المشهد المسرحي المفقود

نشر في ملحق شرفات العدد الفائت رقم 378 بقلم الزميل عاصم الشيدي عن المشهد العماني المسرحي المفقود كان في غاية الدقة. وافتقادنا للمشهد المسرحي العماني وللعرض المسرحي العربي الموازي في عمان، لا يقتصر على خمول النشاط الثقافي لوحده، بل يشمل الشعور بالفقد كافة مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية في عمان.


فعلى الرغم من وجود عدد من مؤسسات المجتمع المدني الناشطة، وافتتاح صالات للفنون التشكيلية والبصرية والأدائية، ووجود مهرجان مسرحي وسينمائي وغنائي يقام كل سنتين أو أقل لم يُشكل في تقديري ذلك التدفق والشعور بحيوية الحركة الثقافية بإطلاق، في جميع نواحي الحياة، ويبدو أن عواملَ كثيرة تتداخل لتحييد هذا الفعل؛ كالمناخ والمسافات الطويلة التي صارت تغرق بالزحمة، وإنّ كان لا يعول على هذا السبب كثيرا، إضافة إلى أننا كمجتمعات لم يتأسس فيها عادة اللقاءات الثقافية في المقاهي العامة إلا ضمن مواسم محددة؛ ففي شهر رمضان المبارك تزدحم المقاهي والمولات التجارية بالحركة وبالتدافع، في حين تتعطل الحياة الثقافية في النادي الثقافي وفي بعض الجمعيات. وما يميز العواصم العربية الكبيرة ذات الانفجار الديموغرافي المرعب كدمشق والقاهرة وبيروت وعمّان والرباط وتونس، أن شوارعها وبيوتها قد فرضت عليها نمطا من انتشار أماكن الثقافة كالأكشاك والمكتبات الموزعة على جوانب الطرق والزنقات الداخلية والمسارح وغيرها، كل هذه العناصر فرضت شكلا من أشكال الحياة الثقافية والطقسية المحببة إلى المهتمين بالقراءة وبالكتابة وبالغناء وبالرسم. لقد أدى القاعدة العريضة من البشر إلى توجيه الحياة الثقافية في تلك المدن الكبيرة بالمعنى الواسع الذي نتخيله كلما ذكرنا مدن تلك العواصم. ولا يمكن بطبيعة الحال أن ننسى طابع الاستعمار الأجنبي وما فرضه من قضايا واشتغالات لامست المسرح والحياة الاجتماعية والفكرية، وبالتالي فرضت على المسرحيين العرب التأكيد على الدور التنويري للمسرح وفضاءاته النقدية والجمالية، على مستوى الكتابة والإخراج معا.
يذكر عدد من الباحثين والنقاد المغاربة المؤرخين للحركة المسرحية في بلاد المغرب أمثال الباحث محمّد الكغّاط، والناقد عبد الرحمن بن زيدان، والناقد حسن المنيعي كيف أن حبّ المسرح في معناه العميق في المغرب يرجع لأسباب سياسية، إذ تبلور ذلك الحبّ وترسخ في جيل الرواد الذين ناهضوا الاستعمار لتأسيس المسرح إبّان عهد الحماية الفرنسية، ثم تابعت تأسيسه الأجيال اللاحقة في عهد الاستقلال، ليصل الباحث المنيعي بعد دراسات معمّقة للحركة المسرحية المدنيّة في المغرب إلى استنتاج يقول فيه ما يلي: “يبدو من الأكيد أن تطور المسرح المغربي لم يكن ناتجا عن اقتباس تراثنا الفلكلوري الذي يمتاز بقيمه الخاصة وإنما بفعل عاملين: أولهما مرور الفرق العربية التي حملت الشباب على تقليد أشكال المسرح المصري؛ وثانيهما الشعور السياسي أو الوطني الذي طبع فترة الاحتلال” ولهذا الاستنتاج وجاهته وصرامته معا لتوجيه أنظارنا وأنظار الباحثين الشباب الذين واصلوا في المغرب التحرك من حيث توقف حسن المنيعي عنده، وبحثوا فيه وفي تطويره، وهذا ما وجدناه في أبحاث الناقد الأنثربولوجي حسن بحراوي الذي أنجز دراسة رصينة في الظواهر التراثية وطقوسنا الاحتفالية بتأليفه لكتاب (المسرح المغربي بحث في الأصول السوسيوثقافية) وأيضا أبحاث المخرج المسرحي عبد المجيد شكير الذي ركز على جماليات الكتابة الدرامية والاشغال على الرُّكح، وغيرهم من الباحثين الذين طبعوا اشتغالاتهم البحثية المعمّقة في إضاءة وتحليل وتفسير مفردات المختبر المسرحي ومفهوم المتعاليات الميتانصية المحاطة بالكتاب وغيرها من الاشتغالات الركحيّة. فأين نحن ومسرحنا العماني من الاشتغال الحقيقي والموضوعي؟ وأين هي الأبحاث النقدية الرصينة المعمّقة؟ وأين هي سيّر الرواد التي لم تظهر إلى اليوم في كتاب أو في دراسة انطباعية محترمة؟ وأين هي المجلة المتخصصة في الفن المسرحي؟ وإلى متى سنظل نتشدق ببعض الجمل المعلّبة كقولنا إن المسرح هو حاضرة الدول والرمز الدال على حيوية الفكر فيها، وعمق الواقع الثقافي عندنا لا يقترب من جوهر الحقيقة في شيء.
جميعنا نعرف أن المسرح هو حاضر الشعوب وهو الذاكرة، وقديما قال الحكماء إن بلادا بلا مسرح فهي بلا ذاكرة، وبلا شعب. “والمسرح فعل حقيقي في بناء أي مجتمع.. والمسرح في كل البلدان هو المعول عليه لإفراز مجتمع مثقف ومتمسك بمستواه الحضاري العميق والعارف بقضاياه وقضايا أمته، والبعيد عن التسطيح والتعليب لكل المفردات الثقافية التي تكوّن بناء أي مجتمع أو حضارة”، والذين يؤمنون بالدور التنويري للمسرح في مجمل قطاعات الحياة، وفي بناء المجتمعات والرقي بالدول، يعرفون جيدا أن هذا الفن يعتمد على عناصر أساسية لا يمكن التغافل عن شرطيتها وظرفيتها التي تدخل في تكوينها وتفعيلها والدفع بها إلى منابر الحياة والتحضر. فكيف يمكن أن يجري الحديث عن المشهد المسرحي العماني في ظل عدم الكلام عن الكتابة المسرحية. من مقولات جاك كوبو الخالدة “المسرح يتلخص في كتابة نص ثم نقله إلى الخشبة.” وكتب الشاعر لوركا مرة يقول: “إن مسرحا لا يترجم مطامع المجتمع وتاريخه واللون الأصلي لمظهره الخارجي والباطني لا يغدو مسرحا حقيقيا بل لا يمكنه أن يكون سوى قاعة للتسلية أو مجرد مكان نمارس فيه ذلك الشيء السخيف الذي نسميه ضياع الوقت!”
فالمسرح كجنس أدبي هو فعل دال على الفرجة أو على شكل من أشكالها المتنوعة في حياتنا اليومية كالطقوس وفعاليات الفرح والموت. وما تجمّع قوم على أداء معين إلاّ وتمسرحوا! وهذا شق هام لا نوليه العناية والتركيز. فكم من الكتّاب الشباب الذين يكتبون نصوصا مسرحية مغرّبة وترميزية يجهلون خصائص التغريب والترميز ومنشأهما الفكري والنقدي والسياسي والاجتماعي والجمالي! وكم من نصوص يغرق أصحابها في لعبة التجريد ويتأثر المخرجون بها فيعتقدون أنهم يجرّبون ويبدعون وهم أبعد ما يكونون عن التجريب والإبداع. أتذكر حادثة طريفة مع فنانة تشكيلية كانت تكلمني عن نفسها وبيئتها وثقافتها فأدهشتني حينما قالت أنها من فرط إعجابها بالسريالية قد أحبتها، وأنها تنوي التخصص في هذا الفن. ولما سألتها من أين هي في عُمان؟ أجابت من منح! هناك في منح حيث النخيل وأشجار الغاف والوديان! الإعجاب بفن أو اتجاه فكري معين ليس عيبا على الفنان، والتقليد خطوة أولى على طريق الاحتكاك والابتكار، لكن أن لا يكون وراء هذا الاتجاه قراءة ممنهجة وموقفا معينا، فهذا غير مفهوم على الإطلاق! وأتذكر لما سألتها ما السريالية؟ وما موقفها الفكري منها؟ لم تجد ما تقوله سوى أن جاوبتني بأنها “شوية هلوسات وشخابيط! وهذه الحادثة تكررت مع فنانة تشكيلية معروفة حينما كانت تستعد للمشاركة في ملتقى خليجي بالكويت وسألتها ما اللوحات الجديدة التي ستشاركين بها؟ أجابت: شوية شخابيط سأرسمها بالليل وأشحنها لاحقا!!، وقياسا على هذا الطرح يجري مع بعض الكتّاب الشباب هذا التذاكي والاستغفال عن الكتابة المسرحية وجدلها الراهن. والكلام عن المشهد المسرحي المفقود يجرنا جرًا إلى الحديث عن غياب الخشبة. هذا البطل التراجيدي العظيم! هذا النشيد الأزلي! ولا يأتي ذكر غيابها إلا مشحونا بالسخط والغضب وبعاصفة من الكلام العنيف، لدرجة صار الكلام عن غيابها يحولنا إلى أناس أسطوريين خارجين عن المجال الطبيعي، فقد فقدت الخشبة حلاوة الكلام عنها لدرجة صارت أشبه بالنكتة الباهتة! فمن الذي أوصلنا إلى هذا السخط؟ ومن المسؤول عن تجاذب نكتة عمرها الافتراضي قد تجاوز الزمن المعقول؟
عبر التاريخ العظيم الذي أرّخه المؤرخون للمسرح في الحضارات اليونانية وفي القرون الوسطى وفي القرنين السادس عشر والثامن عشر تطورت دلالات معنى كلمة المسرح، ولكنها توقفت لتؤتم عندنا! كأن المسرح ابن غير شرعي كل من هب ودب وكتب ومثّل وتكرّش وتعّنتر وتتّفه وتسذّج وتسّقط وقدم ندوة هزيلة، ودُعي لمهرجان قام يُنظِّر للحركة المسرحية وهمومها التاريخية وشغافها وفضاءاتها، ثم أغلق بابه عليه وألقى بعقده إلى الصحافة والمنتديات!
في تلك الأثناء من الوقت وفي اللحظة التي ما زلنا نتشدق فيها بالمراسيم وبالدعم اليسير (فراطة) يشهد المسرح المتحضر نقاشا محموما عن علاقته في ظل العالم المتغير بالفنون البصرية الأخرى، وبالفنون التشكيلية، بوسائط الميديا، كما تشهد الكتابة المسرحية اشتغالات مبتكرة أو مجددة للقديم فصارت تعتمدُ على التركيب وعلى اليومي والهزلي والرفيع، وليس على نص المؤلف، ولغة الإخراج أيضا لها حظها إذّ تشهد قفزة في استعادة ستانسلافسكي وبريخت وبروك مجددا، في حين لم نصل إلى اليوم في مسرحنا العماني إلى حوار بسيط نتجاذب فيه أطراف الحديث النقدي المعمّق عن تلك التقاطعات، بل يرتكز الحديث عن افتقارالمسرحيين إما إلى الورش المسرحية المتخصصة كتّابا ومخرجين وسينوغرافيين وممثلين، وعن غياب جمعية المسرحيين التي أثبت الواقع فشلها في جمع لُحمة المسرحيين، وبات واضحا أن رئاسة هذه الجميعة لن تقوم لها قائمة بين الجمعيات الناشطة إلاّ إذا أدارها رجل قيادي يملك خبرة في فنون الإدارة والتفاوض والتعامل، ويحظى بمحبة واحترام من جميع المسرحيين، حتى يتفرغ المسرحيون الجادون للعمل المسرحي. والكلام عن المشهد المسرحي المفقود يشدنا شدًا إلى التوجيهات السامية بتشكيل لجنة عليا لتطوير الدراما والمسرح والتي استبشرنا وتفاءلنا بها خيرا، فأين انتهت اللجنة العليا لتطوير المسرح؟ وبماذا جاءت؟ ومن نكلم؟؟

 

آمنة الربيع:–http://main.omandaily.om/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *