الرقابة.. «فزاعة» واقفـــة على المسرح

هل كان بالإمكان أفضل مما استمتع به جمهور مهرجان المسرح العربي الذي اختتمت فعاليات دورته الخامسة، أخيراً، في الدوحة بفوز المسرحية اللبنانية «الديكتاتور»، وشهدت تسعة عروض من ثماني دول عربية، من بينها الإمارات التي شاركت بمسرحية «صهيل الطين»، في حين غاب اي عمل يمثل المسرح المصري الذي دائماً ما كان له دور بارز في تطور المسرح العربي عموماً.

 

 

سؤال يجب أن يكون في صدارة أي مشهد تحليلي عقب المهرجان الذي جمع المئات من المسرحيين العرب في العاصمة القطرية، وتحول إلى مناسبة لمناقشة أبرز تحدياته، لاسيما أن المسرحيات المشاركة بلا استثناء كانت تلقى وجهات نظر نقدية شديدة التباين، لدرجة أن هوية المسرحية الفائزة كانت بمثابة مفاجأة للكثيرين، ما يعني أن المعايير النقدية نفسها التي تستند لنظريات وأصول فن المسرح بالضرورة، لم تستطع التعامل بحيادية المعادلات الرياضية مع المشهد، وباتت وجهة نظر لجنة التحكيم المجردة تحدد مصائر الأعمال.

وإذا كانت ثمة قراءات مختلفة للمسرحيات التي شاركت في المهرجان، سواء من حيث الشكل الفني أو المحتوى، إلا أن هناك إقراراً أيضاً بأن المسرح العربي لايزال يعيش أزمة على مستوى حساسية التعاطي الرسمي مع نتاجه الإبداعي، تعد جوهرية لجهة ان كثيراً من الأعمال أضحت غير قادرة على مفاجأة المتلقي بسبب دورانها في دوائر متشابهة تمثل المعطيات المسموح بالاشتغال عليها، بل إن هذا التعاطي تجذر لدى المبدع ليصبح بمثابة رقابة ذاتية قد تكون أشد إخلاصاً لقيم الرقيب الرسمي على المحتوى.

«ارحل»

«نحن نلعب»

في ظل ميراث طويل من سياسات الرقابة على النصوص والأعمال المسرحية، كان لافتاً الاسم الذي اختارته جماعة مسرحية لتدشين فرقة مسرحية تحت عنوان «نحن نلعب»، وكأن المسمى بالأساس دعوة للرقيب بألا يكترث أو يحاسبها على محتوى قد لا يكون مرضياً بالنسبة له، أو على الأقل لا يقوم باصدار أمر بإقصائه.

المدهش أن فرقة «نحن نلعب» قدمت بالفعل واحداً من أكثر الأعمال جدية، والتصاقاً بالشأن السياسي، عبر مسرحية بعنوان «تمارين في التسامح»، وحتى هذا الاسم الذي يجعل مسرحية مكتملة مجرد «تمارين»، ويتطرق إلى الاختلاف السياسي بدعوة إلى «التسامح».

مقولات المخرج محمود الشاهدي والمؤلف عبداللطيف اللعبي تعاملت بذكاء للقفز فوق المساءلة الرقابية، ولجأت إلى الجمهور وجعلته شريكاً في صياغة معطيات ونتائج، لدرجة أنها سمحت لهم بمداخلات وطرح رؤى ومشكلات أمام ممثل قام بدور ديكتاتور، وهي صياغة تعني أن الكثير من المبدعين المسرحيين يرون انهم مطالبون بإيجاد حلول صعبة من اجل تجنب ليس فقط مقص الرقيب، بل ملاحقاته أيضاً.

كسر الغلاف الوهمي للقيود الرقابية بات رتيباً وحلاً جاهزاً لنثر رائحة مصطنعة من حرية الإبداع، وهو ما يتجلى في تكرار مصطلحات أصبح لها مدلول سياسي جريء، لكنه وعلى عكس المسرح دائماً الذي كان ملهماً للمجتمعات، لحد أن صاغ أبناؤه الكثير من مقولاتهم بناءً على عبارات مسرحية شهيرة، فإن الشارع العربي تحول إلى مبدع، وترك مساحة الاقتباس لكتاب النصوص المسرحية، في معادلة مقلوبة حتماً.

وسواء كان في الأدب العالمي كما في أعمال شكسبير الذي خلفت عبقريته مقولات خالدة مثل «أكون أو لا أكون.. تلك هي المشكلة»، وغيرها، أو حتى في المسرح العربي الذي كان كما العقل الجمعي في حقب سابقة، فإن المسرح كان يستلهم الحدث دائماً، ويلقي بظلاله على الواقع، لكن الأعمال العربية التي بحثت عن كسر وهمي للقيود الرقابية المتعارف عليها، راحت تستعير مقولات شارع سبق استلهامها، لدرجة أن الكثير من الأعمال المشاركة باتت متشابهة.

«ارحل».. مفردة تكررت في سياق أربع مسرحيات عربية من جملة تسع، في دورة هذا العام، وكان تكرارها موجوداً ايضاً في دورة العام الماضي بشكل ملحوظ، وحتى المسرح الذي صنع مجتمعه الكلمة على ارض الواقع، وهو المسرح التونسي، حرص أن يستدعي الكلمة لعامين متتاليين، أولهما في مسرحية «زهايمر»، التي شاركت وفازت بجائزة افضل عمل مسرحي العام الماضي، و«انفلات» التي اقتربت كثيراً من أجواء سابقتها، واقتبست ذات مقولات الثورة التونسية، خصوصاً الشهيرة «ارحل».

المدهش أن هذا الاقتباس المتكرر، الذي يرى البعض أنه مبرر ما دمنا بصدد حدث مفصلي في تاريخ شعوب عربية، تكرر في أعمال جزائرية ومغربية وخليجية، وغيرها، وهو الأمر الذي تكرر أيضاً في استعادة بعض العبارات الشهيرة في آخر خطابات الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، لكن أياً من الأعمال المسرحية التي شاركت في دورات المهرجان السابقة على أحداث الربيع العربي لم تستطع أن تستشرف الحدث، كما هو مأمول من الأعمال الفنية الإبداعية عموماً، والمسرحية خصوصاً.

أزمة نصوص

لم تتبلد مخيلة كتاب نصوص الدراما أو رؤى مخرجيها كما يوحي المشهد رغم ذلك، مع وجود إقرار بأن ثمة مشكلة حقيقية مرتبطة بصياغة نصوص مبدعة، لكن إشكالية النمطية مرتبطة لدى البعض بشكل وثيق بـ«فوبيا الرقابة»، فالكاتب أضحى يمارس رقابة ذاتية على منتجه قبل أن يصل إلى مقص الرقيب، وبحساسية قد تتجاوز صرامة الأخير في الوقت نفسه، وهو ما يجعله يفضل المشاهد الاستعادية التي تسترجع التاريخ ولا تستلهمه، لاسيما حينما يبدو هذا التاريخ مرتبطاً بمكان وزمان مختلفين.

الأمين العام للهيئة العربية للمسرح، ورئيس جمعية المسرحيين الإماراتيين، إسماعيل عبدالله، الذي يعد واحداً من أكثر كتاب المسرح الإماراتي غزارة يقر بأن هناك بالفعل أزمة نصوص تتفاوت حدتها على تنوع الخشبات العربية، ويرى أن بعض البلدان لاتزال تعاني مشكلات رقابية بالفعل، لكنه يشدد على أن الإشكالية الأكبر «تبدو عندما تتحول الرقابة إلى هاجس داخلي لدى الكاتب تحرضه على استسهال المألوف، وتبتعد به عن سياق المغامرة الإبداعية».

شد وجذب

من جانبها، رأت المسرحية العراقية الدكتورة عواطف نعيم أن المسرحي العربي يواكب واقعاً عربياً مأزوماً بالفعل، وحالة الشد والجذب وعدم الاستقرار في الوطن العربي لا يمكن أن تخلق مسرحاً نموذجياً في ذات لحظات المخاض السياسي الرهيب التي يعيشها، رغم أنها تمهد له، مشيرة إلى أن البعض تتحول لديه الرقابة الذاتية إلى ما يشبه الفلتر الذي يستبعد كل ما هو جديد ومبدع، فيغدو العمل كأنما وُلد مبتوراً أو مشوهاً.

أما المسرحي المغربي عبدالله بيلوت فيرى أن الرقابة هي المعوق الابرز للمسرح العربي على اختلاف حقبه، لكنه يؤكد أن الكثير من المؤسسات الرقابية لم تعد بحاجة شديدة لتدقيق عملها، بعد أن تمكنت عبر تاريخ طويل من تنشئة أجيال تمارس الرقابة الذاتية على أعمالها، وأحياناً حتى قبل أن ترد إلى مخيلاتها تلك الفزاعات التي يمكن أن تستثير الرقيب.

http://www.emaratalyoum.com

المصدر:

    محمد عبدالمقصود – دبي

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *