جماليات الرقص الدرامي في “بيت برناردا ألبا”

تنتمي الدراما المسرحية للشاعر الإسباني (فيديريكو غارسيا لوركا) إلى ذلك النوع من المسرحيات ذات الخصوصية الشعرية ، ذلك أن إحساس المؤلف الذي تكون في

 

مسارب الشعر ابتداءً لم يغادره في صياغة نصوصه الدرامية بل على العكس من ذلك فإنه عمد إلى تفعيل أسلوبه من خلال تضمينه للعديد من المقترحات الفكرية التي هيمنت على النص المسرحي الذي طالما كان يسعى من خلاله إلى معالجة العديد من القضايا الاجتماعية ، ولا سيما قضايا المرأة التي تعد المحور الأساس في مسرحه ، ذلك أن (لوركا) كان متنوعاً تناوله للمرأة التي كانت في (ماريا بينييدا) تلك البطلة الثائرة التي تضحي بكل شيء ، وفي موضع آخر كانت (يرما) ومحنة المرأة العاقر ، وهي ذاتها المرأة  المجبولة من قسوة في (بيت برناردا ألبا) تلك المرأة التي تحول العالم إلى جحيم بعد وفاة زوجها .. وغيرها من شخصيات (لوركا) التي امتلكت كل واحدة منهن خصوصيتها وأسلوبها في التعبير عن محنتها في قلب المجتمعات الذكورية التي تسيطر على الحياة في أزمنة الحرب والسلطة الدكتاتورية التي كان يقودها الجنرال (فرانكو)  والذي كان له دور البطولة في القضاء على  حياة  (غارسيا لوركا) الذي لم تزال قصائده حاضرة .


التعصب في التقاليد..
قتل للحرية
اختار (لوركا) في مسرحية (بيت برناردا ألبا) فكرة متعددة الوجوه ، وقد بدا ذلك واضحاً في الشخصية الرئيسة (برناردا ألبا) تلك المرأة –الأم – الأرملة  التي تقيم مراسيم الحداد على زوجها  لسنين طويلة ، وهي بذلك تكون قد ورثت تقاليد عفا عليها الزمن ، إلا أنها ترفض أن تغادرها ، وتعمل على تحويل البيت إلى سجن يضيق ببناتها اللواتي يسكن فيه ، وهي بذلك ترفض الحياة وتركن ومن معها إلى الموت متكئة على التقاليد التي تحاصر خمس نساء تبدو الرغبة شاخصة في احداقهن، إلا ان (برناردا) كانت تهيمن على المكان وترفض كل المحاولات التي تقضي بإنهاء  الحداد الأبدي.
ولم يكن يبدو واضحاً ان سنوات الحداد ستنتهي، بل على العكس فإن الزمن كان يجعل من (برناردا / الأم) اكثر قسوة وأكثر تشبثاً بالتقاليد ، حتى انها أحالت البيت إلى قطعة من السواد اطفأت شعلة الحياة في قلوب النساء ، حتى ان إحداهن تردد “أقوم بأعمالي دونما إيمان، ولكنّني أقوم بها على أيّ حال، كساعة”، وبالرغم من القسوة التي فرضتها الأم على بناتها إلا ان  بنات برناردا كنّ يسرقنَ الفرح خلسة بالنظر من النوافذ أحيانا وبالتنصّت على أحاديث الرّجال العابرين قرب البيت أحيانا أخرى، إلا ان ذلك المتنفس المسروق كان يزيد من معاناتهن ، كنّ سجينات البيت وسجينات أجساد لم تكن ملكًا لهنّ، حتى أن إحداهنّ تقول لأخواتها وهنّ يسترقن النظر إلى الرجال العائدين من الحقول: “حتى عيوننا ليست لنا!”.
الأمر الذي دفع العديد منهن إلى الاستسلام والرضوخ إلى سلطة الأم ، باستثناء (آديلا)، صغرى أخواتها، ابنة العشرين ربيعًا، كانت الوحيدة التي تمرّدت على ثقافة الموت التي سادت البيت، وانتزعت الحياة من سجّانها بيديها الصغيرتين.  
فقد رفضت (آديلا)، أن تكبر في بيت يشبه المقبرة كأخواتها، واختارت أن تستعيد ملكيّتها لذاتها وأن تحيا الحياة، إلا انها في النهاية لاقت مصيراً اكثر بشاعة من مصير اخواتها لكنه كان من اختيارها برغم انها اختارت أن تكون ضحية الموت لكي يكون رفيقها الوحيد .
إن شخصية ( برناردا) ، التي جسّدت الماضي الذي مات منذ زمن سحيق، تعود مجدّدا، وتختار أن تعيش بعد (آديلا) في نكران آخر، مؤكّدة لمن تبقّى من بناتها، وللخادمات في البيت، وللقرية كلّها بعد ذلك، أن ابنتها ماتت عذراء، وتكرّر حتى النهاية: ابنتي ماتت عذراء، هل سمعتنّ؟ ماتت عذراء، وبذلك تعود (برناردا) إلى تقاليدها مرة اخرى متناسية ان الموت لا يمنح العذرية لأحد ، لتبدأ سنوات طويلة من الحداد الازلي في بيت الارملة المتشحة بالسواد.

المعالجة الإخراجية للنص الشعري
جاءت مشاركة العرض ضمن فعاليات مهرجان  (منتدى المسرح الدولي السابع عشر )، وتعد   الأولى لفرقة مسرح (الحوار) في ألمانيا، والمسرحية من إعداد وإخراج : العراقي – الكردي (إحسان عثمان) ، كيروغرافيا (يوهان لانزارو) ، على قاعة المسرح الوطني في بغداد ، وقد حصل العرض على جائزة افضل عرض مسرحي في المهرجان .
اختار المخرج الركون إلى فن (الكيروغراف) للتعبير عن الأفكار التي سطرها (لوركا) في المتن النصي ، وبالرغم من ان المخرج لم يعمل على تفكيك النص والخروج من دائرة المؤلف  كما هو حاصل مع العديد من التجارب المسرحية المعاصرة ، بل على العكس فإننا نلاحظ ان المخرج ارتبط بالنص إلى حد كبير ، ولم يكن ارتباطه هذا يشكل مثلبة على مستوى الإخراج بل على العكس من ذلك فإنه اختار أن يقدم معالجة درامية مغايرة لتلك التي تعتمد اللغة الشعرية التي  صاغ بها (لوركا ) النص المسرحي .
ولم تكن لغة (الرقص الدرامي ) بما فيها من تنوع في الحركات التعبيرية ، بمعزل عن إشتغالات أخرى مجاورة كما هو الحال مع اللغة المحكية ، بل عمل على توظيفها لتكون فعلاً مسانداً للفعل الحركي والتعبيري ، وبالرغم من اننا لم نتمكن من التواصل مع المنظومة اللغوية ذلك ان المخرج اعتمد على اللغة الألمانية ، إلا ان ذلك لم يشكل عقبة في التلقي إلا فيما يتعلق ببعض المشاهد التي اقتصرت على وجود الفعل اللغوي ، وهي بدورها اتسمت بوجود الأداء التمثيلي الفاعل كما هو الحال مع شخصية (برناردا) التي استطاع المخرج ان يوظف سلوكها الأدائي على نحو جعل المتلقي العراقي يغادر منطقة اللغة الملفوظة إلى لغة أكثر حضوراً ألا وهي اللغة التعبيرية التي اعتمدت على طبقات صوتية تحيل المتلقي إلى ذلك الوجع المزمن في إشارة إلى وقوع كارثة تمثلت بانتحار(الابنة).
إن اعتماد المخرج على تقنيات (الكيروغراف) في التعبير عن الافكار النصية من جهة فضلا عن التشكيلات الحركية التي كانت حاضرة على نحو بارز في العرض من جهة أخرى منح العرض خصوصية واضحة ، وبالرغم من أن ذلك لم يكن بمعزل عن اللغة التي عمل المخرج تارة على المزج بينها وبين الحركات الراقصة وبينها وبين الحركات الوظيفية تارة اخرى ، الأمر الذي خلق انساقاً متنوعة في التشكيلات الحركية ، فقد جاء التعبير عن الحالات الدرامية المتمثلة بالحزن من خلال الإفادة من الأنساق اللونية التي اعتمدها المخرج فقد كان حضور اللون الاسود الذي اتشحت به الشخصيات معبراً عن النسق العام الذي يغطي (الفضاء – المنزل) فضلا عن ذلك فإن دلالة اللون الاسود امتلكت حضورها في الذاكرة الجمعية  كما هو الحال مع اللون الأبيض الذي أمتلك دلالات باتت ثابتة في الوعي الإنساني ، والذي عمل  المخرج على توظيفه ليكون نقيضاً  تقليدياً للون الاسود على مستوى الشكل والمضمون ، ذلك ان اللون الاسود كان لصيقاً بشخصية (برناردا) وكان مفروضاً على بناتها وخادماتها باستثناء الابنة الصغرى (اديلا) التي اختارت التمرد عليه وارتداء اللون الأبيض ، وهي معادلة ادخلنا المخرج فيها للإشارة إلى الظلمة التي تقبع في عقول الكثير منا ، والنور الذي نحلم بان يكون طريقنا ، وهي إشارة لها ارتباطها في المجتمعات الإنسانية وما يواجهها من تطرف وعنف ، وكذلك هو الحال مع واقعنا المحلي الذي تتنازعه صرخات الظلمة ونداءات النور؛  فضلا عن ذلك فإن اعتماد المخرج على حركات تعبيرية جاءت منسجمة مع النسق اللوني والتي أسهمت بدورها في تفعيل المنظومة البصرية وبذلك يكون المخرج قد نجح في تحقيق التواصل البصري مع المتلقي ، ولم تكن المنظومة اللونية في الازياء المسرحية تعمل بمعزل الاكسسوارات التي كانت متوافرة في فضاء العرض ، والتي كانت قادرة على إنتاج المعنى المزدوج ، كما هو الحال في استخدام (مهفات الهواء) التي جاءت هي الأخرى متسقة مع فرضيات العرض ذلك انها كانت تعبر عن الفكرة النصية التي يطرحها (لوركا)  على لسان الأم (برناردا ألبا) التي تقول ” إن الحداد لدينا ثمان سنوات ينبغي أن لايدخل خلالها من أبواب هذا المنزل ولا من نوافذه حتى هواء الطريق نفسه”  وذلك من اجل تحريك الهواء الساكن في البيت المغلق ، والتعبير عن حالة الضجر الذي بدا واضحاً من خلال النسق الحركي الذي اختاره المخرج بالتعاون مع مصمم الرقص (الكيروغراف).
وبذلك يكون المخرج قد عمل على توظيف طروحات النص بما ينسجم مع الرؤية الإخراجية التي اعتمدت على نحو أساس على الحركات التعبيرية .
من جهة اخرى فإن المخرج اختار العمل على توظيف مفردات ديكورية متحركة لتكون متوافقة مع الفعل الحركي المستمر على خشبة المسرح ، فضلا عن ذلك فإن تلك المفردات الديكورية التي كانت على شكل (مناضد) صغيرة والتي استخدمت في تحولات عدة كان من بينها تحولها إلى كراسي للشخصيات وغير ذلك من التحولات التي اتخذت بدورها نظاماً حركياً يتوافق مع النسق الحركي للشخصيات، إلا ان  المخرج لم يتمكن من الحفاظ على النسق الديكوري الذي تمثل بـ(المناضد) وذلك عن طريق توظيفه لقطعة ديكورية لم تكن منسجمة مع ذلك التشكيل ، وإنما بدت غريبة عن فضاء العرض بمجمله ، وقد تمثل ذلك في استخدام (قدر الطبخ) الذي كان بعيداً عن بيئة العرض حتى انه بدا ثقيلاً على خشبة المسرح مقارنة بالافعال الحركية (الراقصة) التي امتازت بالتشكيلات الحركية المعبرة فضلا عن جماليات الحركة  التي كانت حاضرة في فضاء العرض، الأمر الذي أربك التشكيل الحركي من خلال تلك المفردة التي لم تكن منسجمة مع بيئة العرض الذي غادر فيه المخرج المقترحات المحلية للعرض مستفيداً من ادواته التعبيرية سواء على مستوى التمثيل أو المفردات الديكورية أو الموسيقى التي كانت بمجملها تنحو نحو المعالجة العالمية للنص الدرامي.  
ولم تكن الإضاءة بعيدة عن الاشتغال النسقي الذي اعتمده المخرج في العرض بل على العكس من ذلك فإنها كانت حاضرة من خلال استخدام اللون الأصفر الذي كان مهيمناً على العرض ، والذي امتلك دلالات متعددة في التعبير عن الحالة النفسية للشخصيات المسرحية، فضلا عن ذلك فقد عمل المخرج على استخدام اللون الأحمر في المشهد الاخير والذي امتلك خصوصية واضحة للتعبير عن المأساة التي انتهت بانتحار الابنة (اديلا) فكان استخدام اللون الأحمر دلالة واضحة على بشاعة الفعل ، فضلا عن ذلك فقد كان للموسيقى دور فاعل في تطوير العرض المسرحي لاسيما ان الاعتماد على الرقص الدرامي كانت به حاجة إلى النسق الموسيقي الذي كان حاضراً في العرض إلا انه انقسم إلى قسمين احدهما تمثل في الموسيقى المباشرة والتي كانت حاضرة على خشبة المسرح والتي امتلكت حضوراً تعبيرياً واضحاً ومباشراً مع المتلقي ، والآخر كان يتمثل في الموسيقى التصويرية ، ونعتقد ان المخرج لم يكن موفقاً في استخدام نوعين من الموسيقى ، ذلك ان النسق التعبيري للموسيقى المباشرة على خشبة المسرح كان أكثر انسجاما مع الرقص الدرامي.

 

صميم حسب الله

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *