(ن) عمل مسرحي احتجاجي يدعو للوقوف ضد القتل والتهجير في العراق

 

 

 

كيف يمكن لمجموعة من الفنانين أن يعبروا عن الألم والظلم الذي تتعرض له الأقليات الدينية والعرقية في العراق؟ وما الذي يمكن تقديمه تجاه ما فعله ما يعرف بـ»داعش» من طرد وتهجير وقتل المسيحيين في الموصل ووضع علامة (ن) على بيوتهم، وعلامة (ش) على بيوت الشيعة هناك، وما الذي يمكن قوله مع ما حدث للإيزديين في جبل سنجار؟
ربما كانت هذه الأسئلة شاهدة أمام أعين كادر مسرحية (ن) التي عرضت قبل أيام على قاعة وزارة النفط العراقية، وأخرجها الفنان المسرحي العراقي المعروف كاظم النصار. لكن الحكايات كثيرة، والوثائق من الصعب حصرها على الرغم من الزمن القصير لتلك الحكايات، إلا أنها تعبر عن تاريخ طويل من الصراع والمأساة التي مرّت وتمرّ على العراقيين الأوائل، منذ تأسيس هذا البلد وحتى دخول داعش إلى الموصل والمناطق المحيطة بها.
العمل بدأ بفكرة صغيرة قدمها عاصم جهاد؛ مسؤول العلاقات والإعلام في وزارة النفط، وكتبها الفنان ماجد درندش، ومثله عدد من الفنانين العراقيين المعروفين.
يتحدث لصحيفتنا الفنان ماجد درندش، مؤلف المسرحية، مبيناً أن الوقت الذي كان متاحاً له لكتابة المسرحية لا يتجاوز ايام معدودات، فضلاً عن عدم وجود مصادر ووقت لكتابة نص كهذا، «لهذا جاءتني فكرة أن أكتب نصاً بطريقة مفتوحة، من الممكن أن يمثله مائة شخص أو عشرة أشخاص أو حتى شخص واحد، فاتجهت لليوتيوب والصحف وحكايات المهجرين. ولكي لا يكون عملاً خبرياً، حاولت أن أختار قصصاً وحكايات حقيقية من المهجرين والنازحين أنفسهم عبر اليوتيوب وزرت المخيمات، لكي ابني نصاً يعطي ثقافات متعددة مهددة بالتهجير والسلب من قبل كل قوى الظلام». ويوضح درندش أنه جمع هذه القصص والحكايات وجعلها قصة شخص واحد وعائلة واحدة ووطن واحد، لكنها متعددة الطوائف والمذاهب، ومن ثم بنى النص على تساؤل واحد (منذ أن ولدنا حتى الآن، جميعنا نترك مذاهبنا في البيت ونخرج للشارع كعراقيين).
مضيفاً أنه كان جزءاً من هذا الاحتجاج، «فقد كتبت النص ومثلت فيه، وبعدما انتهيت من كتابته لم يعد النص ملكي، بل ملك الخشبة والمخرج والممثلين، فجميع الممثلين شاركوا بالكتابة، وتعمدت أن أترك النص مفتوحاً لأعطي حرية للمخرج بالعمل عليه حسب رؤيته المسرحية».
درندش يكمل حديثه، موضحاً أن المخرج كاظم النصار اشتغل بدقة وذكاء، وسلط الضوء، على مفردة (ليش) وهي كلمة شعبية تعني (لماذا)، فانطلق منها وعمل على هذا السؤال الاستنكاري، (ليش) لكل الذين شاركوا في الخيانة، وفي سرقة العراق، لكل الذين فجروا وهجروا، وساهموا في تأخير حياة المواطن العراقي وتأخير المشروع الديمقراطي والدولة المدنية. «يقول النص أيضاً أشياء كثيرة، فهناك رسالة فيه تقول (إلى أين تذهبون)، عمرنا أكثر من سبعة آلاف عام، فإذا كانت الحرب حرب الحضارات الحديثة، فهم لم يستطيعوا طمر حضارة المايا حتى الآن، فكيف بحضارة وادي الرافدين، فالحضارة فكر وليس بنايات يمكن أن يعاد بنائها من جديد. لم يستطيعوا سوى أن يهدموا الحجر، لكن الحضارة بقيت وستبقى».
من جانبه قال المخرج كاظم النصار، متحدثاً عن كيفية انبثاق فكرة المسرحية، أنها كانت مبادرة من الأستاذ عاصم جهاد، مدير العلاقات والإعلام في وزارة النفط، وكانت الخطة فكرته بدلاً أن نقيم فعالية تقليدية فيها تضامن وكلمات، أن تتحول لفعالية فنية، فـ»رحبنا بالفكرة وقمنا بإجراء سريع، النص كتب بيوم ونصف فقط، والتمارين لم تستغرق أكثر من أحد عشر يوماً».
ويكشف النصار أن التساؤل الأول في العمل هو إلى أين سنذهب، إلى الموصل أم طوزخورماتو، أم أمرلي… إلا أنه في أثناء التمرينات على المسرحية سقطت مناطق أخرى، فأدخلوا سنجار وغيرها من المناطق. «كتب النص كمسوّدة، لكن بمهارة الممثلين وخبرتهم أضافوا له الكثير، أي يمكننا أن نسميه (نص الخشبة)، لكني ألزمتهم بأننا إزاء عمل مفتوح ينفلت عن الأطر الأكاديمية، هدفنا أن نضيء هذه القصص أمام الناس والرأي العام، وأيضاً دور الفنان المؤثر في الشارع والأوساط الإعلامية لكي يبقى ملف التهجير والقتل ساخناً أمام الإعلام والرأي الدولي».
ويؤكد النصار أن تقديمه لهذا العمل الذي يعد تعبوياً جزء من عمله كمثقف وفنان، فقد حاول أن ينفلت عن محددات العمل المسرحي ليقدم عرضاً مغايراً، تقديمه لموسيقى وغناء مختلفين، فضلاً عن الإيهام الذي حاول كسره من خلال تقديمه للمثلين بألوان مختلفة. مشيراً إلى أنه حاول أن يخلق قصصاً متنوعة ليرى عراقية الممثلين وانتماءهم، وكان الحافز الوطني هو الذي دفعه لعمل مثل هذا، فلم يفكر هو ولا الممثلون بالاستفادة المادية من العمل.
النصار بيّن أن العرض المنفتح لا يعني أن يكون منفلتاً، بل هناك ضوابط اشتغل عليها، وأبرز ما لاحظه، أن الممثل تماهى تماماً مع الشخصية، ونقل الإحساس المتقن إلى الجمهور، وهو ما جعل المشاهدين يتألمون مما يشاهدون على خشبة المسرح.
ربما التساؤل الذي طرحه بعض المشاهدين كان صحيحاً، فلماذا (نون) فقط، وهو يعبر عن المسيحيين، في الوقت الذي تعرض فيه غيرهم أيضاً لما تعرضوا له؟ لكن النصار يجب أنهم جميعاً يعتقدون أن الظلم الأكبر وقع على المسحيين، ربما البعض يفكر أن هناك صراعاً سياسياً أو إسلامياً، لكن ما وقع على المسيحيين يختلف تماماً، فهم مواطنون مسالمون لم يشاركوا بأيٍّ من عذابات هذا الوطن، وما حاولنا تقديمه أن ننتصر لهذه الديانة، التي تعد مكوناً أصيلاً في التاريخ العراق، فضلاً عن الديانات الأخرى، والابتعاد عن التعصب، والتأكيد على مفهوم التلاحم الإسلامي المسيحي عبر التاريخ.
أما فضاءات العرض، فقد اشتغل النصار على مجموعة أبواب مغلقة ومفتوحة عليها علامة (ن)، و»افترضت في هذه الأبواب بعض المهاجرين، وبعض المواطنين يحاكمون شخصاً داعشياً، ليكتشف هذا الداعشي فيما بعد أن الذين هجرهم وقتلهم في الجنة، وهو من ذهب إلى النار».
الفضاء الذي اشتغل عليه النصار هو هذه البيوت المتناثرة، مدعومة ببنية صوتية لها علاقة بالموروث العراقي، من خلال الأغاني الموصلية والمقام العراقي، فضلاً عن الإشارة والصلوات والزغاريد، «ربما في هذا العرض تحررت من خشبة المسرح، وقدمت عرضاً تواصلياً من خلال دخول الممثلين مع الجمهور وتفاعلهم معهم».
في حين كانت تقنيات العرض متنوعة، فالعلامة الأولى كانت ترتكز على الممثل لإيصال العلامات جميعها، فلم يكن لدى المخرج بنية بصرية يعوّض بها، والممثلين الذين اشتركوا أغلبهم نجوم لهم تأثير على المشاهد العراقي، مثل آسيا كمال وميمون الخالدي ومازن محمد مصطفى وباسل شبيب ونضير جواد وعلاوي حسين وأسعد درندش والمطربة أزهار العسلي وغيرهم، وكان أمام النصار مهمة كبيرة، وهي كيف يجعل المتلقي ينتمي لعراقيته في مدة العرض التي لم تتجاوز النص ساعة، «كما أننا اشتغلنا على الزي والماكياج والبنية الصوتية، فعلاً عن وجود عازفين لتقديم موسيقى حية، والمطربة التي ساهمت بالتذكير بتراثنا الموسيقي الموصلي والبصر، وقصائد السياب المشهورة وقصيدة ليوسف الصائغ وجمال جاسم أمين».
النصار يعتقد أن العرض كان اختباراً أولياً، وهو كيف يمكن أن نصنع عرضاً تواصلياً والأزمة ما زالت حية، فعادة ما نقلب ملفات ساخنة سابقة، بينما نقلب الآن ملفاً ما زال على شاشات التلفزيون، وكيف تنفلت من الأطر التقليدية وتقديم عمل مفتوح؟
كاشفاً أن هناك خطة لوزارة النفط لنقل العمل إلى أماكن النازحين أنفسهم، في كربلاء والناصرية والبصرة وغيرها من الأماكن التي لجأ إليها النازحون، كما أن هناك أفكار لتطوير العمل مع كل عرض جديد، من خلال إعادة بناء الشخصيات وإدخال الفعل الدرامي، «لم يكن في العرض الحالي بناء واضح في العمل والشخصيات، بل كان القطع والمونتاج السينمائي هو السائد، وهناك خطة فعادة بناء النص والشخصيات مع العروض القادمة».
ويرى الفنان علاوي حسين أن هذا العمل انطلق من منطلق وطني، فهناك قضية معروفة، وهي الاضطهاد والتشرد والنزوح الإجباري لأبناء شعبنا وطوائفه، هذا القتل اليومي سواء أكان يحدث في بغداد أو الجنوب أو كردستان أو الشيعة أو السنة أو المسيحيين أو الإيزيديين، يشكل له ألماً ووجعاً، بـ»النتيجة يجب عليّ أن أقول رأيي في ما يحدث. وما قدم من عرض احتجاجي هو رأي باتجاه رفض، و(ن) ليس فقط ما وضعه الدواعش على منازل المسيحيين من علامات، بل هي رفض واستنكار، بل نجاهد إذا اضطررنا للحفاظ على بلدنا ووحدتنا، لذلك لم يكن عملنا عرضاً مسرحاً، إنما عمل احتجاجي أردنا من خلال الكلمة والموسيقى والغناء وعناصر أخرى أن نقدم احتجاجنا بهذه الطريقة الاحتفالية».
وعن دوره في المسرحية، يقول علاوي إنه كان يسرد حكاية لوجع شاب من النازحين بسبب وحشية ولا إنسانية الدواعش شرد عن بيته وأرضه، فـ»كنت أمثل صوت الألم والوجع، ولماذا يحدث هذا في العراق تحديداً؟ ما الذي فعلناه؟ لماذا ندفع أخطاء السياسيين ونكون ثمن صراح سياسي في العراق وما حوله؟».
أما الناقد والصحفي سامر المشعل، فيقول إنه لا يمكن أن نسمي هذا العمل مسرحياً بوحداته الأكاديمية وتقنياته الأرسطية، بل كان موقفاً احتجاجياً لإدانة ما يحدث تجاه الأقليات في العراق، والفعل الإجرامي لداعش.
مبيناً أن المسرحية أرادت أن تقول إن العراقيين يعيشون في تعايش وتآخٍ، لكن الأفكار الجديدة على المجتمع العراقي حاولت أن تفكك بنية المجتمع، وما أرادته المسرحية أن تشير إلى أن كل ما هو طارئ سيذهب سريعاً حتى لو كان بسلطة متمثلة بالدين الذي تأتي به الجماعات الإرهابية. مضيفاً أن العمل كان ناجحاً، من خلال تفاعل الجمهور معه. عمل عبارة عن رسالة إنسانية لا نقف أمام وحدات العمل وآلياته بالمفهوم المسرحي، بل كان عبارة عن قصائد وحكايا مموسقة مسرحياً، فضلاً عن وجود الموسيقى والغناء المعبر عن العرض، فهو يمثل وقفة احتجاج لموقف إنساني يمر به البلد، وأعتقد أن كادر العمل نجح بإيصال هذه الفكرة وتفاعل معها الجمهور بمشاعر وطنية عالية جداً.
ويشير المشعل إلى أنه ليس من الممكن أن نضع اشتراطات العمل الأكاديمي في عمل تواصلي يحتاجه الجمهور وكاظم النصار نجح في فكرته والكاتب نجح في الربط بلغة العرض التي كانت متعددة الأصوات واللهجات.

صفاء ذياب

 

http://www.alquds.co.uk/


شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *