القرص الأصفر.. مسرحية لتعليب الروح والجسد

 

 

 

انضمت مسرحية “القرص الأصفر” التي أنتجها المسرح المحلي لمدينة “معسكر” وقدم عرضها الشرفي في المسرح الوطني بالجزائر العاصمة، إلى قائمة الأعمال المسرحية الجزائرية الجريئة، من حيث الموضوع المعالج، والتقنيات المعتمدة في تناوله.

ووجد الجمهور نفسه مدعواً للذهاب سبعة قرون في المستقبل، ليقف على صورة الإنسان في زمن هو أبشع من الحاضر والماضي، حيث تتم مصادرة جميع الأسئلة المتعلقة بالمصير، ولا تحضر الأرواح والأجساد إلا بوصفها علباً لا تتحرك خارج إرادة حكم تعسفي لا يفكر إلا في مصالحه الخاصة.

سلطة الخراب
ليس الإنسان وحده من قدم استقالته من الحياة في هذه المسرحية، بل الشمس والحيوان والنبات أيضاً، ولم تبق إلا سلطتان هما سلطة الخراب و”إيفا” المرأة الحديدية التي كرّست سلطة الإناث، ورمت بإرادات الذكور إلى الهامش، وبأجسادهم وأرواحهم إلى السياط الحارقة، مما دفع إلى تأسيس منظمة تعمل على إعادة التوازن إلى الكون حملت اسم “الضوء الدافئ”.

وهي المنظمة التي شكّلت هاجساً مزعجاً للحاكمة المستبدة، فراحت تتاجر في الذمم، وتسد جميع القنوات التي يمكنها أن توفر بصيصاً من الأمل، وتجعل الأحياء يتنفسون بعيداً عن طاعتها التي كرّستها على أنها الدستور الأوحد.

ولأن اللحم البشري -خاصة لحوم الأطفال- هو الطعام المفضل لدى “إيفا” وأتباعها، فقد انتشر فيهم مرض خطير يفتك بالخلايا، مما دعاها إلى تعويضه بأقراص صغيرة يوزعها خادم القصر على النفوس الغارقة في الجوع والبرد.

وتجسدت سلطة البرد التي تعيش جميع النفوس تحت ضغطها، في حكّ الأجساد بالأيدي من طرف ممثلي العرض (22 ممثلا وممثلة) بشكل عبّر عن الخواء العاطفي والمادي الذي فرضه الاستبداد، وجعل منه واقعاً وأفقاً في الوقت نفسه.

وقدمت المسرحية مفارقة في العاطفة البشرية، تمثلت في أن البشر تخلوا عن قلوبهم، وباتوا لا يلتفتون إلى نبضها، في مقابل رغبة الإنسان الآلي الذي يعتمد عليه القصر في الحصول على المعلومات الدقيقة المتعلقة بالمحيط في أن يحظى بقلب بشري ليجرب الحب.

وظهر -في المفصل الذي أصبح فيه اليأس هو سيد الإنسان والمكان- شاب يسمى “أديل” هو ابن شقيقة “إيفا” المقتولة على يديها، ليقود حركة الرفض والانعتاق، رغم أن أباه وشقيقيه متواطئون مع الوضع.

بعث تمرد “أديل” الحلم من جديد في النفوس اليائسة، وكرسه دخول الحاكمة المستبدة في مرحلة شبه عجز عن الحركة، واعتمادها على كرسي متحرك لمباشرة تحكّمها في الأجساد والأرواح، لكنه سرعان ما انطفأ بإقدام إحدى مساعدات “إيفا” على قتل الفتى العاشق، ليشتعل من جديد حين يدرك الناس أن الانعتاق هو ثمرة رغبتهم فيه، وليس مرتبطاً بشخص معين.

جماليات متكاملة
نجح المخرج ربيع قشي -الذي يعدّ من الوجوه الشابة ذات الطرح المختلف في المشهد المسرحي الجزائري- في توظيف جميع الأدوات المسرحية في خدمة فكرة المسرحية القائمة على قيمة الحرية والعاطفة الإنسانيتين.

وشد انتباه الجمهور -على مدار ساعة من الزمن- من خلال الحوار الجمالي الذي كان بين الصوت والإضاءة والموسيقى والتعابير الجسدية، واستغلّ الحيز المكاني -رغم كثرة الممثلين- بطريقة طاردة للملل.

ولعبت السينوغرافيا دوراً حساساً في تمرير الرسائل المختلفة التي اشتغلت عليها مسرحية “القرص الأصفر”، فكانت بذلك همزة وصل بين المرئي واللامرئي، ووفرت الجرعة اللازمة من المتعة البصرية على مدار العرض.

واعترف الفنان عبد الرحمن زعبوبي للجزيرة نت بأن السينوغرافيا التي صممها للعرض تشكلت حسب المعطيات النصية المستجدة، بحيث تفككت أكثر من مرة قبل أن تأخذ شكلها النهائي.

وأضاف أن السينوغرافيا تبقى العنصر الأهم في صناعة العرض، لكونها الفضاء الذي يجمع بين المسرحية والمتلقي، “وقد انطلقت من فكرة “تعليب” الروح، ورغبة هذه الأخيرة في التحرر لتصميمها”.

وسألت الجزيرة نت فتحي كافي كاتب النص عن مغزى اختياره زمناً موغلاً في المستقبل، فقال إنه حاول البحث عن نفس جديد بعيد عن تراكمات التجارب السابقة التي عاشها باعتباره ممثلاً.

وأكد كافي أن النص -رغم غرائبية طرحه الفكري- بقي وفياً في مبناه وعمرانه الدراماتورجي للبنية الأرسطية، ويحمل نفسا “شكسبيرياً” تراجيدياً، من خلال البطل الذي يلقى مصرعه -في الأخير- وهو يصارع من أجل الانعتاق.

 

 

عبد الرزاق بوكبة-الجزائر

http://www.aljazeera.net/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *