فلسطين هي أرض “مسرح المضطهدين”

 

 

وعيي الاجتماعي وارتباطي بالنظريات والفلسفة الاجتماعية منحني ثقة في ان المسرح يستطيع أن يصنع تغييراً


المقاومة اليومية هي في أن نعي ذاتنا وننطلق باتجاه اللاعنف فالفن ينتصر للحياة

> ممثلة ومخرجة ومدربة مسرحية فلسطينية انطلق مشوارها من فرقة “مسرح الحكواتي” لتؤسس وتُدير “مؤسسة عشتار لتدريب المسرح”،متبنية فكر وفلسفة مسرح المضطهدين،محققة من خلاله نجاحاً أصبح من خلاله مسرح عشتار مفوضاً بكتابة مناهج الدراما للمدارس الفلسطينية وعنواناً كبيراً من عناوين التدريب المسرحي ليس في فلسطين وإنما في المحيط العربي والدولي…
في هذا الحوار نحاول الاقتراب من تجربتها المسرحية في مسرح عشتار ومسرح المضطهدين عموما :

* كيف استطعت أن تتجاوزين معوقات نجاحك كامرأة وكمسرحية وفي بلد محتل ؟
– بالفعل فلسطين تحت الاحتلال ويعاني مجتمعنا كثيراً من المشاكل سببها الاحتلال …لكن فلسطين ما قبل الاحتلال وما قبل النكبة كانت قوية جداً ثقافيا،وبالتالي الأساسات موجودة لمجتمع يحترم الثقافة وينتجها ويبدع فيها،ولديه قاعدة ومساحة واسعة من التعبير الحر؛إلا أن تفريغ المجتمع الفلسطيني،فيما بعد النكبة والشتات،من عناصره التي كانت قائمة عليها الثقافة في حينه أدى- بالتأكيد-إلى اختلال موازين الثقافة والتربية والبحث العلمي والإنتاج الفكري وغيرها في الداخل،لكن بقيت النواة وبقيت الرغبة في الاستمرار على الرغم مما حصل..هذا بحد ذاته أعطى دفعة للشعب الفلسطيني للحفاظ على هويته وعناصره الثقافية،وإن كانت عناصر بُهتت أو تشتتت..والمجتمع الفلسطيني مجتمع عربي لديه حس المحافظة ،وبالتالي فهناك محاولات اجتماعية تقليدية دائمة الضغط على المرأة تحت مسميات العيب والشرف والحرام وان لا تنخرط كثيراً في مجالات الفن،وإن كان ثمة مسؤول عن ذلك فهو الاحتلال،فالاحتلال اثر بلا شك على كل مجالات الحياة،ولكن بعد وجود الاحتلال هناك احتلالات وجدران صغيرة يشكلها الفرد في داخل ذاته وأسرته وبيئته…فالمجتمع مضطهد من الاحتلال،لكن هناك الرجل الأقوى في الأسرة مُضطِهد لمن هو أضعف منه ،وعادةً الأضعف في كل المجتمعات هي المرأة،وبالإضافة إلى المرأة هناك الأطفال وخصوصاً الفتيات..أقول قولي هذا وأناقضه لان تجربتنا في مسرح عشتار وهي المؤسسة التي أقوم عليها وافَّعلها فنياً استطاعت ان تتجاوز كثير من المعوقات…
* كيف تبلورت فكرة مسرح عشتار وتجاوزت تلك المعوقات الكثيرة ؟
– درستُ علوم اجتماعية وتخصصتُ فيما يسمي “العلاج النفسي عن طريق الدراما” ،وبموازاة الدراسة كان المسرح باستمرار يسير يداً بيد مع دراستي،صاحب ذلك ان وعيي الاجتماعي وارتباطي بالنظريات والفلسفة الاجتماعية أعطاني قوة ومنحني ثقة في ان المسرح يستطيع ان يصنع تغييراً وأن دوري كبير في هذا المجال؛لأنني على دراية به..ومن هنا كان عندي رغبة شديدة في ان ابدأ مع شريكي في المسرح ادوار معلم وهو زوجي وشريك دربي الفني،في تأسيس مسرح عشتار ليكون أول مدرسة مسرحية في فلسطين،وتكون البداية في تعليم الفتيات والشباب..وللعلم فانه قبل مسرح عشتار لم يكن في فلسطين أي تعليم من هذا النوع..فقط كان هناك فرق مسرحية منها فرقة الحكواتي التي انضممت إليها في العام 1984م ،وكانت هذه الفرقة من أكثر الفرق الفلسطينية تجولاً في أوروبا ؛لان فلسطين فيما قبل تسعينيات القرن الماضي كان محرومة من التواصل مع العالم العربي وبخاصة ما هو قادم من القدس.. وقد تشظت هذه الفرقة لعدة مؤسسات منها مؤسسة مسرح عشتار التي أسسناها في 1991م عملياً ،وأصبح فيها اليوم عدد لا بأس به من المنخرطين في عالم المسرح من الشباب بما فيهم الفتيات اللاتي تتزايد أعدادهن …واستطعنا ان نتجاوز المعوقات الاجتماعية خطوة خطوة حتى أصبح المجتمع يأتي إلينا ويطلبون منا تدريب أبنائهم..بالطبع لم يكن في البداية في كل المناطق الفلسطينية لكن صار عملنا حالياً في كل مناطق فلسطين،وعلى الرغم من أنني من القدس إلا أننا نعمل في كل المناطق الفلسطينية بما فيها الضفة وغزة…وقد مررنا في مسرح عشتار بعدة مراحل فمنذ بداية 1991م حتى 1994م كانت سنوات تأسيس،وفي هذه السنوات واجهنا صعوبة في إقناع المجتمع المحلي،لكنا حققنا نتائج متميزة في التدريب وتعليم الدراما،حتى صار عنوان تعليم الدراما داخل فلسطين هو مسرح عشتار،وإلى ان فوضتنا وزارة التربية والتعليم لكتابة منهج الدراما للمدارس وتدريب المدربين من المعلمين،وبالتالي أصبح مسرح عشتار عنوانا للتدريب المسرحي في فلسطين.
* بعد ذلك لِمَ تبنيتم تجربة وفلسفة مسرح المضطهدين للمخرج البرازيلي أوغستو بوال؟
– بعدما أصبح لنا حضور وصوت على الساحة الفلسطينية التربوية والفنية،وكوننا في فلسطين نعيش في (كونتنات) ومناطق معزولة،بسبب الحواجز التي تتكاثر على ارض الواقع مع استمرار ترهل الاقتصاد الفلسطيني ،وهو ما لم يعد معه الجمهور قادراً على التواصل مع أي عمل فني… وفي ظل غياب الجمهور يبقى من الصعب الحديث عن عمل فني ،لذا فكرنا في إستراتيجية جديدة للوصول إلى جمهورنا…فكان مسرح المضطهدين هو الإستراتيجية التي تجاوزنا بها معوقات الوصول إلى الجمهور؛ لأن هذا المسرح يتيح لك ان تعمل بأبسط الإمكانات وان تنتقل إلى الجمهور وتتيح للجمهور ان يتفاعل مع العناصر المسرحية ويتحاور معها …وكنت خلال دراستي للعلاج النفسي بالدراما قد تعرفت على نظرية مسرح المضطهدين،وقرأت عنها وأعجبتني؛لأنها تتيح لك فهم أعمق للمجتمع وقرب أقوى من الناس،وثقة أكبر بالمسرح وانه ليس تقنية صعبة،فالمسرح يمكن ان يكون فعلاً يومياً بسيطاً ويمكن لأي شخص ان يقوم بفعل مسرحي،أي من خلال عناصر قليلة يصبح لديك مسرحاً حقيقيا.
* ولماذا لم تعملوا على هذه النظرية والمنهجية من البداية ؟
– بسبب التخوف من عدم تقبل الجمهور لها،أجلتُ الانخراط في التجربة عملياً..وخلال مراحل عملنا،وهي المراحل التي كنا فيها لا نعمل وحدنا،حيث كنا ندعو زملاء وأصدقاء لهم تجاربهم في بلدان أخرى رغبة في تطوير تجربتنا وتعزيز نجاحنا،فعملنا مع أصدقاء جاؤوا إلينا من دول مختلفة ودربونا حتى صرنا في علاقة مباشرة مع مسرح أوغستو بوال البرازيلي منذ عام 1997م …وكانت بدايتنا في هذا المسرح عندما عملنا مع أصدقاء سويسريين ضمن برنامج تدريب..وكان من حسن حظنا انه كان من بين هؤلاء الفنانين السويسريين زميل لنا لديه خلفية في تجربة نظرية هذا المسرح عملياً،وخضع لتجارب في بلد هذا المسرح،فمرر لنا أول طريقة لتطبيق النظرية،فتجاوزنا،من خلاله،حاجز التخوف من تقبل الجمهور لها..بل شعرنا،من التجربة الأولى لنا في هذا المسرح،أن فلسطين هي أرض هذا المسرح، وأن من يستحق هذا المسرح من المضطهدين هم الفلسطينيين. فبدأنا ليس فقط في أعمال مسرحية تعرض للجمهور،وإنما بدأنا بتفكير استراتيجي أكثر،وهو كيف يمكن لهذا المسرح أن يتأسس بصورة متجذرة داخل فلسطين..فكنَّا ننجز عملاً مسرحياً سنوياً ،ونتجول به نحو140 عرضاً في القرى والمدن الفلسطينية،وأحياناً عند اشتداد الحواجز ومنع التجوال ،كنا نتنقل على الحمير أو سيراً على الأقدام ،ونضع الديكور على عربات،ونظل نسير لساعات حتى نصل إلى حيث نريد العرض ..
* كل هذا يزيد من ميزانية هذه العروض..ما مصادر تمويل أعمالكم خاصة وان عروضكم مجانية حد علمي؟

 

 

/ أحمد الأغبري
– داخل فلسطين لا يوجد تمويل حكومي؛ لأنه – أولاً- بالكاد توجد حكومة، وثانياً:بالكاد يوجد مال، وثالثاً:إذا توفر مال للحكومة لا يتوفر مال للثقافة،فموازنة وزارة الثقافة هي واحد بالألف من موازنة الحكومة… ولا تتعدى مئة ألف دولا ر في السنة وهو مبلغ بالكاد يكفي مرتبات الموظفين..وبالتالي من يريد العمل فأمامه خياران: إما أن يعمل بشكل فردي ومجاناً،وإما ان يكوِّن مؤسسة،ومعنى المؤسسة ان تدفع رواتب وتخضع لقوانين ..و نحن مؤسسة، وبالتالي كان لابد من التوجه إلى المنظمات المانحة للاستفادة من المنح الثقافية التي تقدمها كثير من المؤسسات الأوروبية..
* لكن كثيراً من المؤسسات المانحة تقدم تمويلاً مشروطاً قد ينحرف بمسار العمل…؟
– نحن نرفض ذلك بشدة..فنحن أبناء المجتمع ونعرف ما يحتاجه مجتمعنا…وهذه المؤسسات لا تناقشنا فيما نقدمه من موضوعات..برامجنا ملك لنا،لكننا نبيع الفكرة ،بمعنى أن نضع الفكرة ،ونقدم البرنامج مكتملاً محدداً بالكلفة،والمطلوب منهم الموافقة على التمويل أو عدم الموافقة..
* لكن لدى بعض هذه المؤسسات حساسية من بعض المفاهيم كالمقاومة وغيرها من الأفكار المرتبطة جدليا بالمفهوم المتأرجح للإرهاب..؟
– ذلك مرتبط برؤيتنا نحن ،وبالنسبة لنا فالمقاومة اليومية والصمود هي في أن نعي ذاتنا وننطلق باتجاه اللاعنف أياً كان..نحن مع المقاومة من أجل الحياة والتغيير وليس من أجل الموت.نريد أعمالاً لا تُخرِج الناس يطلقون النار من أجل الفوضى،وإنما تُحرر الناس من قيودها واحتلالاتها الصغيرة التي تتزاحم في الداخل الإنساني ..فمتى تحررنا من الداخل ننطلق لنتحرر من المحتل.وعموماً الفن ينتصر للحياة وليس للموت.
* لكن الحياة بكرامة …؟
– نعم الحياة بكرامة،و حتى يكون عندنا كرامة لابد أن نُثِّمن حياتنا,فنحن من يصنع كرامة أنفسنا.الكرامة تنتج عن وعي وممارسة الحرية التي نصنعها في داخلنا.نحن مع التخلص من الاحتلال وهذا لابد له من طريق طويل والتحرر حقنا ولن نتخلى عنه..
*وإلى أي مدى استطعتم من خلال مسرح المضطهدين الاقتراب من قضايا الناس ؟
– استطعنا من خلال هذا المسرح طرح الكثير من القضايا عبر العديد من المسرحيات ،فأثرنا العديد من الموضوعات المسكوت عنها اجتماعيا وسياسيا وثقافيا،وفي كل مرة لم نجد من يعترض طريقنا ،باستثناء مرات قليلة كان يظهر فيها أناس لم يعجبهم ما نتطرق له..لكن المنصة كانت هي التي تحفظ حق مَنْ هم مع ومَنْ هم ضد؛لأنك في مسرح المضطهدين تقول ما تشاء…ليس كتنفيس وإنما كحوار ؛فمن حقك الطبيعي أن تتحاور وتتفاعل مع الآخرين وتتبادل الأفكار معهم ،أي أننا في مسرح المضطهدين لا نستطيع ان نفرض مع أو ضد…
* وما الذي أضافته التجربة الفلسطينية من خلال مسرح عشتار لمسرح المضطهدين ؟
– الجديد لمؤسسة عشتار هو أنها نقلت مسرح المضطهدين من بين الناس إلى التلفزيون.نحن نقلنا هذا المسرح للتلفزيون،وجعلنا تفاعل الجمهور مع المسرح تلفزيونياً…أي انه يتم تسجيل المسرحية داخل الاستديو…بينما المشاهدون مرتبطون ببيوتهم مع صناع القرار من خلال الحوار في الحدث المسرحي الذي يتناول قضاياهم..محققين نجاح جعلنا محط ثقة برامج تدريبية خارج فلسطين..ولعل ما نلناه وحققناه من نجاحات في عدد من المهرجانات شهادة نعتز بها .
*حققتم هذا النجاح فيما لايزال المسرح الفلسطيني يفتقد لعناصر مهمة…؟
– كان وراء نجاحنا إيماننا بدور المسرح ومثابرتنا وعملنا المتواصل وخصوصية القضايا التي نرفعها وعدم توقفنا عن تطوير عملنا ،فاستمرينا نتعلم ونستفيد من تجارب عديدة من العالم؛فاكتسبنا إمكانات تجاوزنا من خلالها مشاكل عدم وجود تعليم وحراك مسرحي في فلسطين…ففي فلسطين لا يوجد أكاديمية مسرحية،إلا من السنة الماضية…وبالتالي نفتقد لعناصر مهمة منها انه لا يوجد،حتى اليوم،في فلسطين كُتَّاب مسرحيون، لدرجة انه لا يوجد لدينا حتى كاتب أو ناقد مسرحي واحد..لكن كان هناك فِرَق وجهود فردية ومخرجين وممثلين جيدين…كل هذا ساعد على تجاوز تلك المعوقات.يمكن انه كان أمراً جيداً انه لا يوجد لدينا كُتَّاب مسرحيين؛لأن الكاتب إذا لم يكن مرتبطاً بالحراك المسرحي فهو يكتب للقراءة..أما نحن فنكتب لأنفسنا.
*وهل كان هذا وراء اتجاهك للكتابة بجانب التمثيل والإخراج والتدريب؟
– ربما..و ربما أننا عوضنا نقص الكتاب المسرحيين في أن الفرق تكتب لذاتها من خلال الكتابة الجماعية،وأخذ قصص حياتيه وتحويلها على أعمال مسرحية فيصبح المخرج والممثل كُتَّاب في العملية المسرحية..
*لكن على الرغم من ذلك استطاع المسرح الفلسطيني ان يثبت على المسرح العالمي..؟
– اعتقد ان الكتابة الجماعية أغنت المسرح الفلسطيني،وهو أن يكون مسرحاً مرئياً،و ربما هنا تكمن أهميته،أي أنه ليس مسرح تقليدياً يعتمد على الكلمة المكتوبة..وحتى نستعيض عن الكلمة المكتوبة كان لابد ان يكون لدينا اشتغال مختلف على جسد قوي وبشكل صوري،ولهذا رفعنا المسرح الفلسطيني إلى مستوى عالمي.

 

/ أحمد الأغبري

 

http://www.althawranews.net/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *