حكاية مدينة بين ظل ونور لدلال مقاري باوش دمشق ومخيم اليرموك الجرح النازف من تاريخها وذاكرتها …. مونودراما في كولاج فني يطيّع الذاكرة تفاديا للنسيان….-عين على المسرح- بـقـلـم : عــبــاســيــة مــدونــي – ســيــدي بــلــعــبــاس – الــجــزائـــر

في ميلها الى الفنون التراثية وسعيا منها الى احياء أشكال الفرجة العربية القديمة ، وباعتبارها أول امرأة عربية مختصة أكاديميا بخيال الظل ، وعشقها لمجال الحكاية الخصب الغير التقليدي ، أرادت السيدة ” دلال مقاري باوش” حسب ما أدلت به من تصريحات لنا أكّدت مدى سعيها الى تقديم ما هو متاح ومطلوب لدى الجمهور ، وكيف تناضل لتقديم فكر وموقف ورواية بخصوصية عالية ، بخاصة وهي تستخدم تقنيات معاصرة في الروي وفي خيال الظل على حد سواء ، وبوجه خاص خيال الظل السينمائي الذي تسرد به حكايتها الدمشقية وتعرّي بها فجعها ووجعها العربي ، واستعراض ذاكرة مخيم اليرموك القطعة الدامية من تاريخها وذاكرتها .

هكذا حاكت خيوط روايتها في شكل مونودراما ، ليأتي نصها المسرحي الشعري تحت مسمى ” حكاية مدينة بين ظل ونور ” الذي تتقمّص شخصياته الأربع ” وفاء ” البطلة وزوجها ” علاء” وابنهما ” مراد” وشخصية ” الراوي ” الشاهد على ذاكرة الوطن مخافة التلاشي والاندثار ، وعلى مدار ساعة ونصف احتضن فضاء مسرح الحجرة الأوربي ” ريمسيس” بمدينة ” ناب يورغ ” البافارية العرض ليلة أمس وسط حضور جماهيري منقطع النظير لبّى الدعوة للاستمتاع بالعرض ، علما أنّ ربع مداخيل العرض لتلكم الأمسية خصصتها الفنانة ” دلال” لللاجئين السوريين
بمقاطعة ” بافاريا” .

العرض المسرحي في شكله المونودراما والذي تقدمه على مدار ثلاثة سنوات برعاية اتحاد الصداقة العربية الاوربية ، يستحضر قصة فنانة تشكيلية وشاعرة هاجرت من مخيم اليرموك في دمشق ، إلى اوروبا عبر السفن المهاجرة التي تعبر المتوسط باتجاه الشاطئ الحلم ، صدمة غرق القارب تهددها بالنسيان ، وإنقاذا لذاكرتها ذاكرة الوطن ، تبدأ الروي والرسم في الساحات ، توزع لوحاتها وقصصها على الجمهور ، لتبقى ذاكرة الوطن ، ويحمل أعباءها الجمهور الأوربي ، اعتمدت في عرضها شكل كولاج فني يجمع في جعبته عديد الفنون من رقص مسرحي تعبيري ، غناء ، خيال الظل ، الرسم ، الشعر في قالب الحكواتي كشكل تراثي لتناسبه والشكل المسرحي الذي اختارته لعرضها ” المونودراما” ، أين رأت أن عملية البوح والتوغل في متاهات الذاكرة وزواياها من مكان وأشخاص وأشياء يتناسب أكثر وحالة الممثل الواحد على الركح ، الذي يمثل بدوره الآخر عن طريق تعرية حزنه ، طموحاته وإرهاصاته ، ليأتي الكولاج حسب رأيها انتصارا لذاكرة وطن وشعب من حرائق الحروب ، وهذا الشكل والتزاوج في الأشكال الفنية تراه أكثر ملاءمة بل محاولة جديدة لمسرحة الشعر .

حكاية مدينة بين ظل ونور فرجة فنية جمعت شتى الفنون لتعبّر عن مرارة الوضع الراهن ، لتصدح الفنانة بوجعها بكلّ ألق ، بكلّ قناعة وبكلّ صرخة وأنين بين جنبات روحها ، لتجمع بين أسلوب الحكي والسرد وبين خيال الظل ، واستعرضت فجع الملحمة الدمشقية ومخيم اليرموك بلغة ألمانية ، لتتحاور مع الجمهور الحاضر بكلمات عربية مثل الذاكرة ، الوطن ليردّد معها بعض الأشعار ، هكذا حاكت الفنانة حكايتها من واقع مرير ، ليأتي الميلاد بعد مخاض عسير استنزف ذاكرتها وذكرياتها، ضحكاتها ودموعها ، ماضيها وحاضرها مناشدا مستقبلها بين وجع الذاكرة وأنين النور الذي يلاحقه كل انسان ، لتمنح المتفرج فرصة معايشة ذاك الألم لتحمله على الاحساس بالآخر ، على صحوة ضمائرهم واستنطاق انسانيتهم .

لتجعل من أدواتها الفنية ملاذها نحو ملامسة الوجع ، ملجأها لطرح ما يختلج بروحها من أمان وطموحات تحاكي الآخر بلغة مسرحية ، شعرية بكل عمق ، فالهجرة نحو المجهول وفي عمق لا قرار له يحمل تحديات أكبر وقدرا جديدا على المحك ، الذاكرة فيه سلاح ذو حدّين ، بين أن نكون أو لا نكون ، بين تحديد المصير أو التسليم بالواقع الراهن ، فتكون تلكم الفنون من رسم وشعر والحكي بديلا أمام مارد فقدانها ذاكرتها ، حفاظا عليها من التلاشي والتمزق والنسيان بين رياح المجهول وبين ما يستفزها في محاولة تحديد الصورة والنص التي من شأنها المحافظة على خصوبة تلكم الذاكرة .

و من أجواء العمل الشعرية تقول وفاء البطلة : ( أفتح الباب ،،، ذكرياتي مضطربة ، بين ماض أعيد إكتشافه ، وحاضر يتكثف في اللوحات ، لن أغلق الباب ورائي ، وهذا الفضاء أمامي ، ينكسر مبعثرا في جزئيات . ) ـ
وفي حوارها مع الجمهور ، حين تسلم إليه لوحاتها وكلماتها وحكاياتها ، ( ذاكرتي مدهونة بالحناء ، مرهقة بين الأزمنة ، مثقوبة ، تنز الآثار ، الروائح ، التفاصيل ، وصوت حبيبي ! ، . ـ على عتبة الدار ترمي برائحة التين ، تحرك الحنان المظلل ، بخشب الزيتون . )
سألتحق بالكلمات قبل ان تنضب ، لأعيد تشكيل ذاتي وذاكرتي نحو الإنعتاق !

وفي سؤالنا عن فحوى تركيزها على الجانب التراثي أكدت لنا الفنانة ” دلال مقاري باوش” أنها تعود الى التراث كي تستلهم منه خبرات وجذورا للحداثة ، وكونها تؤمن بفنون التراث العربية والتي تلقى نجاحا كبيرا في أوربا ، وأنها تتناولها بكفاءة في الدراما ثيرابي والسايكودراما لتفرض موقفا جماليا مغايرا وفلسفة عمل مغايرة بمعايير حداثية محضة لفنون تراثية .

حكاية مدينة بين ظل ونور حُبلَت بها الفنانة من دمشق …ولدمشق وتصرح أنها لم تستطع أن تنعزل عما يجري في بلادها التي أحبّت ، فهي تعيش تفاصيل الحدث بعمق رغم البعد الجغرافي ، تشعر بالانتماء والحب والاحساس العالي بالمسؤولية تّجاه دمشق وذاكرة الوطن ، ذاكرة الشعب الفلسطيني داخل الذاكرة السورية ، وتؤكد مدى وعيها بمسؤولية الفن في التغيير والتنمية وبناء الجسور بين البشر ، أين أرادت أن تقدم ذاكرة دمشقية وفلسطينية من مخيم اليرموك بصوت مغتربة يتلبّسها الحنين والانتماء الى حماية ذاكرة وطن قيد النسيان ، فحكايتها الدمشقية تراها رمزا لكل الحكايا العربية من دمار وألم واضطهاد ، ترى فيها الحكاية المتضمنة لوجع الجميع لكنها الآن عنوان لكل الحكايا.

عروبتها الممتدة وانتمائها الحضاري حاضر دوما لاستنهاض ذاكرة الأوطان عبر حقبات زمنية متباعدة ، أين سبق لها وقدمت اعمالا للجزائر مع طلابها بالأغواط وباتنة والجزائر العاصمة ، حيث قدمت حكايا الوطن ضمن ورشات باستحضار الهم الجزائري الحاضر بكثافة ، ومع ذلك تشرح لنا أن لكل زمن حكاية وحانت حكاية دمشق وجع الجميع دونما استثناء ، ولهذا الزمن المر حكاية اسمها دمشق ، اسمها مخيم اليرموك بلدها بالغربة .

أكّدت ذات المتحدثة أنّ محافظ المقاطعة ” بافاريا” التي احتضن مسرحها العرض أبدى تفاعلا وذرف دموعا وهو يتعاطف مع قصة طفل يموت جوعا بمخيم اليرموك ، فرأت في ذلك انتصارا للضمير وللإنسانية ، وفي سؤالنا هنا تحديدا هل نسترجي تعاطفا فعلا من خلال تقديمنا كذا عروض بمسارح أوربية وللأوربيين ؟؟ أكّدت لنا أنها لا تقدم عروضا لإرضاء أية فئة أو ثقافة ، بل تقدم جرعة فنية راقية جذورها تراثية وطموحاتها وأدواتها معاصرة ، فهي تمارس الفن لارضاء ذاتها أولا ، وقناعاتها وأسلوبية عملها وموقفها من دور الابداع ، لا تنظر بتاتا الى استعطاف أو ارضاء الأذواق الغربية أو العربية ، والجمهور الغربي الذي يستمتع بالفرجة المعاصرة لا ينتظر منها سوى متعة العرض وجودة الأداء والأسلوبية التي تجعله ينتعش دونما التورط في سؤال عن هوية الابداع والمبدع عربيا كان أم غربيا ، وبعد عرضها حظيت بأكبر تكريم من لدنّ مدير مسرح ” رامسيس” الذي أقرّ أنها تكتب تتويجا جديدا لمسرح الحجرة ، كونها خاطبت الضمير والمشاعر وحرضت العقول على معرفة الآخر والقبول به ، في عرض نقلت فيه ذاكرتها الى الاوربي الذي يحمل أعباء الدفاع عن هذه الذاكرة المعرضة للنسيان .

صفوة القول ، أن عرض ” حكاية مدينة بين ظل ونور ” استنطاق لذاكرة تناضل لضمان خصوبتها ، هوية تحارب بشراسة للابقاء على جذورها ، وطن ممزق إربا ، إربا لكنه صامد في وجه الصدمات ، قدر محتوم نقبله بكل رضا وقناعة مقابل تضحياتنا الجسام للحفاظ على حدود الانتماء ، نسيج حي من كولاج فني متناسق يحرّض الضمائر ويستنطق العقل الباطن للتمييز بين الألم والأمل ، انتصار للحب على حساب الكراهية ، حكايا متداخلة تصبّ في قالب ذاكرة ترافقنا الى آخر نبض .

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

This will close in 5 seconds