مقدمة في المسرح الصامت

 

أعتقد بأن قراءة نص يعتمد منهجاً فكرياً وتقنياً صامتاً ليس بالأمر الميسر للجميع حتى لو تعلق الأمر بالمسرحيين أنفسهم ، إذ يجب على قارئ الأعمال الصامت هان يكون على قدر كبير من الخيال الذي يستطيع بواسطته تحويل الصمت من مستواه التجريدي

في حركته الداخلية– نظرياً–إلى مستواه المرئي علمياً– لقد تعود قراء المسرحية أن يطالعوا نصوصاً تعتمد – الكلمة – الحوار،متخيلين عبرها حركة الشخصيات، نمو العقدة ، الخطوط الصاعدة والهابطة ، الجو النفسي العام … تختلف حظوظ القراء في القدرة على التواصل إلى عمق النص تبعاً لمستوى ثقافة كل قارئ والذي يستفيد بعض الشيء من شروح المؤلف وتهميشاته وما يلقيه من توصيف بين ثنايا الحوار، من هنا يكون الطريق معبداً، بعض التعبيد له . في النص الصامت يصطدم القارئ بعقبة أساسية هي : عمق التجريد وكثافة الخطوط الحركية حتى لتتساوى طاقة الكلمة بقدرة الحركة التي مهما وصفت فأنها تبقى تجريداً شاقاً بتوازياته وتقاطعاته التي لا تتفق مع أية زخرفة أو بهرجة تعين القاريء وتحول دون نفاذ صبره لما يتسم به النص الصامت من (جفاف تكنيكي) مزعج للذي لا يواصل القراءة فيه. أن مؤلف الصامت يعلم قبل غيره أية صعوبة سيواجهها القاريء وهو الذي يدرك أيضا مدى الصعوبة التي سيواجهها المشاهد في حالة العرض المسرحي، رغم تخطيط المخرج وإغراءات الممثل ومساعدة عناصر الإنتاج الأخرى في تقديم العون لإيصال المغزى من كل حركة أو إيماءة  يتمثلها الجمهور في لحظة تحقيقها المادي– المرئي في الزمن، إن الفن الصامت هو الفن الأصعب مسرحياً رغم ظن بعضهم عدم جدواه أو أهميته … مثل هذا الظن يماثل في ضيق زواياه ، التشكيك بأهمية اللوحة أو الشعر. إن حياتنا تحتاج إلى مزيد من السواقي والروافد العذبة كي نقلل من مساحات الجذب فيها، والمسرح الصامت هو إحدى هذه السواقي التي ستؤثر أثرا مهما في عملية بزل الملوحة وسقي تربة الإبداع، مؤكدين أهميته القصوى جماليا ونفسيا واجتماعيا ومؤشرين في الوقت نفسه إلى أن كل نهضة حضارية لأي بلد إنما هي نهضته من كل مكونات الحياة . إن الدعوة إلى المسرح الصامت لا تتأتى جراء التأثر بالمسرح الأوربي .

الذي بلغ مديات مهمة منبها على الرؤية الخاصة للفن الصامت العراقي فكرا وتكنيكا قد يتفق بعضهم معي على أن خشبة المسرح (مكان) … وانعكاسه في (الحركة) وليس في (اللغة) التي هي شأن من شؤون الأدب – التي تكتفي بأن تكون ظلاً تابعاً لنفوذ الحركة المنطلقة ومهمة المسرح الأساسية هي في تقديم عرض حركي يدجن ( اللغة ) باعتصار ما فيها من طاقة بصرية ليحيلها إلى قدرة تحقق تركيباتها المرئية صيغة نهائية للعرض المسرحي ، والبانتوميم الدرامي هو أقصى أنواع إحالة اللغة حين يجدها من اشتراطاتها الأدبية المضمنة في المفردة الكلمة – الحوار منجزة وعبر هذا التجريد وهذه الإحالة قدرة حركية فذة تحقق كثافة المكان عن طريق انعكاسه في الإنسان مؤدياً كان أم متناه .
وهكذا يكون الصامت الدرامي فناً من فنون (المشاهدة المطلقة) ، يتعين على وسائل العرض يملك قدراً تحقيقها ابتداءاً من الممثل الذي ينبغي عليه أن وافراً من الثقافة التكنيكية والمرونة الجسدية مع فهم دقيق لما ينشده المخرج المسرحي قائد العمل : هنا يتحمل الممثل عبئاً استثنائياً وجهداً خارقاً لابد أن يؤخذ بالحسبان لكل من يتمنى الدخول في هذه اللعبة الصعبة … إذ لابد أن يلتزم بتوجيهات المخرج في كل إيماءة يطلقها أو إشارة يوحي بها مع قدرة في أداء كل حركة مطلوبة من أي عضو من أعضاء الجسد الذي لابد إن يتخلص من أي تشويه خلقي يعيق أداء الحركة أو يشوه جماليتها… فهو إذن راقص تعبيري يؤدي مهمة دراماتيكية على خشبة المسرح هذا الراقص التعبيري الدراماتكي لا يمكن أن يلعب لعبته من دونما موسيقى تعزز حركته وتسند فعله وهي لذلك تأتي في مقدمة وسائل العرض لقدرتها على خلق أجواء صامتة … فبالرغم من أن الموسيقى تبين تأثيراتها في ألامرئي، يجب أن توظف بما يحقق ويخلق المرئي الصامت لإمكاناتها المعروفة في التجريد . أن الموسيقى الوصفية ليس لها هنا ذلك الشأن الذي نجده في المسرح الاعتيادي الذي يعتمد على توظيف الحالة موسيقياً وفي كثير من الأحيان… عكس ما نراه في العرض الصامت إذ ربما غيرت الموسيقى فيه مجرى الفعل لتغير بعده الأثر المتبقي في وعي المتفرج. استطيع القول بان الموسيقى هي أكثر الفنون اعتمادا على الآلة وفي دقة أدائه حتى ليصل الإيهام حدا يعتقد فيه المتفرج بان الممثل هو الذي ينتج الموسيقى إيماءه وإشارة، حركة ورقصا.. يجب أن يسقط كل ما هو مبهرج أو مزخرف في مثل هذه العروض والديكور هو أكثر الوسائل تحقيقا لهذا المطلوب لاعتبارات عكسية لأنه الوسيلة الكثرى تقبلا لمثل هذه البهرجة في الوقت نفسه ، لهذا لابد أن يكون لكل قطعة اثر حاسم ودقيق في عملية الإيصال للمتلقي محاولين جهد الإمكان أن نبعد الحجوم الضخمة أو الكتل الكبيرة تخوفا من أية إساءة لشفافية الفضاء وأكثر العبارات ملائمة لتوضيح هذا المعنى هو أن الديكور في العروض الصامتة يعتمد على كل ما هو “غال ونفيس” لكن هذا لا يعني بأنه مصنوع من الذهب بل من الخيش وجريد النخيل أن الإكسسوارات في معنى وجودها الشكلي واللوني إنما تعد مكملا وتابعا ذلك لأنها وان كانت تشكل مجالا رحبا لقدرة الممثل ودقته على اللعب والإلهام تنفرد بطاقة تعبير به قد يبالغ في حجمها نقصا أو زيادة لكي تتحول إلى وسيلة إيضاحية تعين المتفرج على حسن التلقي واصطياد الفكرة المعروضة عليه وهكذا تكون كل قطعة من الإكسسوار هي مفردة ذات أهمية دقيقة في العرض الصامت والتعبير بها أو عنها هو جزء من تعبيرية اعم وأوسع تشترك في خلقها روافد أخرى ولعل أهمها ما يأتي من الإضاءة لقد تحقق للإضاءة في المسرح الاعتيادي قدر من العرف لم يستطع مسرحيونا تجاوزه – إلا ما ندر– رغم تطور الأجهزة ودخول التكنلوجيا والكومبيوتر إلى مسارحنا ، إذ اكتفت الإضاءة بان تنير الوجه لتعمي اثر الفعل الدراماتيكي حتى بات الأمر فعلا حسابيا يستند إلى قاعدة رياضية خائبة يعرفها المشاهد ولا يدرك سواها الفنان فما أن يؤشر العرض المسرحي على حدوث الثورة حتى تشتغل خشبة المسرح بوهج من اللون الأحمر وما أن تغرد العصافير في حديقة العشاق حتى يكون اللون الأخضر هو السائد .
وهكذا تكون الإضاءة غامرة حينما يكون الأمر احتفالا بتنصيب الملك وإخفاقا عندما تحدث سرقة في إحدى الأماكن أن الطراز قد يحتاج لمثل هذا لكن الضوء ليس كالمعادلة الرياضية التي تقيس نتائجها وفق الدرجة الأولى أو الثانية . وهذا يوجب على الضوء أن يغادر معناه البديهي والاعتيادي في كشفه عن الوجوه والمساحات والديكور .. فما يحمله الضوء من لون قد يجد له منطقا دراماتيكيا في اللامنطق الاجتماعي أو النفسي والعكس صحيح جدا وإضاءة الصامت من أكثر الوسائل إباحية للتجريب واحتمالاته في الخطأ والصواب .
إن الإضاءة في الصامت لا تلتقي مع أي تفسير تقليدي لسيكولوجية الضوء وأثره في المتلقي أنها تصميم وفق منطق العمل الداخلي فقط لخلق حالة مزاجية من التأثير والغرابة التي لا تقصد لنفسها والكلمة الأخيرة تصدق في معناها النهائي على ما يقتضيه فن المكياج .
العادة والخوف من تجاوزها تاريخ الصامت والتردد في اختراقه هما السببان اللذان حددا الفنان الصامت واجبراه على أن يطلي وجهه بالأسود والأبيض أحيانا وبالأخير على الدوام دونما تسويغ معقول إلا في بعض الأحيان طلاء ليس له درع من وجهة نظر الفنان وردا على كل القائلين بان هذا الطلاء يساعد في إبراز انفعالات الوجه متناسين اثر الإضاءة واللون في عصرنا الحديث أن فن المكياج ليس هو التجميل مطلقا، انه تشكل فسلجة الوجه في الأخص في تعددية انفعالاته المختلفة داخل اللعبة الدرامية الصامتة وخارج مفاجآت التهريج الصارخة والقناع ضرورة تعبيرية لمغزى ومنطق العمل الصامت حتى ليذهب الاعتقاد بي الى ان ليس هناك صمت من دونما قناع يغير من شخصية المؤدي ويقلب موازين التأثير ويعزز الإيضاح ويصعد من التوتر من دونما ابتذال في الاستعمال فالاقتصاد والضرورة شرطان أساسيان في لعبة استخدام الأقنعة باختلاف مضامينها وأشكالها التي توحي بكل ما يوحي بالمجتمع وتكويناته الحضارية الاجتماعية ، السياسية ، التاريخية والفلكلورية .. إذ أن الأقنعة لعبة لا يجيدها ولا يفهمها إلا من الم بمجتمعه وعلاقاته المتشعبة ماضيا وحاضرا فهي رمز مكثف يتندر بها الجاهل ويتخوفها من يعرف بواطن الأمور إذ يحتسب لاستخدامها إلف حساب ينبغي– حتى لا تختلط الأنواع رغم تداخلها .
أن اثبت أمراً مهما هو : أن (باتنويم الشخصية) أو (بانتوميم الحالة ) لا يعنيان مطلقا مما سبق تسميته بـ(البانتوميم الدرامي) وان كان الأخير يتضمن في ثناياه الأول والثاني لكنهما رغم ذلك يبقيان جزءا يسيرا منه وعلى مستوى الفكر والتقنية أن (بانتوميم الشخصية الإنسانية أو الحيوانية .. مهارة في الشكل ليس غير، يتم عرضها من وجهة نظر حياتية بسيطة ينقصها عمق الدراما تحصل جراء دقة الممثل اللاعب وخيطه لما يقدمه من نسخ عن بعض الشخصيات في أفعالها المختلفة تمشي تنام تقفز تأكل.. الخ أن الممثل الذي يعتقد بأنه يعمل على طريقة (البانتوميم) عندما يعدم هدهدا ضفدعا قردا سلحفاة هو ممثل ناقص في ثقافته الفنية إذ انه هنا إنما يمارس حرفة أو مهنة وليس فنا لأنه يقلد عضليا بعض أفعال مجتزأة لكائنات مختلفة ومثل هذا التقليد لا يعدو المهارة الشكلية فقط هذا بالنسبة إلى (بانتوميم الشخصية) أما بالنسبة (بانتوميم الحالة ) فهو وان كان متطورا على الاتجاه الأول إلا انه يبقى حدا أدنى في المضمون الدرامي أذا لم يكن نكوصا فيه .. فتقديم مشهد يؤدي فيه الممثل حالة اختناق امرأة بالغاز.. هو وان كان مثيرا أو مدهشا يبقى فعلا واحدا في الانتقاء وأحاديا في التناول من ناحية الدراما .. وتأسيسا على ذلك استبعد الشخصية والحالة وما يمت لهما بصلة عن ما نسميه بـ (البانتوميم) الدرامي الذي يؤسس ويبني على فكرة تامة تنتقى . قصة كاملة تتلائم دراما تيكيا وتكنيك المسرح الذي يتبنى تعدد الشخصيات باختلاف أبعادها بالإضافة إلى وجود العامل الأساسي في تقديم عرض درامي.. اقصد الصراع بين فكرة وأخرى وما يجر ذلك من علاقات متشعبة ومختلفة تقود إلى هدف محدد وفكرة نهائية يتوصل لها المتلقي.. فكرة خاصة تنتج عن فكرة عامة .
إن الصمت يكون مطلبا جماليا ونفسيا ذلك لأنه يؤدي عن طريق الحركة الكثرى وضوحا ومباشرة من الكلمة التي تحمل معاني شتى قد لا يريدها الفنان ولا يفهم سرها المتفرج فتنقصم جراء ذلك عروة أساسية في علاقة الفنان مع جمهوره . أن المتفرج في المسرح الصامت ليس عقبة أمام ماهو جديد وأصيل في الفن ذلك عندما يدرك الفنان أثره في مجتمعه فقط فلا يتعالى بحجة انه لا يفهم من جمهوره في الوقت الذي لا يستجدي غرائزه بحجة من إن مسرحه جماهيري الاتجاه فالحقيقة تقول أن لا فرق بين أن يذهب الجمهور إلى مسرحية مبتذلة ويأتي المسرح لجمهور يحاول فرض فكرة يرفضها بعد خروجه من باب القاعة وربما على مقاعدها.. وهكذا يكون مسرحنا الصامت ليس نخبويا كما يدعي عليه بعضهم فهو ما يزال في بواكيره الأولى وهو دعوة في قول الحقيقة وتوسيع وتعميق للثقافة المسرحية في حياتنا الاجتماعية .

 

 

شفيق المهدي

كتابات ساحة الرأي الحر – الرئيسية

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *