مسرحية «المحاكمة» والحق فى الخطأ.. العرض ينتصر لحرية التعبير عن الرأى.. ويكشف تناقضات المتاجرين بالدين.. والممثلون يبهرون الجمهور بالأداء.. وطارق الدويرى يستحق جائزة «القومى للمسرح»

 

فى مقالة بعنوان «حق الخطأ» نُشرت عام 1955، يدافع عميد الأدب العربى طه حسين عن حق الإنسان فى ارتكاب ما يمكن تسميته بـ«الخطأ غير المقرون بإيذاء الآخرين»، معتبرًا ذلك حقًا، الفكرة ذاتها تطرحها مسرحية «المحاكمة» للمخرج طارق الدويرى، فى وصلة مسرحية للدفاع عن حرية التفكير والاعتقاد والتعبير عنهما، بعيدًا عن مدى صحة وخطأ الاعتقاد. لم يكن الربط السابق بين عميد الأدب وعرض الدويرى، من إنتاج فرقة المسرح القومى التابعة للبيت الفنى للمسرح، مجانيًا، فطوال العرض كانت صورة طه حسين وحادثة محاكمته 1926، إثر تأليفه كتاب «فى الشعر الجاهلى» حاضرة فى مخيلتى، خاصة أن العرض يناقش القضية القديمة – الجديدة، الصراع بين المنقول والمعقول، منتصرًا لحرية التفكير والتعبير عن الرأى مهما كان مخالفًا للموروث الثقافى، بل يصل الأمر إلى ترديد عبارة «حسين» ذاتها فى نهاية العمل «الحق فى الخطأ». يحكى العرض، المأخوذ عن«ميراث الريح» للكاتبين الأمريكيين جيروم لورانس وروبرت لى، قصة محاكمة مدرس قرأ على تلاميذه نصًا خارج المقرر المدرسى، ويخالف رؤية الكتاب المقدس، حول بدء الخلق، مما يثير غضب أولياء الأمور الذى يطالبون بالقصاص من «الخارج عن النص الإلهى»، ومرحبين بمحام يتبنى وجهة نظرهم، ويتاجر بها أحيانًا، يلقب بـ«المحامى الفاضل» و«محام الناس العاديين»، فيما يترافع عن المتهم «السيد الموقر» مناصر حريات الفكر والتعبير. هذا، وسبق أن تُرجم النص الأصلى للعرض إلى العربية مرتين، أبرزهما عام 1961 لصلاح عز الدين، وبنى المؤلفان روايتهما على حادث محاكمة مدرس أمريكى بتهمة الزندقة، بعد تدريسه نظرية داروين لتلاميذ إحدى بلدات ولاية «تنيسى» عام 1925، وهى القضية المشتهرة بـ«محاكمة القرد» المحكوم فيها بالغرامة بـ100 دولار! فيما يمتلأ تاريخنا الحديث والقديم بالمحاكمات الفكرية، أبرزها ما شهده القرن الماضى، من محاكمة عميد الأدب العربى، ومساءلة رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وتكفير نصر حامد أبو زيد بعد دعوى من عبد الصبور شاهين، قبل أن يشرب الأخير من الكأس نفسها. فى الجزء الثانى من العرض، المنتهى مساء اليوم الأحد، يدخل المحامان حلبة صراع – منافسة، ويتحول الحوار إلى جولات ملاكمة، يصوب «السيد الموقر» خلالها لكماته لـ«المحامى الفاضل»، محققًا الأول انتصارًا سجاليًا أثناء المحاججة، وكاشفًا عن زيف ادعاءات الآخر، وهشاشة منطقه، وضعف حجته، وعدم ملاءمتها للعصر. ساعد فى إظهار ذلك، أداء أشرف عبد الغفور المتمكن لشخصية المحامى الانتهازى/ السلطوى، ذى التفكير الرجعى المزدرى للمرأة، حتى وإن كانت زوجته، ناهيك عن الجانب النذل فى شخصيته حين يطلب من صديقة المدرس الشهادة ضده. حين يموت المحامى الفاضل بعد انهزامه أمام «عقل السيد الموقر» يحزن الأخير للفراق، ما يثير اندهاش وتعجُب صحافى معارض يناصر حريات التعبير ويناصب الخصومة للسلطة ومحاميها، ويكشف الحوار بينهما عن ازدراء الصحافى لرؤية ومعتقدات المحامى الفاضل، فيعترض «الموقر»، مؤكدًا رفضه لازدراء أى معتقد، ومشددًا على حرية الخصم/ الآخر فى التفكير والتعبير عن رأيه، أى الحق فى «أن تكون على خطأ» اعتمادًا على النسبية وعدم احتكار أحد للحقيقة المطلقة. «العاديون» فى «المحاكمة» بدوا بصورة تقليدية، نُسخًا مكررة من محاكمات أخرى، كـ«مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور أو «جريمة قتل بالكاتدرائية» لـ«ت. إس. إليوت» مثلاً، حيث يقفون فى صف الرجعية، مرددين عبارات التشدد دون وعى، إلى أن يُحدث الدويرى تحولًا نسبيًا يُحسب له، فبعد ترديد عبارات «ما ورثته عن أبى هو خير لى وكفاية» سخر الناس أنفسهم من المحامى الفاضل، ومن إجاباته عن أسئلة من سبق وصوفه بـ«الشيطان»، ومع ذلك تدين هيئة المحلفين «المتهم»! وتجمع المسرحية نخبة من النجوم، تميز أداؤهم فى تجسيد الشخصيات، دون أن يصل إلى الميلودرامية، السبيل الأول لإقناع الجمهور بجدية العرض، أبرزهم النجم أشرف عبد الغفور الفائز بجائزة أفضل ممثل دور أول بالدورة الأخيرة لمهرجان المسرح القومى، وحمادة شوشة، عماد الراهب، سامح فكرى، سلمى الديب، مصطفى طلبة، زين نصار، عادل خلف، شرين المنسى، وفاء عبده، وعبد العزيز محمد، كما فاز العرض فى المهرجان ذاته بجائزة أفضل موسيقى تامر كروان، جائزة أفضل ديكور “مناصفة” محمد جابر، وأفضل مخرج الذى بدا مولعًا باستخدام الإضاءة، كما حرص على الحوار المباشر فى بعض المواضع، وتوصيل الرسالة الفكرية والتأكيد عليها، فغلبت الخطابية والمباشرة واللغة المقالية الجافة أحيانًا. يقول بابلو بيكاسو «الفن هو الكذبة التى تمكننا من إدراك الحقيقة»، وخلال عرض «المحاكمة» قدم لنا المخرج طارق الدويرى تخييلًا فنيًا راقيًا، يُعيد للمسرح المصرى بهاءه، كما يجذب الجمهور مرة أخرى لصالات العرض، ليضع أيدينا فى الوقت ذاته على «حقيقة واقعنا المر» المنتمى شكلًا إلى «الحداثة» وفعليًا إلى عصور سحيقة!!

 

 

تحليل يكتبه مدحت صفوت
http://www1.youm7.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *