف من ناقد الى اخر.

وما اعنيه بكلمة ناقد هو الناقد الادبي صاحب الخلفية العلمية والناقد المتمثل بالقارئ المجرد مع الاخذ بنظر الاعتبار ان ليس كل ما يطلقه فكر الناقد هو انطباع مجرد بل يؤشر في اكثر الاحيان استجابته لبعض الميكانزيمات التي وضعها علماء اللغة والنقد والتي تمسك بزمام المبادرة لديه ليس من باب الاستسلام بل من باب المهنية التي تميز بين الدارس والممارس والمتبحر بأصول النقد وبين الاخرين، لذا هناك دينامية جمالية ابداعية خاصة ذائبة في طيات القانون النقدي مع الاحتفاظ باستقلالية معينة تسيطر على الناقد ترافقها بعض الثغرات التي تطل منها الروح بمعية العقل انطباعيا وتعبيريا وتفكيكيا ومن هذا المنطق والمنطلق اجد ان ما يتم نقده منفردا يجب ان لا يعول عليه بالمطلق، ولا بد من تصورات وانفعالات ناقدة اخرى يتصدى لها اخرون كي تكتمل الصورة والتي من الممكن ان تهذب قلم كاتب النص للوصول الى ابجدية تعبد طريق الابداع للجميع.

وقد اشرت من خلال سني تجربتي المتواضعة احكاما قاتلة لبعض النقاد وهم يبحرون منفردين في طمطامية بحور نص معين دون ان يكون للآخرين مشاركة فيه، يمكن للمتلقي ان يميز حقيقة المؤلف المسرحي وقيمة نصه حيث اصبحت تلك القراءات النقدية ملزمة يحتكم اليها المختصون لتقييم نتاجات المؤلفين مما يشكل ظلما بمستوى معين لكتابنا المسرحيين.

تحفزت كثيرا عند اتمام قراءتي الاولى لنص الكاتب ابراهيم الحارثي “دوران” في كتابة ما يجول بخاطري نقديا وانعكاسيا لصورة مثلت امام ناظري بطلها الاوحد هو الكاتب لسبب واحد .. هو الروح الشعرية والفلسفية المتشربة في حوارات الشخصيات المسرحية لديه حيث كان النص غير مألوف بالكلية من الدخول حتى الخاتمة ومن جميع نواحي طبقات النص المادية والمعنوية مع بساطة كبيرة في ايصال الفكرة بوجود ما سبق قوله من فلسفة وشعر وجماليات صيغت بشكل سوريالي غاية في الابداع.

اذن الكاتب المسرحي ابراهيم الحارثي يشكل بإبداعه نقطة تحول مع علامة فارقة وانعطافة حادة في ثيمة وقيمة ما كُتِبَ خلال سني الخصب الادبي العربي الحالية وهو من الكتاب الذي يجعلك تفكر وتفكر وتفكر.

نقف عند البناء الذي امتهنه الكاتب كعامل بناء ملم بأدواته العمرانية وهو يتعامل مع مفاصل المسرحية بشكل عام او بجزئياتها العديدة والمتمثلة بالشخصية والحوار والحدث وقد اجاد بذلك فكانت حافلة بالتطور والوصول لهرمية الذروة في تفجير الشمس بضياء أكبر وأعم من خلال خلقه شخصيات فاعلة دراميا تمسك بزمام الامور من خلال كم هائل من الأسئلة فكانت في النهاية وبشكل عام متشظية فكريا!

ولو بدأنا بتحليل بنية الشخصية نجدها شخصيات متخيلة تنقلب من خلال القراءة الى شخصيات حقيقية نتيجة لتوافق انفعالي مراياتي لدى القارئ ربما كانت قناعا للكاتب يتخفى خلفه وهذا ما يحصل لدى العديد من الكتاب وربما اغلبهم، فالشخصيات تنطق بما يعتمل في ذاتهم بمعنى انه لو تسنى لاحد من الكتاب المسرحيين ان يفكر علنا وبصوت عالٍ لكانت هي نفس الكلمات التي تحدثت بها الشخصية المتخيلة على الورق، لذا يلجأ العديد من الكتاب ان يجعل من الكتابة متنفسا له، جدارا يتخفى خلفه ينتقد واقعا مريرا مع وضعه لحلول لا يستطيع ان يواجه بها المجتمع بصورته الحقيقية كانسان مجرد من الالقاب لأسباب شتى.

ورغم ذلك كان لصوت الموضوعية اثرا ملحوظا للكاتب في شخصياته التي ارتداها كأقنعة اخرى، فقد فتح نافذة لها دون الباب لتطل منه ليشيع بعض الحرية لديها مع كامل سيطرته عليها من خلال جهاز التحكم من بعد (ريموت كونترول) عالي الدقة للشخصية الرئيسية التي رمت بظلالها على سلوك بقية الشخصيات حيث كانت الشخصية الرئيسية هي الجثة الهامدة.

أما الشخصيات الثانوية المتشظية فقد تمثلت بالجوقة او المجموعة والتي تبدو منفردة في تفكيرها وسلوكها تبحث عن حلول تخص الشخصية الاولى لمحاثة الزمتهم بالتأثر القسري لوجودها في طريقهم دون سابق انذار، لذا حُجمت هذه الشخصيات قليلا بهذا الاتجاه وهذه الجوقة تعكس حال المجتمع في ان سلوكه ما هو الا ردة فعل لما يجري امامه فهي تسير ـ اي الشخصيات ـ بشكل كونترابنطي بموازاة الشخصية الرئيسية لينتهي بها المطاف ملتحمة متماهية تتحدث لغة واحدة متمردة ثورية.

اعتمد الكاتب في تحريك شخصياته المادية والمعنوية على الايقاع والبناء الهارموني المتوهج وبشكل بوليفوني فيما بينها اولا ومع محيطها الزماني والمكاني ثانيا. بعبارة اخرى ان هناك شخصيات تتحرك ليست من سنخ الشخصية الرئيسية تقع بمستوى مغاير لها الا ان اصواتها تتحد كالمُرَكب المتكون من عناصر عدة لينتج واقعا آخر بمسمى آخر وبكينونة أخرى يدور عدة دورات درامية ثم يعود لمصدر نبعه الاول، مع التنويه الى انه حتى اصوات الجوقة هي صاحبة اشعاعات مختلفة الاتجاهات الا انها في النهاية تشكل (فوجا موسيقية) كبيرة هنا وصغيرة هناك تتعاضد وتصب في بوتقة واحدة لتتبلور صورة تخص وتعنى بالشخصية الرئيسة.

كانت الجوقة تتمثل بشخصيات جاهزة التكوين لا تتزحزح مطلقا في نزيفها الدرامي بمعية الحدث والحوار وعرفنا خصائصها في بداية المسرحية ولم تتبدل ولم تتطور طوال المسرحية الا ان الكاتب استطاع وبحبكة مميزة أن يبعث فيها الحياة وبقوة مضطردة وجعلها وفقا لنظرية مسرح داخل مسرح تتحرك بشكل مغاير حقيقة وعنوانا بان جعل منها الدكتور والاداري وولي الميت وموظف الاستعلامات وعامل النظافة وغيرها من الشخصيات ثم أعادهم الى ما كانوا عليه ليتغلب على أحادية الخط الدرامي الواحد حيث استدعى تركيبا ضروريا استوعب الفصول الثلاثة وحبكتيها الاثنتين حتى يحدث التكامل في البنية العامة للنص ليعزف لحنا جميلا بإيقاعية متنامية انطلاقا من الانتقالات الحثية بين اللحظات الدرامية والبنيات الصراعية دون التأثير على التوالي والتسلسل الدرامي المتجه نحو تلة الذروة.

وبخصوص الشخصية الرئيسية وهي جثة الميت، وكما يقولون اول الغيث قطر يطل علينا الكاتب بجثة مجهولة ملقاة او مسجاة باحترام او بابتذال لا يعرف ذلك للوهلة الاولى تختلط معها كل التوقعات هل هي ضحية ام جلاد؟ هل هي مختصر مفيد لعديد الجثث التي تطالعنا بها الاخبار والصحف وزيارة مستشفيات الطب العدلي؟

لا أحد يعلم هل هي جثة طفل؟ ربما طفل لكن الحياة احدثت في روحه شروخا جعلته بهذا الشكل. ربما جثة امرأة؟ ربما نعم.. بسبب التغييرات الفسيولوجية لدى الجميع والتحولات الجمة بجنس الانسان.. هل هي جثة قائد عسكري ام جندي تابع له .. جثة قواد ام غانية.. ربما لاعب كرة قدم مات معتزلا بعد نضوب قوته ومهاراته، او فنان ممثل كاتب مخرج فشل في آخر اعماله بسبب هفوة اداة من ادواته ربما وربما وربما؟!

وفي قناعتي ووفقا لنسغ الخط الدرامي والثيمة الايديولوجية التي انتهى لها النص اجد ان هذه الجثة لثورة مجيدة نحتت بإزميل ومطرقة فنان ثائر على جدار الحياة التي لا تنتهي فصولها .. واجهت تلك الثورة عتاة الارض وشياطينهم فخذلها الاتباع وتفرق عنها الأصحاب اصحاب الدعوات في الرغبة بالتغيير ليبقى وحيدا في ساحة الحق وهو يواجه جيوشا من ظلام انتهى به المطاف جثة تلعن الجميع لتخاذلهم وظلمهم لتسجل نتيجة لذلك بكائية امتدت فصولها حتى يومنا هذا غايتها تبرير التخاذل مع تأنيب للضمير يقض مضجع الطفل الرضيع في حجر امه. وكما اورد ذلك احدى الشخصيات (كل شيء فينا يبكي, أصواتنا تبكي, نحن نبكي, الكمنجات تبكي على وطنٍ ضائع لن يعود).

.كل ذلك يعطينا الحق للقول ان الانسان الحالي ممزق بصور عديدة .. مجهول الهوية والعنوان لذا نحتاج الى عملية تحليل وتأويل للوصول الى كنه هذا الانسان ورغم هذا المجهود الفكري يصعب علينا تحديد عائدية تلك الجثة في يومنا الراهن بسبب مجانية الموت اليومي القابض على خناق الحقيقة والجثث التي تملاْ الطرقات والطوابير الخانقة من المكلومين امام موظف الاستعلامات الخاصة بالجثث المجهولة للسؤال عن أخ أو أخت أو أب أو أم فقد بظروف غامضة ليتحول الانسان الى مسخ غير واضح المعالم معلنا عن نفسه وبصرخة مدوية بانتمائه الى كل القوميات والمذاهب والمشارب.

هناك تيه ينتاب الجميع في معرفة حقيقة هذه الجثة الملقاة على قارعة الطريق من قبل الجوقة تراهم يدورون بتساؤلات ليس لها جواب او مجيب تنطلق من الوجود ومعضلاته اساسا لها لتتجه بعد ذلك نتيجة لتسلسل الافكار وبلورتها الى النتيجة النهائية المتصلة تمام الصلة بدراسة مشاكل وهموم الانسان ومن خلال العنوان “دوران” يتأكد هذا الامر فجميع شخصيات العمل تتأرجح بالتفاف ودوران كناعور لا تنتهي حلقاته المستديرة .. وجلة مرتبكة حذرة من الوصول الى مركز الدائرة لكنها تبقى تدور مدار الجثة دون الحصول على إجابات مقنعة لتختلق من قبلها واقعا ملائما يحاكي او يلامس واقعهم وواقع البطل المرمز اي الجثة المجهولة مستخدمين اداة قديمة قدم الوجود الا وهي الحلم، هذا الافيون الذي طالما كان سلاحا للمعدمين في تلافي خطر التلاشي.

 

 

بقلم: كاظم اللامي

http://www.middle-east-online.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *