كيف نعيد للمسرح المصري بهاؤه؟!

 

 

 

 

لا عجب في أن تتحول مشاكلنا الثقافية والفنية إلي ما يشبه الأحاجي.. إلي معضلات معقدة، ومتشابكة ومتراكمة علي  مدار أربعة عقود أو يزيد.. فلا نعرف لها أولًا من آخر !!
ولا عجب أن تتحول مسارحنا إلي أماكن ‘خربة’ طاردة للهجوم، بعد أن خلت من الفن الجميل الذي يحتفي بالحياة والإنسان، ويمنحه كرامته وحريته ويشحنه بزاد من المعرفة والبهجة.
ولا عجب أن يتحول الفنان إلي حامل بضاعة بائرة، ومندوب دعاية، منشغل دومًا بتسويق نفسه.. الأمر الذي يعيقه عن تطوير فنه، والإخلاص له، وبالتالي يحرمنا ذاك ‘الفنان’ من أن نحصد معه وبه الثمار المشتهاة للفنون عندما تتسامي المشاعر والأفكار.
ولا عجب أن يتحول المسئول في وزارة الثقافة ومؤسساتها الثقافية العديدة إلي ما يشبه لاعب السيرك، أو محرك ‘الحواة’ أو السحرة.. إذ يرغب في حدوث المعجزات رغم أننا لا نعيش زمانها! ويرغب في إضاءة المسارح، رغم كوننا نعيش زمن الإظلام الجبري، وانقطاع الكهرباء دون استثناء ! وهو الأمر الذي دفع بالرئيس ‘السيسي’ ليطالب بقطع الكهرباء عن منزله.. مساواة بالمواطنين العاديين.. وكأنه يعيد علي مسامعنا بعد أن أصابها الصدأ.. المساواة في الظلم عدل !
ولا عجب أخيرًا من أن يقام المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السابعة.. والحصاد المسرحي ‘حصرم’ !!.. وعلي أرض لا تنبت الزهور المسرحية الناضجة والمكتملة.. أو المرتجاة والمأمولة.. طيلة سنوات طوال عجاف هاجم فيها الغث السمين وأرداه قتيلًا.. ولم تتوقف ‘العجاف’ إلي السنوات ‘الثلاث’ القلقة.. والمحتشدة بالأمل والألم ومعاناة القلق والرجاء.. أي ما بين الثورتين يناير ويونية حتي اليوم.. لأن الميراث الآن مخيف وعميق الفقر الثقافي والفني !!
وعلي أي حال.. فإن فقر المعمار المسرحي يتقدم المشهد.. فرغم ضآلة عدد مسارح ‘القاهرة’ وهي العاصمة المركزية للفنون.. والتي لا تتجاوز أصابع اليد، فإن أعرقها المسرح ‘القومي’ وقد وعد الوزير بافتتاحه في أعياد أكتوبر المقبل !! وقد أصاب ‘القومي’ العطب منذ سنوات طوال.
لم يعرف ‘متخصص’ ما سوف يتمخضل عنه ذلك التجديد.. فهل سيعود إلي سابق عهده.. أم أنه سيصبح كالمعوق عن أداء المهمة كاملة غير منقوصة !! والعجب أنه من الممكن إدراجه في لائحة التراث العالمي بعد أن أوشك علي إتمام مائة عام علي إنشائه !!
ثم نأتي إلي المسرح ‘الحديث’ في شارع قصر العيني، والمستأجر من قبل ‘البحث العلمي’ فهو معطل وجارٍ إصلاحه !! أما ‘الحكيم’ في شارع عماد الدين، فقد شرده الورثة منذ سنوات !! ولهذا لم يتبق لدينا سوي ملامح مسارح العائم، والطليعة والعرائس للأطفال، ولكي تذهب إلي أحد منها وبالأخص الاثنين الآخرين.. فإن الذهاب إلي معركة ‘حطين’ في التاريخ أهون وأسهل من الدخول في طوفان الحاضر وميدان العتبة الذي هو معجنة بشرية.. ثم ذلك السرب الهائل من الباعة الجائلين وبضائعهم المكدسة علي الأرصفة من حقائب وأحذية وأدوات منزلية تزاحم المارة وتسد الممرات !!
وكأنك إزاء يوم الحشد العظيم إذا نويت الدخول إلي المسرح !! وإذا ما تساءلت عن كيفية معالجة هذا الأمر لدي المسئولين.. وكيفية إخلاء المساحة حول تلك المسارح الثلاثة.. فإن الخلاصة تؤكد أنك أمام مستحيل يضاف إلي تراثنا العربي في المستحيلات الثلاثة ‘الغول، والعنقاء، والخل الوفي’.. لتضاف استحالة فض تلك التجمعات العشوائية ببضاعتها قبل بشرها.. وربما تعرض نفسك لانتفاضة كبري من الباعة الجائلين !!
ومع الإيمان بإضاءة شمعة.. خير ألف مرة من لعن الظلام.. فكفانا لعنًا للظلام الذي كاد يفتك بمصر وبعقول المصريين في عام ‘الرمادة’ الحديث.. الذي احتل فيه ‘الإخوان’ حكم مصر ‘2013:2012’.. وكادوا أن يحولوا الحياة إلي إظلام، وتخلف، وتكفير، وإشاعة أفكار تحيل المجتمع إلي عصور ما قبل الإسلام.. وعصر القرون الوسطي في أوربا !
وكان أول ‘فريق وطني’ تصدي لهم كان شريحة المثقفين من الفنانين والأدباء علي اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم وأفكارهم.. يشهد علي ذلك الاعتصام الأكبر في مقر وزارة الثقافة الذي استمر زهاء الشهر لجابهة الوزير ‘المتأخون’، بل ‘أخونة الثقافة’.. ولم ينفض إلا بعد أن أزيح الإخوان و’محمد مرسي’ عن حكم مصر.
إذ الفنان المصري حقًا قادر علي التحدي، وصنع أشياء تفوق الخيال بخيال.. لكنه يحتاج إلي ما يطلق عليه في الغرب السستم ‘System’ أي النظام المنضبط الذي يتضمن الثواب والعقاب، ويعرف كل حجمه وقدره، ويؤمن بما يفعل ويحب أن يقوم به.. إنه النظام الرشيد حسب التخصصات، والمواهب، والقدرات، دون انتهازية، أو شللية، أو فساد مالي وإداري، ولهذا فنحن نحتاج إلي إعادة تخطيط، وبناء وهندسة ثقافية إذا جازت التسمية في أروقة الوزارة.. لنمدد بها في شرايين المسارح صغيرها وكبيرها.. حتي تتحول إلي خلايا نحل منتجة وليست معطلة أو مثبطة للهمم !!
نعم.. إن الأفكار التي يحاول أن ينشرها د.’جابر عصفور’ بما لديه من رصيد وافر بالمعرفة والثقافة.. لهو أمر مرحب به.. ودعوته لحرية التفكير والتعددية الثقافية نأخده بعين الاعتبار.. لأنها بمثابة الشرارة الواعية.. لكن لكي تتعمق تلك النظرة الحاملة للإرادة السياسية التي تدفع بالفنون لتتصدي واجهة المجتمع.. وتساهم في نهضة الأمة.. لابد من توافر ‘الكوادر’ الفنية رفيعة المستوي في الأداء علي مستوي التأليف والإخراج والتقنيات.. وهذا أمر ليس بالمستحيل وإن كان أمامه صعاب ينبغي أن تذلل.. بأن تبذل الحرية الحقيقية أمام أصحاب الرأي وأمام الفنون بعامة.. فلا تفرقة بين مسلم أو مسيحي.. كبير وصغير.. شيخ أو شاب.. إلا بمدي موهبته وإبداعه وإلمامه بعلوم العصر.
إن د.’عصفور’ يسعي إلي تطبيق العدالة المعرفية.. وإشاعة الثقافة ‘كالماء والهواء’ علي قاعدة الشعار القديم للدكتور طه حسين التعليم ‘كالماء والهواء’.. فإن ذلك يقتضي أن نحول ساحاتنا الفنية إلي منطقة جذب لا منطقة طرد.. بالنظر في إعادة الحياة إلي المسارح الموجودة أساسًا.. وإلي بناء قاعات جديدة حتي لو كانت محدودة مثلما فعل القطاع الخاص في السينما. مع تشجيع حركة التأليف الجادة ماديًا وأدبيًا.. وإرسال البعثات للخارج.. لتفريغ أجيال شابة واعية تمتلك رؤية بصرية وجمالية ووعيًا غير منفصل عن حركة العالم ونبض مصر ومتطلباتها الراهنة.
ملحوظة جانبية: لقد أصبت بألم في حفل الافتتاح عندما ظلوا لدقائق طوال يتلون أسماء الراحلين من المبدعين.. الأمر الذي كادت تتحول معه الاحتفالية إلي ما يشبه حفل التأبين !! وهو الأمر الذي يشير إلي جانب آخر.. إننا فقدنا الكثير.. فآن لنا أن نفتح الأبواب لتنمية شباب يعوض مصر عن طاقتها الإبداعية الكبيرة التي فقدتها في فترة قصيرة ماضية.
علي أن الافتتاحية جاءت مبشرة علي جانب آخر.. وهي تحمل رؤية بصرية حادة.. تؤكد خصوصية فن المسرح المصري.. وتاريخه وعبقه. وقد عبرت بنا علي شوامخ.. بالكلمة، والقصيدة، والرقصة، والحركة والإيماء.. الأمر الذي أبهج الجميع.. وأشعرهم بأن بضاعتهم ردت إليهم.. ولعلها كانت بؤرة الرؤية لدي مخرجها ‘شادي سرور’.
وسرعان ما انتقلت إلي الجمهور في صالة الأوبرا.. لتتشكل الأمنية علي النحو الآتي: نريد مسرحًا بالمسرحيين لنضيء به جنبات واقعنا المصري والعربي والإفريقي.. فهل هي أمنية عصيَّة علي التحقق؟! أم إنها قريبة الدنو.. بعد أن توفرت الإرادة السياسية التي ترفع من شأن القوي الناعمة في بناء الأمم.. وفي المقدمة منها فن المسرح.. عندما يمتشق الكلمة الصادقة والعميقة، ويتشح بفنون ‘الفرجة’ و’تقنيات العصر’، وساعتها سنردد في نفس واحد: لقد استعاد مسرحنا المصري بهاءه !!

 

 

زينب منتصر

 

http://www.elaosboa.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *