فكتور هيغو صانع الدراما الرومانسية من خلال حسناء المحرمات

 

اكتسب فكتور هيغو (1802 /1885) شهرته من أعماله الروائية مثل “عمّال البحر” و”أحدب نوتردام” وخاصة “البؤساء”، ومن دواوينه الشعرية أيضا “أوراق الخريف” و”أغاني الغروب” و”التأمّلات”، رغم أن إنتاجه المسرحي لم يكن دونها قيمة، فقد ألّف أعمالا مسرحية متميزة مثل “كرومويل” و”هرناني” و”روي بلاس” وبالأخص “لوكريس بورجيا” التي تعرض حاليا في أربعة مسارح باريسية كبرى.

هذه المسرحية كتبها فكتور هيغو في مطلع العام 1933، أي بعد سنة من فشل مسرحيته “الملك يمرح” التي صادرتها السلطة الملكية منذ عرضها الأول بمسرح الكوميدي فرنسيز.

ورغم أن تأليفها لم يستغرق أكثر من أسبوعين، حازت الإعجاب منذ عرضها الأول بمسرح باب سان مارتن، في 2 فبراير من العام نفسه، لما تميزت به من بنية فنية مستحدثة تقطع مع وحدة المكان والزمان، وتخالف ما عهده المسرح الكلاسيكي.

وقد عرف هذا التيار الجديد وقتها بالدراما الرومانسية، وكان من أهمّ أنصاره تيوفيل غوتييه وألكسندر دوماس.

لا مراء أن بعض الشخصيات التاريخية تعبر العصور وتستقر في المخيال الجمعي، فتصبح أسماؤها متصلة بسيل من الدلالات والرموز. ولوكريس بورجيا (1480 /1519)، أو “لوكريتسيا بورجيا” كما تنطق بلغة أهلها، لا تخرج عن هذا السياق، فهي حسناء، جمعت إلى قسوة الطبع وحب التآمر والتعطش إلى الدماء، الانحلال الخلقي وارتكاب زنا المحارم.

هي الابنة غير الشرعية للكردينال رودريغو بورجيا الذي سوف يصبح في ما بعد البابا الإسكندر السادس، وهي أخت سيزار بورجيا الذي سيستوحي منه ماكيافيلّي كتابه الشهير “الأمير”.

وبالرغم من أن أباها وأخاها يكنّان لها محبة صادقة، فإنها ظلت في نظرهما وسيلة لتحقيق مطامحهما السياسية، كحال النساء في عصرها ومكانتها. ولم تشرع في العيش كما تهوى إلا بعد أن تخلصت من أزواجها الثلاثة الأوَل. البطلة إذن شخصية حقيقية كانت مثل نقطة ثابتة في عين زوبعة لا تنتهي، تتحرك في جو من الفضائح والخيانات الزوجية وزنا المحارم والجرائم، غير مبالية بالأحقاد التي تثيرها.

ولكن فكتور هيغو يقدمها في هيئة عاشقة تحنو على جندي شاب يغط في النوم. ثم نكتشف أن علائق الحب التي تربطهما هي من نوع لا نتوقعه، ما يساهم في حل العقدة الدرامية واكتشاف أكثر سمات البطلة إنسانية في الوقت ذاته.

هذا العمل المشبع بإحالات كثيرة على التراجيديا اليونانية يحتل مكانة خاصة في مسرح هوغو، حيث وقع الاعتماد فيه على القالب النثري بدل الشعر الإسكندري، والاستعاضة عن العقد المتقاطعة والحديث المنفرد والاستبطان السيكولوجي بالنسق اللاهث للتصعيد الدرامي حتى لحظة التنوير العنيفة، ليقدم في دراما من ثلاثة فصول امرأة يتنازعها العشق والأمومة، وتجد نفسها في قبضة قدر محتوم يهدد ابنها جينّارو.

تصرف هوغو في الواقع التاريخي وصاغ المسرحية وفق رؤيته الدرامية، فجعل من لوكريس قاتلة أخيها بدل سيزار، ليحولها إلى وحش مسكون بالحبّ. وبذلك أوجد ما سماه أنطونين أرطو “مسرح القسوة”.

ولكن ما يبرز من إخراج دوني بوداليديس على خشبة الكوميدي فرنسيز هو البعد الأوديبي للمسرحية، وعدم تمكن الشخصيات من السيطرة على هوياتها. فلوكريس ابنة البابا أنجبت ولدا هو جينارو من أخيها سيزار. عندما كبر الفتى وصار جنديا في جمهورية البندقية كان يجهل كل شيء عن هويته.

يقول هيغو في مقدمة المسرحية: “من تكون لوكريس بورجيا؟ خذوا أكثر الانحرافات الأخلاقية بشاعة، ضعوها في أفضل موضع يُجليها، أي في قلب امرأة مع كل شروط الجمال الجسدي والسموّ الملكي وكل ما يجعل الجريمة نزوة، ثم امزجوا ذلك الانحراف الخلقي بإحساس نقي، أنقى ما يمكن أن ينتاب امرأة، أي إحساس الأمومة. ضعوا أمًّا داخل كل وحش، تروا أنه سيصبح مثار اهتمامنا، وسيدفعنا إلى البكاء. هذا المخلوق الذي كان يثير خوفنا سوف يثير شفقتنا”.

لتقديم تلك الأم الفظيعة كما تصورها هوغو، تلك الفاسقة القاتلة التي تبحث عن الطهر والنقاء في حب ملتبس تكنه لولدها، كان لا بدّ من تمثل شخصية فيدرا ممزوجة بميديا، أي شخصية تراجيدية ذات جسد مشتعل وقلب محترق، شخصية خارج الأطر والأنماط.

لذلك اعتبر النقاد لجوء بوداليديس إلى التنكر على طريقة الأوناغاتا الياباني بمنح دور المرأة لرجل (غيوم غاليان) وإسناد دور الرجل لامرأة (سوليان براهيم) أفقد المسرحية توهجها وتوترها.

فهيغو، المعجب بشكسبير، كان يميل إلى عرض المتناقضات والمزج المرعب بين السموّ والرفعة وبين ما يثير السخرية والشفقة، وقد جدد الكتابة الدرامية في عصره، وجعلها أقرب إلى الكتابة السينمائية بتنويع المشاهد العنيفة وتكثيف عناصر التشويق عبر عمليات “القطع” المتواترة، والغموض الذي يغلف الشخصيات، فهي مجرمة بشكل أو بآخر، ولكن دون أن تكون كريهة أو مقيتة.

وتلك سمة هيغو، حيث يسير على خيط من المتناقضات، واضعا جنبا إلى جنب الأبيض والأسود، الطاهر والمدنس، النعيم والجحيم دونما تصنّع. وجسد لوكريس بورجيا هو جسد التراجيديا، موطن الشرور، والمكان الذي يولد فيه هو جسد امرأة.

أبو بكر العيادي

http://www.alarabonline.org/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *