مسرحية “خوذة العريف غضبان” ومرجعيات الكاتب الفنية

 

يُطالعنا هذا النص المسرحي الذي ينتمي لجنس المونودراما* للروائي والكاتب المسرحي العراقي

( تحسين كرمياني ) , مُتخذاً من ” الخوذة العسكرية ” شخصية محورية , لأن بطل المسرحية هي هذه الخوذة التي تذكرنا بالحرب ، بوصفها الشاهدة على ما جرى فيها ، وناطقة صادقة القول ,

وُهنا نجد هذا العنوان لهُ القدرة على إغراء القارئ , نحو قراءة النص كونه يحمل العديد من الدلالات التي تسهم في التعريف بخطاب النص ولأن العنوان هو دلالة قصدية يريد ايصالها الكاتب لنا , نجد أن العنوان في هذا النص هو من العناوين المهيمنة وهي المركز البؤري للعمل الفني , فدالة العنوان , مغايرة لجأ اليها ( كرمياني )في تسمية المونودراما التي غالباً ما يكون البطل فيها إنسان . فالشخصية الرئيسية في المسرحية هي ( الخوذة ) , فمن خلالها يتم التعرف الى حجم المأساة التي تخلفها الحروب , وهي إدانة واضحة من قبل الكاتب لها :

الخوذة : صبرت صبر نساء هذه البلاد , وهن يقدمن فلذات أكبادهن قرابين

رخيصة لحروب رعناء , تمجيداً وتعظيماً لأصنام بشرية بغيضة ,

انتظرت حتى … حتى ظفرت , ارجو ان.. ان .. اننننننننن..

حيث مازالت آثار الحروب لم تتم إزالتها , وحتى مخلفاتها , ما زالت باقية , تدل على وحشية الحرب , وبالتالي فأن مشهد وجود مخلفات حربية كبقايا الملاجئ المهدمة وبقايا السواتر الترابية وبقايا العتاد الحربي كالمقذوفات وهياكل السيارات العسكرية المحطمة وأحذية الجنود المتهرئة , وهياكل الدبابات , يعد مألوفاً خصوصاً في المناطق الحدودية التي شهدت وقائع تلك الحروب , وهي أحدى مرجعيات تحسين كرمياني الفنية , التي شكلت مرتكزاً لتشكل هذا النص , خصوصاً , عندما كان جندياً , وكذلك يوميات عملهِ في إعادة إعمار المنشآت النفطية المتضررة بفعل الحرب والقريبة جغرافياً , من هذه المواقع .

ويؤكد كرمياني في هذا النص على العذابات النفسية الناجمة عن انتظار الخلاص وتغيير الواقع نحو الأفضل , وهي مرجعية فنية نجدها مشتركة في جميع نصوصهِ المسرحية :

الخوذة : لم القنوط في بلاد قررت أن لا تنام , بلاد تعاهدت أن تظل تلهث , ان .. أن .. أن ..

آه ..بلاد آه .. يا لها من بلاد .. البلاد قدّت من حركة , و.. يقظة , و..

اللهاث من غير بوصلة هادية او .. او .. او .. راشدة .. لافرق ..

ان تجربة تحسين كرمياني المسرحية تندرج ضمن تجارب الكُتاب المسرحيين ، ممن تبلورت مرجعياتهم الفكرية والفنية بفعل الحروب التي جرت في العقدين الثمانيني والتسعيني , وما تلاها من مآسي حصلت على أرض الوطن حيث وجدت هذهِ الأحداث اليومية بفعل معايشة كرمياني لها بوصفها خزيناً معرفياً , وجوداً ظاهراً داخل متون نصوصه المسرحية بالتماهي مع ذاكرة الشعب الجمعية المُكتنزة ألماً .

فنص كرمياني , يقترب من هذا التماثل بوصفه يؤكد مرجعية الكاتب بجميع أنساقها المُستلة من الواقع اليومي الذي عاشه حيثُ نجد أن الأسلوب القصصي السردي , هو الاسلوب المتبع في بناء هذا النص , حيث استفاد كرمياني من مرجعيتهِ الفنية بوصفه قاصاً , في تشكيل هذا النص المسرحي , لذا فأن الكاتب قد لجأ الى تبني هذا الأسلوب , لانطوائه على عدد من العناصر , منها عنصر التشويق , والإثارة , والبساطة في طرح موضوعتهِ الأساس , رُغم أن الشخصية المسرحية هُنا , هي ( الخوذة ) :

الخوذة : ….. الناس تمشي من غير قانون , لا تفكر في الخطوة التالية ,

أهواءهم تقود أقدامهم لا رؤوسهم , ضربات تشبه الى حدٍ ما ايقاع

موسيقى منتظم , ضربات ليست كسابقاتها , لا بشر رأيت يمتلك هذه

النغمة المنتظمة , البشر يتغيرون وفق ايقاع الزمن المتحرك , وفق

الحاجة الملحة , بشر يومنا هذا لا نظام له , يلهث وفق متطلبات

مزاجه , او منساقاً تحت ضغوطات المتنفذين والخانقين رقاب الناس

ويوجه كرمياني سهام نقدهِ الى الشخصيات الانتهازية التي يمثلها ( العريف غضبان ) , أول من ارتدى الخوذة , وهي محاولة من الكاتب لتعرية سلوك تلك الشخصيات التي ما تستفيد وتنتفع من شيء , إلا وتركتهِ :

الخوذة : أنت مثل ابن العريف غضبان , حردان الحقير , غضب الدنيا

تهبط على راسه الكبير السكير , لا فرق بينكما … .

لقد جعل كرمياني من الخوذة التي تتموضع وسط مكان مهجور , هي الشاهدة الناطقة على ما جرى من يوم صناعتها كأداة حربية إلى يوم حرقها وإذابتها لتساعد في تشكيل القضبان الحديدية لأن الحرب انتهت , ومن ثم ليس هناك حاجة لاستخدام أدواتها مرة ثانية لذا فان عملية البحث من قبل الناس عن أي شيء متروك كي تحيله إلى حالات أخرى , وأشياء مفيدة حتى لو كان قد استخدم كأداة حربية , هي رؤى فكرية استنبطها الكاتب من مشاهداته اليومية للأحداث وقام بإدخالها في هذا النص فعودة الخوذة الى العريف ( غضبان ) وابنه ( حردان ) لكي يتم ألقاؤها في فرن تذويب الحديد هي اسقاط فكري واضح من قبل الكاتب كدلالة على دورة الحياة وهيي مرجعيات فكرية وفنية وظفها كرمياني الذي يشير الى انتفاء الحاجة لواقيات الرؤوس بعد انتهاء الحرب , والحاجة تقتضي الى أعادة البناء , فدالة تذويب الخوذة من أجل إنتاج القضبان الحديدية للإشارة الى متطلبات الحياة الجديدة والقيام بالبناء الفعلي وهي مرجعية فكرية وفنية استفاد منها الكاتب في تشكيل هذا النص , الذي نجد إسقاطات الحرب واضحة فيه وهي من المرجعيات الفكرية والفنية التي استفاد منها تحسين كرمياني .

*تحسين كرمياني , خوذة العريف غضبان … خمس مسرحيات ، ( سوريا : دار رند للطباعة والنشر والتوزيع , 2011 م ) .


بشار عليوي

http://www.almadapaper.net/

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *