قراءة نقدية لـ ‘دوران’ إبراهيم الحارثي (3 / 3)

 

اقتفاء اثر جينالوجيا النص المسرحي وتطبيق قواعدها على ما كتب إبراهيم الحارثي يجعلنا نقف كثيرا عند مثابات معينة تجعلنا نتأرجح بعض الشيء بالحاق ما قرأنا الى مدرسة معينة من مدارس الكتابة المسرحية او الادب بشكل عام، فما ان تدلي برايك بنسبة النص لهذه المدرسة او تلك، ترى الكاتب ينتقل بك من خلال الحدث وصناعة الصورة وسسيسولوجيا الحوار بدكتاتورية جمالية الى اعتناق مدرسة اخرى، وهل يكتفي الكاتب عند هذه المثابة بالتأكيد الجواب؟

لا .. بل يستمر في بعث البهجة من خلال هذه الانتقالات التي تعطي زخما ودافعا للنص ان يتوهج بأكثر من لون وهذه الفسيفساء اللونية الشكلية والداخلية هي ما يجعلنا نبصم بالعشرة للكاتب بانه سارق محترف للقراء من انفسهم والسفر بهم على بساط الريح الى مدن عدة تزيدهم خيالا ومتعة.

كل ذلك وغيره يحثنا على الاقرار بان الحداثة وما بعدها وجدت بتمرد الكاتب على المألوف المتلاشي الصور والابعاد ليشكل له استقلالية تنحو بالكلمة الى الارتقاء وانتاج الصور العديدة والجميلة لتحل محل الفراغ الذي الت اليه فجوات النصوص المسرحية المتواطئة مع نصوص كلاسيكية جامدة زمانيا ومكانيا.

وفقا لما قرأنا من تراكيبٍ نصية للكاتب نجده احيانا واقعيا، نتيجة ما اورده من هموم كانت تلف كربطة عنق على رقاب الجميع من ابناء مجتمعاتنا المقهورة، واحيانا نجده سورياليا عندما تترك الجثة بلا دفن لنجدها في النهاية تقف على قدميها، واحيانا تعبيريا حينما تبوح الشخصيات بما يجول بخاطرها كردة فعل لما يجري امامها كمسرحية هم ابطالها او ما تراه وتتصوره في الخارج اي خارج النص وخارج الخشبة لو تحول الى عرض مسرحي وخارج الشخصيات وحتى خارج حدود الواقع والمعقول، وتجده ماركسيا وجوديا حينما يتحدث عن النشوء والتلاشي والبداية والنهاية وما حصر من طريق بين هاتيك النقطتين.

وكل ذلك يحث ويحرك المتلقي بشكل عام على التساؤل، ليس مثل تساؤل العجماوات من البشر بل تساؤل محترم واعي رائده العقل نتيجة ما يراه من استقلابات حالمة لا واعية لا شعورية مجالها ما ورائيات يتفاعل معها بالأخذ والرد واستيراد الخزين الذاكراتي مع سلسلة طويلة من مثابات سيسيولوجية انثربولوجية؛ وإلا لمَ سمي المثقف مثقفا وذلك لأنه يحتفظ بهذه الموروثات والطباع وسيدة الجميع بهذا الخصوص هي الذاكرة التي توجد بقوة وهارمونية شفافة مع كل ما يمر امام العيون والاسماع وحتى الانوف كمنتج عطري غاية في التضوع.

سنلقي الضوء على بعض المثابات العالية الواضحة والتي تلوح للقادم بعبارة انني هنا اما تراني لأنها تعكس دينامية ما يفكر به الكاتب وتعكس شخصيته الباحثة عن الجمال بسيل من الانثيالات الموسيقية التي لا يعرف النشاز طريقا اليها، اراد بها الكاتب تفسير الكثير من الظواهر والاحداث، وما التبس على القارئ قبل ان يقع نص هذه المسرحية في يديه فكان هذا البوح الممتع.

ممثل1: الجفاف يستمر دون أن تأتي غيمة لتنشر الحياة.

انطلاقة نقدية وضعت إصبعا على جرح غائر حد الروح حديث عن السياسة والوطن والقيادات والتابعين الذين لا يملكون من امرهم شيئا والى أي مدى وصل جدب الحياة بالجميع.. ليرد عليه الثاني.

ممثل3: عن أي حياة تتحدث, حتى أصواتنا التي نطلقها, لا تستطيع كسر جدرانها العتيقة.

الاول كان يتحدث عن حياة جديدة، اما الثاني ولتجربة مريرة يعتقد ان الحياة القادمة نسخة من الحياة التي يعيشها في هذه اللحظة. الياس يوحد الصور جميعها بصورة واحدة مفادها الجدب ليشكل اعتراضا قويا ان ما تتمناه وتطلبه ليس بأمر من السابق فلا تبتهج على الفارغ.

أصوات بائسة يائسة ليس لها من القوة ان تخترق الجدران لتصل الى الاخرين كي تنبئ الجميع بان هناك زمنا ومكانا جديدين متخيلين غضين يلوحان في الافق يشكلان رسالة تطلب منهم ان يتحرروا قليلا من خوف لازمهم طويلا، اما لان هذه الجدران تمثل اذانهم الصماء او ان هناك جدرانا وضعت بشكل قسري وربما بشكل ارادي نتيجة التقهقر الفكري وكأن الجميع تناسى مقولة: وتحسب نفسك جرما صغيرا ** وفيك انطوى العالم الاكبر.

ممثل5: لا لغة تستوعب خطواتنا, و أخطاؤنا التي تتكاثر كالأسماك, تتحرك برتابة.

لغة الخطوات المكتسبة والمتأخرة تولد الأخطاء نحن لا نجيد حديث الخطوات بلغتنا المتكسرة لذا باضت اخطاؤنا بيوضا تفقست بأخطاء تتناسل، علما ان شريط الاخطاء طويل يبعث على التحرك برتابة مملة، وفي قابل النص ومستقبله سيجيب عن هذه الاخطاء التي جعلت من تناسل الاسماك صفة لتناسلها والتي لها ارتباط بمواقف اتخذت من الجثة قبل ان تأخذ هذا الشكل الافقي المنبطح.

ممثل3: نحتاج لعصا سحرية حتى نخرج من عباءة الظلام.

هناك يأس مرير ينتاب الجميع مع رفض لواقع الحياة الآيلة للموت فليس بأيدينا عصا سحرية نستطيع بها تغيير واقعنا الذي لا يرضي عدوا ولا حبيبا لأنه مهيئ بهذا الشكل السخيف الجامد وليس لدينا أدوات تجميلية تزوقه على الاقل وليس تغييره، فضلا عن تلفعنا بهذه العباءة السوداء كي نرد بها حقيقة صورنا الممسوخة.

ممثل 1: كل شيء فينا يبكي, أصواتنا تبكي, نحن نبكي, الكمنجات تبكي على وطنٍ ضائع لن يعود.

البكاء وسيلتنا الوحيدة بمعية الحلم لاسترداد وطن ضائع وهذا التشكيل اللغوي هو في غاية الابداع التصويري لحال الوطن، فالضياع نتيجة تبدأ مسبباتها من خلالنا نحن، فأحدنا باعه والآخر تغافل عنه، وآخر دلّ اللصوص عليه، وآخر قدم سكينا كي يذبح من الوريد الى الوريد، وفي رأيي المتواضع من أضاع الوطن ليس له الحق بالتحدث عنه.

ممثل 2: ماذا نستطيع أن نفعل الآن؟

البحث عن الحل. الحل الذي حير الجميع في كيفية الوصول اليه فمنذ بدء الخليقة ونحن نبحث عن الحل في بعث الحياة لهذ الوطن، والنتيجة هواء في شبك بسبب رغبات آنية ذاتية بسبب التردد في ولوج القصة وتأكيد الوجود كأحد ابطالها الفاعلين.

ممثل3: أن ننبت كالعشب, أن ننمو للسماء, أن نشق هذا الجفاف الذي يغتالنا ببطء.

الحل هو ان ننبت كالعشب امر غاية في الخيال وذلك بان ننطلق من ذواتنا وبشكل طبيعي دون تدخل الغير في احداث التغيير المنشود والانطلاق نحو فضاءات ارحب واجمل واوسع وقد وضع الكاتب إصبعا على الجرح او قدما في اول الطريق سلوكا لنتيجة مقبولة داعيا من خلال ذلك ان تنطلق الذوات بوعيها الناضج لاستعادة المبادرة وعدم التعكز على الغير في احداث هذا التغيير، لكن وصف الكاتب لهذا التغيير بالعشب فيه بعض المؤاخذة لان هذا العشب سرعان ما يعتريه اليباس ومع اول قدحة يحترق هو ومن عليه وبه وفيه ولو استعاض بعبارة عمود من نور كان ابلغ واجمل.

ممثل1: في طريقنا إلى هنا, فيم كنا نفكر؟

انتقالة حادة في مجرى الاحداث تنطلق بشكل عقدة وحبكة وتبرير لخوض غمار معركة درامية اخرى هي في حقيقتها نتيجة لما تم مناقشته آنفا ليتم إدخال الجثة في صناعة الحدث.

ممثل2: كنا نفكر أن نكرر الحلم, نحلم دون أن ننحني, نقف منتصبين كنصل سيف.

هكذا نحن دائما لا نملك الا الحلم في صناعة واقع مغاير يرمم شروخ حياتنا ورغم مجانية الحلم الا ان الطغاة والواقع المرير جعلنا لا نحلم الا بقبورنا ومقولة سخيفة باللفظ الشعبي تترد في اسماعنا (ممنوع اليحلم بس بكبره) ومن خلال هذه الانطلاقة ربما اراد الكاتب ان يلمح الى حقيقة مفادها ان ما ستقرؤونه في المشاهد اللاحقة ايها القراء ما هو الا حلم قد يتحقق او لا يتحقق، وهذا ما يسمح لنا ان نترجم التغريب البريشتي بصورة اخرى مغايرة للمألوف ليوجد هذا التغريب داخل تطهير ارسطي يدعو للصراع داخل نفس القارئ محملا اياه مسؤولية كبرى في توحيد الصور المقتطعة والمتقاطعة وتركيبها من جديد لتنتج صورة اكبر واعمق معنى ودلالة.

يبدأ الحلم لدى الجوقة من خلال هذا المسجّى امامهم والذي جلب انتباههم ليدخلوا بنقاش حاد في كشف هوية الجثة ولكن هذه المرة بشكل مباشر معه وكأنهم بحواراتهم السابقة يتوقعون ولادة شخصية معينة امام انظارهم من خلال ذكرهم للانتظار، وبعد ان سقط بيدهم من طول مدة الانتظار تحولوا بأنفسهم الى قوة كبيرة تصارع هذا الانتظار وتبعد شبحه المقيت عنهم، وهذه القوة الكبيرة هي الحلم والذي رغم بساطته كحدث باعتبار ان بطله جثة وما اكثر الجثث المستلقية بدعة في أزقة المدن وليس بجديد كل ذلك لكن الحقيقة تقول غير ذلك نتيجة للطابع الدرامي المتنامي والآخذ بالاستطالة ليكبر اطار الحدث ليحتوي الانفعال ليشكلا معا صورة واطار يشدان الفكرة من شعرها المترامي كنخيل البصرة الزاحف على وهاد القلوب واغطساها في مغطس الحياة حيث مارس الكاتب بهذا الحلم والحدث والانفعال عملية نقدية للحياة بنيت على الهلوسة الواعية الذكية والتي تعرف اين وضعت قدمها لتنتقل بالأخرى بنفس السياق المتوهج.

ممثل2: هل كان حظه سيئا لدرجة أنه لا يستطيع السير إلا و يتعرض مجددا للشلل.

يتساءل ممثل2 عن الرجل الميت لاعتقاده انه ليس بميت ربما شاهد امارات جعلته يفكر بهذا المستوى من التفكير فتصوره مشلولا بسبب حظه السيء، وتعثره بحجر ما جعله يسقط هذه السقطة الابدية لكن زميله الاخر يجيبه جواب الواثق من ادواته التفسيرية والتأويلية.

ممثل1: لم يكن مشلولا, كان مهووسًا بالحركة, لم يتخذ الليل غطاءً له, ولم يسحب قميص الضباب فوق جسده ليتخفى.

ممثل5: لنحترم هذا الذي غادر ونكرمه دون أن نتحدث خارج الحدود.

يضع الممثل5 حدا للجدال والتفسيرات والابتعاد عما يؤرق منامهم ويبعث في نفوسهم الالم، بان اقترح عليهم دفن هذه الجثة قبل ان تكبر اشعاعاتها التساؤلية فتغرق الارض ومن عليها بكم كالمطر من الاسئلة والتي ربما اجيب عنها بشكل خاطئ، وبالتالي سيحدث ما لا يحمد عقباه، او بالأحرى شخصية هذا الممثل5 شخصية تخاف من خيالها يبحث عن الدعة والحياد عن كل ما يثير التساؤل لكنه ينسى انه بنفس المركب وسيتعرض لعواصف التغيير بشكل او بآخر شاء ام ابى رغم رغبته في عدم المواجهة ،وقد يكون واحدا ممن تلوثت يداه بالحال التي وصلت اليها الجثة لذا يريد ان يخفي جريمته وكم من المجرمين من امثال هذه الشخصية الانانية يعيشون بيننا يقتلون القتيل ويتلقون عزاءه.

ومن هذا الاتجاه انطلقت هذه الحوارات التي اشرت الى تبادل الجميع للاتهامات في ما وصلت اليه هذه الجثة المرمية على الارض، وكان الجميع يرمي المسؤولية على غيره متنصلا من تبعاتها القانونية والشرعية والاخلاقية والانسانية.

ممثل4: هل يتذكر أحدكم كيف مات؟

ممثل1: مات كما لم يمت أحد من قبل ..

ممثل5: كان يردد مقطعه بشكل جميل, كان يغني, كان يقف على خشبة المسرح كالأبطال.

لجأ الكاتب الى مزدوجات هويتها الثنائية في الاسترخاء والتوتر والاقتراب والابتعاد والكر والفر غايتها التقاط الانفاس ومحطة استراحة لمحارب اجهدته المواجهة المحتدمة مع منح القارئ بعضا من صفاء ذهنٍ لتلقي سيلا اخر من الصفعات المتشحة بكل ما هو محظور ومحذور من الحقائق مصورا اياها كالموجات الجيبية ذات الدوائر النصفية محيلا ايانا بمعية القاري والمتفرج مستقبلا الى ركوب قطار الموت في مدينة العاب النص بالانخفاض والارتفاع مع قلق ورعب كبيرين.

ممثل1: تعلم أنّك ستخرج بعد رفقته حزينًا, كنت تعلم ذلك وأحضرت برفقة أشواقك وأمنياتك الشّاحبة، سكينًا حادة ودسستها بينهم.

ممثل5: لكنني لم أقتله, هو جاء شاحبًا, كان يرقص ببطء, كان الألم يأكله.

ممثل3: عندما عمّقت يدك في جوفه و انتزعت روحه, فيم كنت تفكر؟

ممثل5: لم أقتله, ولم أحاول أن أقف في وجهه قط, هو جاء مبتلًا بالألم, يمد لسانه للأمام, ويهرب من كل شيء, أعطاني يده.

المجموعة: فقطعتها؟

ممثل5: لا, لكنني كنت أمسك بأطراف الكرسي الذي يهتز, كل الأشياء تفقد قيمتها عندما نتركها تهتز لتسقطنا.

المجموعة: لم تنقذه.

ممثل5: حاولت أن أدفع يدي له لكن الكرسي أخذ يهتز بشدة.

ممثل3: يُقال بأن الغصن الذي غادر الشجرة عاد إليها فأسًا وأسقطها دون أن تسقط في قلبه رحمة عليها.

لذا كان لدى الكثير من هؤلاء الجوقة الرغبة في ان يحترق لو خُير ان يكون شجرة كي لا يصنع منه فأسا يقتطع اخته الشجرة الاخرى وهذا ما اسلفنا قوله بوجود حالة من تأنيب الضمير في مغادرة الشجرة الكبيرة المتمثلة بالجثة والعودة اليها كفأس تقتطعها. حقيقة جعلني الكاتب ابراهيم الحارثي اعوم في بحر من الميتافيزيقيا المتطورة نحو الباتافيزيقيا شكلا ومعنى.

اخيرا يلجأ الجميع الى حل ينهي جدالهم بدفن هذه الجثة والتخلص من تبعاتها لكنهم يصطدمون بالتالي.

ممثل3: احرص على أخذ تصريح دفن.

ممثل1: تصريح دفن, سهل, كثير هم الموتى, والمقابر لن تتوقف عن التهام الجثث المتخشبة.

ممثل3: متى سنتلقى العزاء؟

ممثل2: بعد أن يتم دفنه.

ممثل3: ولماذا لم يتم دفنه إلى الآن؟

عودة للعجز وعدم الفاعلية من قبل المجموعة وذلك من خلال عدم الحصول على تصريح للدفن الا اننا يمكن ان نرجعه لسببين الاول قيمة هذه الجثة الاشعاعية بالسميائيات والتي لا يليق بها ان تدفن مختفية تحت طيات نهاية أبدية لأنها خلقت وتكونت في الوجود في الضوء كقمة هرمية تأخذ بالأنظار وتلهب حماس الكونيين في جعلها وسيلة نحو بلوغ الشمس، وكما في الآية الكريمة (وابتغوا اليه الوسيلة) ولو انها اختفت من على وجه الارض ستترك فراغا كبيرا لا يمكن ردمه او شغله بكتلة اخرى.

والثاني لرفض اهل الحل والعقد وجود هذه السيميائيات في أمصارهم وبين قواعدهم الشعبية التي لا تفقه ابعد من انوفها، وكما قال معاوية ابن ابي سفيان لعلي ابن ابي طالب في حرب صفين سآتيك برجال لا يميزون بين الناقة والجمل، كل ذلك لاعتقادهم ان ظلامهم مهدد من قبل كتلة النور المتجلية من بين خيوط كفن هذه الجثة المتيبسة، وهذا الخوف لازم جميع الذين اخلدوا للأرض فتراهم يقمعون النور بدفنه ناسين او متناسين ان النور طاقة لو انها شعت في مكان ما لا يمكن لها ان تتلاشى او تضمحل او تنتهي فهي باقية بقاء ما ورث عنها من تجلٍّ حتى فيمن استحالت لديه بأشكال اخرى من الطاقة (الطاقة لا تفنى ولا تخلق من عدم).

لله درك ايها الحارثي كم جعلت جلدي يقشعر وانت توجه عتادك الفكري الى اعماق ارواحنا وعقولنا لتنشئ وبقدرة منقطعة النظير هذا الكم الهائل من الصور الجميلة المعبرة.

ما الذي جرى بعد ذلك الدافع الحيوي في حياة الاحياء يطلق دافعا أكثر حيوية من سنخه وجنسه وهويته لا يحيد عن ابجدياته يدفع المجموعة الى الابداع والتطور المتشكل معرفة تقوم على التداعي والتأويل بإيجاد الحلول بعد صراع كبير بين الشخصية المنفردة مع نفسها من جانب وبين الافراد والمجموعة مع المجتمع والقوانين من جانب اخر بانتقالات درامية سريعة ظاهرها النقاش والمحاسبة وباطنها المسؤولية والتحلل منها رغبة بالخلاص.

ممثل4: الأرض ضيقة, لم تعد قادرة على بلع جثته

كلام منطقي رغم سعة الارض الا انها تعجز ان تبلع جثة هذا القادم من خلف اسوار الحياة وحقيقتها اما لعظم عديد الجثث التي اجترتها بقيءٍ وابتلاع على مدى سنين رقاد الجثة وهذا الامر لا يخلو من مسؤولية ترمى على الجثة لان سبب عديد هذه الجثث ينبع من درامية الموت الاول لهذه الجثة التي كانت ولا زالت منطلق هذا الموت المجاني اليومي لذا لم يعد هناك شبر يسع جثة بهذا الحجم الكبير والهائل والذي يفوق حجم الارض، وهذا الامر يذكرني بسؤال عقائدي هل ممكن ان يضع الله الكون في بيضة؟

ممثل5: منذ أن داهمنا الجفاف ونحن نحاول أن نهرب منه لكننا نفشل فنعود له.

ممثل2: ومن هو الغبي الذي لا يفكر في الفرار من الحياة؟

دهشة تحدث لدى المتلقي وهو يمر بعينيه ونصفي مخه على هذه البردية السومرية لعمق الكلمات وفيض صورها مع رنين خاص يجردنا من غبائنا وينتقل بنا الى عوالم لا ترقى اليها سفاسف الحياة.

يحاول أحدهم ان يجفف الجثة حد التلاشي وكأن رضاها واحترامها يكمن في الارتفاع من الارض والاختفاء عن الانظار، والاخر يصر على الدفن لنفس الهاجس لأنهم في ذلك يريدون الهرب مجرد الهرب منها لما لها من اشعاعات تجعلهم في صراع مع الواقع المرير والطغاة والقهر الذي أصبح ملازما لهم كخيالهم، وهذا ما لا يريدونه لأنه سيفقدهم كل مكتسباتهم الآيلة للاندثار بمجرد قولة (لا).

وفي النهاية يعترف اهل الحل والعقد ومصرحو الدفن بان هذه الجثة غير مشمولة بالدفن لأنها لا تستحق الدفن دون ذكر الاسباب كنوع من الهروب من المواجهة التي لا تقبل الا بزلزلة الارض على من عليها. وهنا اتذكر مقولة لاحد الاولياء الصالحين “لو اني تكلمت لماجت الارض باهلها”.

ممثل3: يا ناس يا عالم , اشهدوا , هذا الشخص يحاول أن يجعلنا نتجاوز النظام.

ممثل2: يا أخي تصريح دفن لأمثاله ممنوع.

ممثل3: يا أخي النظام واضح, و لن نتجاوز النظام, لا نستطيع دفن هذا الميت.

النظام؟ أي نظام هذا؟ بالتأكيد انه النظام الكوني، النظام المتناسق الذي لا يبخس الحقائق نظارتها او النظام العالمي الرافض للكونيين.

وبعد إطلاق هذه العبارة الكبيرة يجد الجميع أنفسهم امام فكرة كبيرة المح اليها الكاتب.

ممثل4: سيبقى ممدودا كجناح نورس, يحلق بقوة صوب السماء, لن يكتفي بالتحليق, سيسافر نحو الشمس, لن يكتفي بالشمس ربما يكون هو الشمس.

نتذكر ان الحوار الاول انطلق من ممثل1 بعبارة :

ممثل1: الجفاف يستمر دون أن تأتي غيمة لتنشر الحياة.

لينتهي الحوار به، وعبارة تؤسس لنظرية الحلول من خلال اعتناق فكر هذه الجثة التي نهضت لتوها وعودتها للحياة التي لم تفارقها لذا كان لزاما ان نتعلم منها فنتماهى معها وبها واليها.

ممثل1: دعونا نكرر البحث عنّا, ربما نجد أنفسنا فيه.

الجثة تقف على قدميها, الإضاءة التأكيدية عليه, الممثلون يجتمعون ويتفرقون, يتفرقون ويجتمعون, الجثة تسحب القماش الأبيض, تبتسم, وتغادر أرض المسرح.

اكتفي بهذا القدر من التحليل لأنني لو تطرقت لكل خبايا النص لانتهت حياتي بمقالة نقدية واحدة بطلها النص المسرحي (دوران) لكن في النهاية اجدني ملزما نفسي والاخرين ان نكتب بهذا المستوى من الانفجارات الفلسفية الرصينة.

 

بقلم: كاظم اللامي

http://www.middle-east-online.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *