كل مثقف عربي هوفلسطيني بالضرورة طالما فلسطين محتلة

 

مقالتي في ملحق الخليج الإماراتية اليوم و الذي خصص لفلسطين، بالطبع تعرضت بسبب الحيز لمشرط المحرر، و هنا أنشر ما نشر في الخليج و النص الأصلي الذي كنت قد كتبته باختصار.

فلسطين في المسرح العربي
فلسطين تجاوزت الجغرافية وأقام لها المسرح في العالم دولة لا تحد ولا تمحى.
غنام غنام.
فلسطين في المسرح، وجود يتساوق مع المعنوي الذي شكلته في وجدان المثقفين وأحزاب وشعوب؛ وقف المثقفون بوضوح لجانبها، فإن كان الاحتلال الصهيوني قد غيب فلسطين عن الخارطة وفرض كيانه الاستيطاني (اسرائيل)، إلا أن فلسطين تجاوزت الجغرافية وأقام لها المسرح في العالم دولة لا تحد ولا تمحى.
قد يغيب من خاطرنا أن غالبية المبدعين العرب قدموا لفلسطين في كل الفنون أعمالاً يصعب حصرها، لذا سأعرج على ما يتيحه المقام لأُذكِر ببعضها.
لم يكن الاحتلال فقط من منح فلسطين هذا الحضور، بل عمقها التاريخي والثقافي وبروز الحضارات القديمة والديانة المسيحية فيها، واجتماع الديانات السماوية الثلاث في بقعتها الصغيرة قد منحها مكانة خاصة في وجدان البشر، كما أن موقعها في سرة الكون، ومركز تقاطع مسارات التنقل البشري وحجيج المؤمنين أكسبها خصوبة حضارية، فكان لا بد لهذا الوطن الصغير مساحة، أن يفرز اسماء مبدعين في كل المجالات، ساهمت في تثبيت الوطن الممحي عن الخارطة في قلب العالم خارطة لا تمحى، فصارت فلسطين الفكرة أكبر من فلسطين الدولة.
صار وجود فلسطين في المسرح الاسم الفني والبعد الفكري الكامن في مئات الأعمال المسرحية التي قدمت على امتداد الوطن العربي، فلو قدمت فرقة ما (تاجر البندقية) لشكسبير، لقفزت فلسطين لتصبح البعد والمعنى، وإن قدمت (جيفارا) تصير فلسطين هي مناخ المسرحية، ويمكن أن نذكر مسرحيات غنائية كبرى قدمها الرحابنة، كانت تشي بفلسطين وقضيتها وتداعايتها في معظمها، عزز هذا الشعور الموقف القومي لنتاجات الرحابنة، فكلنا يذكر عائدون وجسر العودة والقدس العتيقة ويافا وبيسان وسنرجع يوماً.. وهكذا صار في أمر شخصيات عنترة والزير وأبي زيد الهلالي في تجاربي ،فالجمهور يغلف العمل بمشاعره فلسطينياً.
إن الأعمال التي تناولت القضية اتسمت بالحداثة والتطوير الفني، يقول الباحث المغربي د.عبد الرحمن بن زيدان في كتابه (مقامات القدس في المسرح العربي): “إن جواب الهوية لم يبق ولعاً معلقاً بنقل تجارب ونظريات مسرحية غربية دون فهم مكوناتها، ونقد مفاهيمها، ولم يعد قبولاً مطلقاً بمكوناتها، بل غدت مسألة تجريب هذه التجارب مشروطة بمعنى توظيفها التوظيف السليم لتناول القضايا العربية الملحة مثل قضية القدس، والقضية الفلسطينية في إطارها الوجودي العالمي والإقليمي”.
أفاد المكون التراجيدي للقضية (صراع بشر، صراع فكر وحضارة، صراع أرض ووجود، حروب، مجازر، هجرة ورحيل، حب مستحيل، فداء وبطولة، خيانة وسمسرة، نزوح ولجوء ومخيمات، مبدعين شهداء، وامتداد زمني طويل لصراع لم ينته) بتشكيل مناخات ثرية في المسرح، لم توفره قضية أخرى، فصار بإمكان المبدع تناول أي حقبة من تاريخها، ليتحدث عن راهنها، ومن هنا نرى مسرحية (شمشون الجبار) التي كتبها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، بإسقاط مباشر ودون مواربة على الصراع المعاصر، وليس فقط مجرد تسجيل للتاريخ.
سأعرج بعجالة على ذكر بعض المسرحيات التي تناولت فلسطين وقضيتها في الوطن العربي. فالمسرح المغربي قدم وعلى كل مستوياته الاحترافية والهواة والمدرسية عشرات المسرحيات التي تناولت القضية الفلسطينية، ومن نصوصه ما أنتجه الكاتبان الطيب العلج ومصطفى القباج بعنوان (دعاء القدس)؛ ومن أبرز الأعمال المغربية (أربع ساعات في شاتيلا) قدمته الفنانة ثريا جبران والنص للفرنسي جان جينيه؛ المسرح الجزائري قدم القضية منذ ثورته وحتى اليوم، ففي البواكير كانت (حنبعل) للمدني أحمد توفيق تحمل بعداً فلسطينياً، كما كتب كاتب ياسين (فلسطين المخدوعة)، وكتب محمد بودية (ولادات) و(الزيتونة) وهو واحد من المقاتلين الشهداء في صفوف الثورة الفلسطينية، اغتاله الموساد بتفجير سيارته في باريس؛ كما قدم عز الدين جلاوجي (البحث عن الشمس) متناولاً الانتفاضة الفلسطينية ومسرحية (الشروق) ففلسطين هي الشمس وحريتها هي الشروق.
المسرح التونسي قدم العشرات من الأعمال، إلا أن (البحث عن عائدة) و(خمسون) لفاضل الجعايبي وجليلة بكار تبقى من العلامات البارزة، وكذلك عمل المنصف السويسي لاتحاد الفنانين العرب (واقدساه) من تأليف يسري الجندي، ولم تخل أعمال الشباب التونسي من فلسطين عنواناً ومضموناً مثل (على بابك يا فلسطين) لارتسام صوف؛ وفي المسرح اللليبي كانت فلسطين هي رمز النضال و الحرية؛ وقد كتب البوصيري عبد الله عام 1982 (الغربان وجوقة الجياع) و (أورست يعود إلى المنفى) عام 1983، يحاكي حالة الفلسطيني بعد خروج الثورة من بيروت، و(تفاحة العم قريرة) 1990، و نذكر هنا نص عمر السويحلي (لحظات تحدي).
أما في مصر فالحديث يطول، وقد جاء في بحث للدكتور سيد علي اسماعيل أن المسرح كان على تماسٍ تامٍ بالقضية ويذكر البحث أن مسابقة في تأليف النص المتعلق بفلسطين أجرتها (حلقة الأدب) في جريدة الأهرام عام 1922، و يوسف وهبي قدم إيراد (كرسي الاعتراف) عام 1929 لفلسطين ولصالح شهداء البراق ، ويذكر (فلسطين للعرب) لداوود جمجوم عام 1948، ومن المحطات البارزة (وطني عكا) لعبد الرحمن الشرقاوي إخراج كرم مطاوع، وتظل (النار والزيتون) لألفريد فرج من أبرز العلامات إلى جانب (اليهودي التائه) ليسري الجندي و (الغرباء لا يشربون القهوة) لمحمود دياب تحمل كافة مواصفات القضية؛ و(الحمل الفلسطيني) للشاعر فؤاد حداد، و(حبيبتي شامينا) لرشاد رشدي وأخرجها سمير العصفوري، و(لن تسقط القدس) لشريف الشوباشي وأخرجها فهمي الخولي؛ ولم يخل موسم ولا سنة ولا مدينة أونجع في مصر إلا وشهد عملاً عن فلسطين، كما كان حضر النص الفلسطيني في المسرح المصري فقدمت (شمشون ودليلة) و(ثورة الزنج) من تأليف معين بسيسو، وكذلك (السؤال) للشاعر هارون هاشم رشيد.
في اليمن نسجل ما أنتجه علي أحمد باكثير الذي كتب خمس مسرحيات طويلة وخمسين قصيرة عن فلسطين جعلته في طليعة الكتاب العرب، كتب عام 1944 (شايلوك الجديد)، (شعب الله المختار) عام 1956،(إله اسرائيل) عام 1959، و(لباس العفة) عام 1963، والتوراة (الضائعة) عام 1968؛ وقدم المسرح اليمني أعمالاً لمعين بسيسو(العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع) و(ثورة الزنج).
المسرح الأردني قدم حوالي 100 مسرحية منذ أربعينيات القرن الماضي تحمل اسم فلسطين أوقضيتها ؛ أضعاف هذا الرقم كانت تحمل الهم الفلسطيني، ويمكن أن نسجل مسرحية (الشموع المحترقة) لصلاح أبوزيد عام 1948 والتي كان ريعها لصالح الثوار الفلسطينيين كعلامة مبكرة، و في أريحا ونابلس عامي 1965 و1966 أخرج هاني صنوبر (تل العرايس) لعبد الرحيم عمر و(خالدة) لهدية عبدالهادي، و(أفول القمر) لشتاينبك، فكانت النازية تحاكي الاحتلال الصهيوني ، ومن الأعمال التي تذكر (رسالة من جبل النار) لمحمود الزيودي وإخراج أحمد شقم، و(تغريبة ظريف الطول) لجبريل الشيخ إخراج هاني صنوبر، (روزانا وبناتها يبحثن عن أيوب) تأليف وإخراج عبد اللطيف شما، و(الطريق إلى بيت المقدس) لابراهيم السعافين من إخراج هاني صنوبر، (لوحات مقدسية) تأليف ماهر أبوالحمص وإخراج محمد الضمور،(لن تغيب الشمس) لحسن درويش عن أشعار سميح القاسم وأخرجها عصمت فاروق؛ خالد الطريفي قدم (شمشون ودليلة) لمعين بسيسو و(وحدي في بيت الجنون) لتوفيق فياض، ومن تأليف مفلح العدوان قدمت مجد القصص (بلاعنوان)؛ يحيى البشتاوي قدم (هند الباقية في وادي النسناس)، وفراس الريموني (رجال في الشمس) لغسان كنفاني وحكيم حرب قدم معالجة أخرى لنفس الرواية (عرائس فوق صفيح متوهج)، وقدم مصطفى أبوهنود لغسان (القميص المسروق) وتظل مونودراما (عائد إلى حيفا) التي أخرجها البشتاوي عن رواية غسان وقمت بتمثيلها مفرداً من أبرز العلامات للمسرح الأردني عامة ولي شخصياً، وهي التي قدمت ما يزيد على ستين عرضاً.
المسرح السوري قد قدم مئات الأعمال عن فلسطين، لكن ما يمكن أن أن نسجله هو أن سوريا كانت الحاضنة لانطلاق فرقة فتح المسرحية والتي قدمت (شعب لن يموت) تأليف سعيد المزين وإخراج صبري سندس، والطريق من تأليف وإخراج نصر شما، واحتضنت المسرح الوطني الفلسطيني والذي قدم أعمالاً مهمة قدمها جواد الأسدي وزيناتي قدسية وحاتم علي وعبد الرحمن أبوالقاسم، وخليل طافش وحسين الأسمر، فقدمت (محاكمة الرجل الذي لا يحارب) لممدوح عدوان وإخراج حسن عويتي، و(العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع) لمعين بسيسو إخراج خليل طافش، و(رقصة العلم) و(العائلة توت) و(الاغتصاب) من إخراج جواد الأسدي، وأعمال زيناتي قدسية المونودرامية الكبيرة، ويسجل للمسرح الاستعراضي حضور فلسطين في أعماله كما في أعمال فرقة إينانا، وفرقة أورنينا التي قدمت (الإلياذة الكنعانية).
في لبنان، يبدو الأمر أكثر اشتباكاً، فقد انتشرت الفرق الفلسطينية كما انتشرت التنظيمات، فكانت فرقة (الأرض) و(نوح ابراهيم) اللتان شكلتا (السنابل) وفرقة (الإعلام الجماهيري) و(تل الزعتر) وكلها قدمت أعمالاً عرضت في لبنان والخارج، لكتاب عرب وفلسطينيين، ويمكن أن نذكر أن لسهيل ادريس مسرحية ذاع صيتها (زهرة الدم)، ويسجل قاسم اسطنبولي الآن في لبنان حراكاً مميزاً، فهو الذي قدم (قوم يابا) و(الجدار) ومثل فلسطين في المحافل الدولية؛ أطلق في مدينة صور مهرجاناً مسرحياً يحتفي بفلسطين وجهة فنية وفكرية.
حفل المسرح العراقي بالقضية منذ 1936 فقدم (ثورة العرب الأولى) وكان ريعها دعماً لثورة القسام، وقدم مسرحية (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) تأليف سعد الله ونوس وإخراج جاسم العبودي، وقدم قاسم محمد من تأليفه (أنا ضمير المتكلم)، وقام وجيه عبد الغني بإخراج (الحب والبندقية)، كما أخرج محسن العزاوي (الغرباء لا يشربون القهوة) لمحمود ذياب؛ نص (البديل) ليوسف الصايغ قدم عدة مرات، و(ليلى العدنية) لسميح القاسم و(سهى بشارة) كذلك.
من ناحية شخصية فإنني أعتز بأن فلسطين لم تغب عن معظم أعمالي المسرحية ابتداءً من (أم الخير) الذي قدمته بفرقة هواة عام 1979 ومروراً بمسرحيات(الجاروشة، من هناك، عنتر زمانه والنمر، الزير سالم، كأنك يا بوزيد، البحث عن نوفان، حياة حياة، آخر منامات الوهراني، فصيلة على طريق الموت، غزالة المزيون) وحتى حكاياتي للأطفال.
هذه البانوراما لفلسطين في المسرح العربي، دون أن نذكر فلسطين في المسرح الفلسطيني، وهي تجربة هامة جداً سواء في فلسطين قبل الاحتلال 1948، أو بعد 1967، في الضفة و القطاع، إذ شكل المسرح منبراً نضالياً ، وله في كل منطقة تجليات وتحولات ورموز كبيرة في الإبداع، ويمكن اعتباره بكل ثقة من أهم التجارب المسرحية العربية، ولكي نتناول فلسطين في أعماله نحتاج إلى مقام خاص، لكن أسجيل أن المسرح الفلسطيني حمل القضية إلى مختلف أصقاع الدنيا قبل غيره من المسارح الأخرى.
إن ثقل القضية الفلسطينية وحضورها جعلاها القاسم المشترك لأعمال المسرح الموسوم بـ (التجاري) وكانت هذه المسرحيات ونجومها يضعون القضية وشؤونها مادتهم الأساسية، بغض النظر عن اختلافنا على سذاجة الطرح أوعدم العمق في هذه الأعمال، إلا أنهم بعضهم يقدمون القضية لإيمانهم وقناعتهم بوجوب طرحها، ويمكن أن أذكر أنموذجاً من هؤلاء (الفنان الأردني موسى حجازين).
هذه فلسطين، جوهر مسرحنا وجوهرة إبداعه، وسأختم بجملة واحدة (كل مثقف عربي هوفلسطيني بالضرورة طالما فلسطين محتلة).

 

غنام غنام

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *