العملاق جعفر السعدي أبو المسرحيين وأستاذ القواعد

 

 

 

قد لا يعرف كثيرون ممن قادوا بلادهم إلى ما هي عليه اليوم، متّبعين نوازع وإشارات لا ترقى لكونها هويات، بأنهم بذلك، قادوا الهويات ذاتها إلى مسار صعب، وصحراء مقفرة، لن يكون من السهل العودة والنجاة منها، فبعد أن كانت مدينة مثل بغداد مركز إشعاع حضاري صنعه العرب بأيديهم ذات يوم، صارت بفضل دعوات مذهبية وعنصرية، مدينة غصب كما أطلق عليها ذات يوم أحد مشايخ “الوفاق”، في جريدة الوفاق التي كانت تطبع وتوزّع في دمشق، حين اعتبرها أرضا غصباً أخذت من أهلها في عهد خليفة للخلافة هو عمر بن الخطاب، فحرّمت تلك الفتوى الصلاة في بغداد لأنه لا تجوز الصلاة على مالٍ حرام.

ولكن بغداد لم تولد وتتوهّج لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، فوحدها المعرفة والحزمة الثقافية العملاقة التي يتمتع بها أهلها، كفيلة بإعادتها إلى لعب دورها التاريخي في المشرق والمغرب، ومن يتتبع مسار كل من خرج من بغداد سيدرك أنه لا خيار آخر، سوى استعادة تلك البوصلة، وإن مرّ حينٌ من الدهر، واحد من هؤلاء الذين ولدوا في بغداد كان جعفر السعدي، ومن لا يعرف جعفر السعدي؟

ولد السعدي في الكاظمية في العام 1921، وفي سن التاسعة أي في العام 1931 دخل المسرح أول مرة، متفرجاً مسحوراً بمسرحية “ذي قارـ ذيول صفين” على خشبة مسرح مدرسة المفيد الابتدائية في الكاظمية وكان النص للوزير والصحفي الرائد سلمان الصفواني، ثم رأى جعفر السعدي حقي الشبلي وشاهد مسرحيته “شهامة العرب”، ولم يفارقه هذا الشغف منذ تلك اللحظات حتى آخر هواء تنفسّه في العام 2005، حين توفي في حفل تكريمه في مؤتمر المثقفين العراقيين في قاعة المسرح الوطني وسط بغداد، لتحمل دورة المؤتمر اسم العملاق جعفر السعدي وتزيده تكريساً في وعي العرب.


الأعظمية البدايات

قال السعدي إن معظم عائلته كانت من رجال الدين، ولكنه في مرحلة دراسته المتوسطة في الأعظمية، تلقى مساعدة ودعماً معنوياً من قريبه الدكتور عبدالله الصراف، الذي عمل سكرتيراً لنقابة هواة التمثيل في العراق، ليحصل له على موافقات رسمية لتقديم أول عمل مسرحي له ضمن فرقة نقابة هواة التمثيل، ليبدأ في طريق التمثيل في مسرحية “مظالم الاستعمار” في العام 1936 في مسرح المدرسة فيقول السعدي عن تلك اللحظة: “اشتركت بعمل مسرحي عن الثورة الليبية ضد الاستعمار وعرضت هذه المسرحية لحساب مدرسة المفيد الأهلية ولاقت نجاحاً كبيراً وكان دوري في المسرحية النطق بجملة واحدة هـي: (سيدي.. بالباب رجل)”.

ولم يستغرق السعدي الكثير من الوقت ليقنع المشرفين على الحياة المسرحية في العراق في تلك الأيام، بإمكاناته الكبيرة رغم صغر سنه، فالتحق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، و تخرج منه في العام 1945، وفي العام 1940 كانت قد تأسست جمعية “بيوت الأمة” التي قامت بإنشاء فرقة مسرحية، تم تكليف السعدي بإدارتها، فبدأ بتقديم عدد من المسرحيات العربية والأجنبية مثل “نهر الجنون” لتوفيق الحكيم وغيرها.


فرقة المسرح الشعبي

كتب المؤرخ العراقي أحمد فياض المفرجي في كتابه “الحياة المسرحية في العراق” أن جعفر السعدي كان أحد الأعضاء البارزين والمؤسسين للفرقة الشعبية للتمثيل في العام 1948 وكانت باكورة إنتاج الفرقة هي مسرحية “شهداء الوطنية” التي أخرجها الفنانان إبراهيم جلال وعبد الجبار توفيق ولي، وكانت فرقته “المسرح الشعبي” واحدة من أبرز الفرق المسرحية الأهلية في العراق بعد أن استطاعت تقديم العديد من الأسماء البارزة في المشهد المسرحي بنتاجات مؤثرة كان من أبرزها ما قدمه عوني كرومي، وبدأ السعدي يحصل على لقب “الأب الروحي” للفرقة في سنواتها المديدة، لتتحول مع الأيام إلى مركز من مراكز التفاعل الثقافي في بغداد للشباب والمثقفين والمبدعين، وكان السعدي وقتها مخرجاً مشرفاً على عمل الفرقة ونصوصها، قال عن نفسه في تلك الفترة: “كنت أخفي في داخلي بركانا بشرياً، وكمّاً من التوتر المأهول كاد يحطمني لشدة ما أكتمه في محاولة للسيطرة عليه بقوة التجربة”، ولكن الفرقة التي استأجرت شقة في إحدى عمارات شارع السعدون وصفّت فيها مقاعد صغيرة، لتكون مسرحها الخاص الذي عرف باسم “مسرح الـ60 كرسي” ثم تم حظرها بعد سنة واحدة لأسباب سياسية واعتبارها ممن يحرضون على المظاهرات.

كتب عنه يوسف العاني: “جعفر السعدي، الأب المهيب، حامل تجربة فن التمثيل والقادر علي أن يكون (نغمة) عالية العزف عميقة الأثر خالية من (النشاز) بعيدة عن التشنج أو التكلف، خالصة الأثر المسرحي”

من الإخراج إلى التمثيل

حين وطّن السعدي تجربته بالإخراج، تحلّل من عقدة المعلّم، وبدأ بتعليم ذاته من خلال التجربة كما قال، فقرر الالتفات إلى التمثيل بنفسه، في المسرح والسينما، فكانت مشاركته في فيلم “عليا وعصام” أول فيلم في تاريخ السينما العراقية من إنتاج شركة أفلام بغداد المحدودة ومن إخراج الفرنسي أندريه شوتان، وتأليف أنور شاؤول في آذارـ مارس من العام 1947، عن قصة روميو وجوليت بعد تعريبها إلى اللغة البدوية المحلية، وكان الفيلم من بطولة إبراهيم جلال وجعفر السعدي وسليمة مراد وعزيمة توفيق وفوزي محسن الأمين، وعرض على صالة سينما روكسي في شارع الرشيد، وكانت كلفة إنتاجه 25 ألف دينار.

تم توظيف السعدي مدرساً للتمثيل في دار المعلمين في العام 1950، وهو أول من شغل هذا المنصب في العراق.

بعدها عمل مدرساً في معهد الفنون الجميلة حتى العام 1957، أما مشاركته السينمائية التالية فقد كانت في فيلم “ليلى في العراق” في العام 1949،عن نص وإخراج لأحمد كامل مرسي، وتمثيل عفيفة اسكندر، وعبدالله عزاوي، ومثّل السعدي في فيلم “سعيد أفندي” في العام 1955، الذي أنتجته شركة سومر التي أسسها عبد الجبار توفيق ولي وحقي الشبلي وإبراهيم جلال وجاسم العبودي، عن نص للكاتب العراقي إدمون صبري أعدّه يوسف العاني، وكان من إخراج كاميران حسني، ولكن الرقابة منعت الفيلم في عامي 1956 ـ 1957، ثم تم الإفراج عنه، وكان من بطولة يوسف العاني، وتتالت الأعمال التي شارك فيها السعدي، بين السينما والمسرح وبعدها التلفزيون.


أستاذ الأجيال

كل من وقف على خشبة مسرح في العراق والعالم العربي، يحتفظ بقسط من الوفاء لجعفر السعدي، فغالبية هؤلاء يعتبرونه أستاذ فن التمثيل، مع زملائه من جيل جاسم العبودي وإبراهيم جلال وسامي عبدالحميد وبدري حسون فريد ويوسف العاني، كان السعدي يقول: “جل سعادتي أن يقف أمامي على خشبة المسرح أحد طلبتي وهو يلعب دور البطولة، ويكون أهم مني، إذ تلتمع عيناي فرحا وأنا احصد ما زرعته في هذا الطالب أو ذاك من علم وصبرت عليه حتى وقف ندا لي فوق الخشبة”.

أعيد انتخاب جعفر السعدي سكرتيراً للفرقة الشعبية للتمثيل التي تم إلغاء إجازتها بموجب المرسوم 19 لسنة 1954 مع عشرات من الأحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية والفنية والصحف الوطنية، ليبدأ السعدي في الالتفات إلى حياته الخاصة، فتزوج في العام 1956 من السيدة ماجدة عبدالقادر (ماجدة السعدي) الفنانة المعروفة ثم حصل السعدي على مقعد في البعثة العلمية إلى الولايات المتحدة الأميركية للحصول على شهادة الماجستير في الإخراج المسرحي، من معهد الفنون في شيكاغو ويعود إلى العراق في العام 1961، ويجري تعيينه مدرساً لمادة الإخراج والتمثيل في معهد الفنون الجميلة.

عاد حينها إلى فرقته من جديد، وأسس في العام 1963 “جماعة سمير أميس للتمثيل”، لتستمر حتى العام 1964، لينتقل بعدها إلى التدريس في أكاديمية الفنون الجميلة التابعة لوزارة المعارف، وتم اختياره مع يوسف العاني كعضوين في لجنة اليونسكو في العام 1969 حيث عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها في القاهرة لاختيار أحسن كاتب مسرحي من الشباب في العام 1974، ثم اختير جعفر السعدي رئيساً لقسم الفنون الجميلة في أكاديمية الفنون وكان هذا القسم يضم فروع المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة والتربية الفنية وبقي في هذا المنصب حتى العام 1981.

قال جعفر السعدي عن لحظة ولعه الأول بالمسرح: “اشتركت بعمل مسرحي عن الثورة الليبية ضد الاستعمار وعرضت هذه المسرحية لحساب مدرسة المفيد الأهلية ولاقت نجاحا كبيرا وكان دوري في المسرحية النطق بجملة واحدة هـي: (سيدي.. بالباب رجل)” ومن تلك الجملة أصبح السعدي أستاذا للأجيال المسرحية العراقية والعربية

الذئب وعيون المدينة

صبغ هذا العمل ذاكرة العراقيين والمشاهدين العرب، في مناخها الروائي المليء بالتفاصيل والأحداث ومواكبة الزمن، وكان دور جعفر السعدي (عبدالله أفندي) فيه هو الأكثر تركاً للأثر، فلم تغب عبارته الشهيرة “غريب أمور عجيب قضية” منذ سمعها المشاهدون من فمه أول مرة حتى هذه اللحظة، وكانت بداية الثمانينات علامة فارقة في تغير الوعي عند العرب عموماً، بما حملت من أحداث في خواصر الأمّة، “الذئب وعيون المدينة” و”النسر وعيون المدينة” عمل واحد تم إكماله بثلاثية، من تأليف عادل كاظم وإخراج إبراهيم عبدالجليل، في مناخ المحلة البغدادية في زمن بغداد القديم من منتصف القرن العشرين، وكان صورة عن العراق الحديث المدني الذي في خيال العرب، والذي جرت محاولة تحطيمه في العقود التالية. يقول السعدي عن تلك التجربة: “أحس بمسؤولية كبيرة عندما أُمثل أَيّ شخصية، فشخصية عبداللّه السلمان على الرغم من أنها شخصية فضولية لكن الجمهور أحبها كثيراً وكذلك شخصيتي في برنامج (أحلى الكلام) و(مدينة القواعد) فدوري في هذين البرنامجين كان له صدى كبير في الوطن العربي عموماً”.


مدينة القواعد

قليلاً ما يخطر ببال جهة إنتاج، حتى لو كانت حكومية أن أن تغامر بتكاليف مسلسل تلفزيوني طويل، للحديث عن اللغة العربية، ولكن العراق فعل، وكان السعدي هو الحامل، وكانت حلقات برنامج “مدينة القواعد” رفيقاً حميماً لأجيال نشأت وتعلّمت ما كان يتحاور حوله (أستاذ القواعد) جعفر السعدي مع أمل حسين (الآنسة قواعد)، ولا ينسى العرب عبارة “وبينما كان أستاذ القواعد غارقاً في النوم… شعر بأنه يطير على جناح الأحلام إلى مدينة القواعد”، حيث كان السعدي يذهب في رحلة خيالية إلى مدينة اللغة العربية، التي تختلط فيها الحداثة مع التراث والأًصالة.


الأب المهيب

كتب يوسف العاني: “جعفر السعدي، الأب المهيب، حامل تجربة فن التمثيل والقادر على أن يكون (نغمة) عالية العزف عميقة الأثر خالية من (النشاز) بعيدة عن التشنج أو التكلف، خالصة الأثر المسرحي بينما كان الشائع آنذاك في أن تكون مبالغا بأدائك متكلفا ومغاليا بتعبيرك، فتحول الشخصية التي تؤديها إلى نموذج خال من الإقناع بعيد عن اقتناع المشاهد بها، جعفر السعدي في السينما، كما المسرح، ليس سهلاً في قناعته في ما يؤدي أو يقدم، ممثلاً أو مخرجاً، فبعد سعيد أفندي الذي عرض عام 1957، لم يشارك إلا في فيلم (الجابي) الذي أنتجته دائرة السينما والمسرح، من إخراج جعفر علي، السينمائي المثقف عام 1968، تقدم بتواضع ومثل الدور بهدوء ورقة وحميمية عالية ومعه زميله أسعد عبدالرزاق وآخرون من ممثلي مسرحنا العراقي ليرسم في الذهن صورة ذاك العراقي الطيب بطريقته السلسة والمؤثرة والتي لا يمكن للمشاهد إلا أن يعشقها.. ومثّل بعد ذلك في فيلم (المسألة الكبرى) عام 1983، وحين تقدم محمد شكري جميل يدعوه لتقديم دور متواضع في الملك غازي -عام 1993- دور السفير الروسي، قبل، وملأ الشخصية، وتجاوز متطلباتها بكل احترام وكفاءة”.

وباحتفاظ الذاكرة الجمعية بتراث شخصيات من طراز جعفر السعدي، تحافظ بغداد على مكانتها في التنوير العربي والإنساني، فالبغدادي في ذهن الجمهور العربي هو جعفر السعدي لا أقل ولا أكثر.

 

http://elbashayeronline.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *