في مسرحيّة المخرج جبار جودي..قديم.. مسحوق الخيانة حسن عبدالحميد

اليوم بدأت حياتنا المسرحية تأخذ طابعا آخر ومنحى آخر لا يبتعد وربما لا يختلف عن فضاءاتنا اليومية، ونحن من يذهب الى المسرح كي يعثـر على الحياة بكل مفاهيم الحياة الكونية التي دائما ما تدلنا وتصيرنا على ان نكون داخل هذا المفهوم الحيا ــ  مسرحي بكل توهجاته الفكر جمالية.

ثمة منحى توضيحي  يركن بالتشخيص والنظر الى أن الحركة الداخليّة للعمل الأدبي  يجب أن تتسم-قبل كل شيء- بقدرات اقترابها أكثر من مدارات التضخيم الحاد والمنظّم للمادة اليومية والحياتية في طبيعة وحقيقتها المثلى، يحدث هذا-قطعاً- وفق سلسلة إبداعية متداخلة ليست على وفاقٍ تام التمهيد وسُبل توريد ذلك التطوّر الذاتي والموضوعي لأصل الفكرة الفنية المبتكرة، والقادرة على هضم وتبني تحليلات وتقديرات هذا الكاتب أو ذاك.
ربما…. يلتقى هذا التوضيح -أيضاً- لينطوي تحت جناح أية مغامرة من شأنها أن تنهل من ينابيع وجودها الفعلي الخاص،وفي أن تحتفي بمسببّات توافقاتها مع أفكار وتأملات من يسعى لابتكار قيمة مضاعفة في أصل وحيثيات ذلك العمل الأدبي باتجاه عام، حين يأخذ به صوب الوصول  لهيبة جماليات الصورة، وتباهيات قدرات التمثيل على تجسيد مكامن القصد الروحي والنفح الداخلي، كما هي متممات أي عرض بصريّ قادر على الإتيان بما يساند معطيات تلك النصوص الخالدة في تثمين ضمير وذائقة التفكير الجمعي حين تتحوّل إلى انبثاقات مَشاهد  متفاعلة، متناغمة ومتداخلة مع أنساق براعة ضوء وجدارة صوت وقدرات تمثيل فائق الوعي والأثر.
يفيض هذا الاستهلال ساعة يفيد ويشع سعياً في مسك تحسسات وتوالي تدّفقات السينوغرافي والمخرج(د. جبار جودي العبودي) في ترسيم حدود فهم الشكل المُبهر والمبتكر متضامناً مع عمق وثراء قيمة المضمون،كي يأتي متاخماً لتجاربه التنويريّة في تحديث لغة التناغي والتناغم المحكوم بجملة تمريرات، من أجل أن تصبح علامات لسمات لها ما يجعلها تقف منحازة نحو وضوح رؤية تفاعلية ما بين حقيقة النص المكتوب أو المقروء، وما بين التمهيد لرفعه وصولاً لسمو الفكرة والتقابل والتباري مع مجترحات التأويل القادر على خلخلة منظومات التلقي السائد والمنسوخ جراء هيمنة التوّقع المرهون بدوافع ينقصها الكثير من بث مكامن التحرّيض، وتطويع  جماليات لغة الصورة بوازع تأمل ضمني يخفي تحت رماده جمرات متقدة من تلك التي  نفخ في مواقدها-من قبل- المخرج الكبير(د. صلاح القصب) في جملة تداعيات (شكسبيريّة)وأخرى(تشيخوفيّة)وغيرها من أعمال وتوثيقات أدبيّة شاء أن يؤسس لها بوثوق ذلك الحفول الصوريّ بما يجعله ميسماً ومختبراً أثيريّاً لكل من يحاول السير فيه،

ماكبث … حصان الدم
وبالطريقة الحرّة والطليقة بممكنات وعيها وعلو أفاقها كما هي مساعي(جبار جودي)في رهان عمله الثاني في ذات هذا العام ونعني مسرحية (خيانة) المُعدة بكفاءة حذرة وباسلة في ذات ذلك الاعتدادٍ النوعي والخاص من قبله(أي جبار) والفنان (صلاح منسي) الذي شاركه الإعداد بمرايا التأليف والتوليف وسحب عوالم ومقتضيات الاعتناء التأريخي الفخم بروح و(ثيمة) النص الشكسبيريّ الخالص الذي تناهى وتمعّق موقفاً و سبراً لدواخل النفس البشريّة في معالجة موضوعة (الخيانة) بتواليات أنواعها وبما جعل منها مراجع ومصدات يمكن الغرف منها والعودة إليها، بعرض بارع ومحكم شهدته خشبة المسرح الوطني على مدار ثلاث ليال ابتداءً من 18 آب/2016 أوضحت من جديد قدرات استبيانات ومهارات فعل وتحليل(جودي) مثلما تماثل في حيثيات عمله السابق (حصان الدم)التي تم عرضها في بغداد يومي(9 و10 شباط الماضي)على نفس الخشبة،والذي جاء تمهيداً لعرضها في العاصمة تونس ضمن مهرجان(علي بن عيّاد) المسرحي بمناسبة مرور(400)عام على وفاة هذا الكاتب العظيم والفذ،وقد تمّ ذلك فعلا عبر أيامه التي امتدت من 12-19  شباط/2016.
فوّض ذلك العرض (أي حصان الدم) الذي لا يمكن فصله عن انشغالات عرض (خيانة) بتجليات وتداعيات واخزة لامست بجلاء، وتغلغلت -بعناية تركيز- في نسيج أوضاع الواقع العراقيّ الراهن إلا بحدود التطوّر الحاصل في بناء وحدات واختيار مشاهد وملامح من عدة مسرحيات للكاتب الذي ملأ الدنيا وشغل المعنيين بعظمة وعمق أفكاره، ذلك الذي خصّه ولخصه الباحث البولوني (يان كوت) بدراسة معمّقة حواها كتابه الأثير(شكسبير معاصرنا)منذ نصف قرن من الآن، من ثغرة قناعات وقدرات وبراعة لغة (السينوغرافيا) وتعميمات حريّة تعميد الصورة البلاغيّة للفعل التجسيدي المحض بحاصل تخوم معرفة خصبة، ومراسِ تراكمٍي  سعى وسار بخطوات تصعيد وبث شفراتٍ وتورٍيد علامات مُقترحة كبدائل حداثويّة ذات سمات موضوعة و تأريخيّة تناسلت وزهت  في رائعة (ماكبث)،مستخلصة إعادة دور  وأثر إغراءات مفعول مسحوق وغرائز التعّطش والتفكير في دس الخيانة وتوثيق القتل والتسبيح بالموت سبيلاً للفوز والطمع والشراهة المُدعمة ببلاغة وعي وثقة تركيز برعت بأنين اختصارها عبارة؛(ليست العبرة في أن تكون ملكاً … بل العبرةُ أن تكون آمناً).
خيانات الأمس.. مرايا الآن
لعل أي بحثٍ متفرّسٍ في ثنايا ومدعمات التفكير الجديّ لاي عمل شكسبيري سيوصل-حتماً- لحقيقة ونصاعة صوره أعمال الملحميّة وسعيها للتكامل في نهاية المطاف، ليس من حيث الوقوف عند عتبات ومهابات العمل بنوازعه الفنيّة والإبداعية،فحسب،بل-أيضاً- من حيث خصوصيته الفكريّة،كما لو أن (شكسبير) حين كان يتحدث،يؤشر ويكتشف عبر واقع وحقائق مجتمعه وطبيعة شخصياته في القرنين السادس عشر والسابع عشر-،إنما كان يلامس ويغور في أحداث أضحت تلامس واقعنا الراهن،في الكثير من أوجه التشابه  أو التقارب والتماهي-أحياناً- وما مرايا ما أراد أي يُرينا (جبار جودي) جوانب ومقاربات مما أشرنا وفق حدوس و رؤى تحليلات خلاصات ما ذهب إليه كتاب (يان كوت)-آنف الذكر- إلا مدخل لاستنارات ذهنية وتداخلات حداثوية ووقائع وأحداث يومية نحيا الكثير من تفاصيلها وآثار ظلالها الداميّة في عراق الأمس القريب وعراق الآن،عبر تلخيصات تفاعليّة استمالها مع كاتب نص مسرحيّة (خيانة) مستعيناً بذخائر عناياته الفائقة وبِدربته المستمرة والمشبّعة برائحة الضوء وتحوّلات توريد ضخه حين تتسامى وتصل صوب لغة تعبيريّة تنوء بسطوة (سينوغرافيا) حافلة الوعي، باهية الانسجام وتأثرات الصوت وتصويبات قدرات ممثلين محترفين ومنشغلين بتوحيد صفوف وعيهم ما بين(شكسبير)الذي تعلموا منه،وما بين (شكسبير) الذي يتخاطرون فيه، بالتعبير عما يجول في دواخلهم وأحلامهم، وحقيقة وجودهم،الحالي.
هنا… نجهد مرة أخرى في فحص ورصد ما أرادت وسعت إليه (خيانة) (جودي) حيال ارتهان مغامرة أخرى وتقصّد مدّ أواصر التوّغل المنهجي فيه،ومن تمهيد سبل السير في مفازاتِها عبر تتبع حفريات عدة نصوصٍ مهمة ومعروفة لمن تماسس مع تطلعات(وليم شكسبير)سواء أكان ذلك من خلال الدراسة الأكاديميّة،أو من خلال استجابات رغبات الانصياع الفكري والإغوائي لذلك الفضول المعرفيّ الباذخ الكشف والغور في  قيعان ودواخل النفس الإنسانيّة من لدن صانع هذه المعجزات المسرحيّة التي أضحت تراثاً عالمياً ثراً،إذ قطفا (جبار ومنسي) (ثيمات) إثارة أوجاع وتلمسات مقتربات معاصرة،من تلك النصوص المُنتحلة والبارعة في سير تتبع وكشف ملخصات من خواص(مآثر)الخيانة عبر تأريخها الدامي الذي قد يجاري ويحادد تاريخ البشريّة نفسها، في وقتٍ تماثل فيه المخرج ببراعة وصعوبة  اختيار رهط ٍمن ممثلين مُفكريّن تمرّسوا وذابوا وتماهوا مع أدوراهم،ربما حتى قبل قبولهم خوض هذه المغامرة معه بدءاً من (سوسن شكري/ دزدمونة)(خالد أحمد   مصطفى/ ماكبث)(مازن محمد مصطفى/ يوليوس قيصر)(بشرى سماعيل/ ليدي ماكبث)(طه المشهداني/ هاملت)(إياد الطائي/الملك لير)(ضياء الدين سامي/عطيل)وصولاً للممثلة الواعدة والجديرة بالإشادة(شروق الحسن) التي قامت بتجسيد بعض ملامح من شخصية(أوفيليا)، فضلا عن لواحق واستمالات مشاهد معاصرة وجمل لعبارات متداولة ويومية،شاكسها النص في مجمل مثمرات بحثه ومحاولات إسقاطه على واقع حياتنا الراهنة،وتلك مهمة عسيرة تشي بنواتج أعسر لمن يعي مظاهر الخوض في مثل هذه المغامرات،خاصة في الظروف المجحفة  والإنهماكات الصعبة،ان لم نقل المستحيلة التي يعيشها مسرحنا اليوم،والتي استطاع فريق هذا العمل تجاوز الكثير من مصداتها لصالح عرض،أمسك بتلابيب جمهور الحضور حتى نهاية العرض.

المصدر/ المدى

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *