مسرحية «يرما» للإسباني غارسيا لوركا: مأساة شعرية تكشف القوانين الأخلاقية الأوروبية في ثلاثينيات القرن الماضي

 

يصل شعر فريدريكو غارسيا لوركا بكل قوته الينا اليوم ونحن نحتاج إلى ضوء خاص جدا، ونحتاج أيضا، إلى ترجمة مخلصة للأزهار التي في لغته، وفي رقته، ووجدانه.
وينبغي المحافظة على ألوانه، السهر على ان لا تكون مجرد أصباغ. إن القمح الناضج، والورود المجففة، وصوف الاغنام الأصفر التي غالبا ما نجز رقبتها، والاحجار الحمراء، والغبار، والصلبان، والاحتفالات الوثنية، تزهر جميعها على خشبة هذا الإخراج الجميل ليرما، الذي قدم لنا جمالا ذكيا للغاية، من خلال: السينوغرافيا، الفيديو، الضوء، الازياء، بحيث كل شيء قد اشترك بهذه الرؤية التي تدين بشكل علني وصارخ، جمود العالم القروي، والكاثوليكي، الصامت عن اللاعدل، بمهارة وباستمرار؛ رؤية عبرت عن وحشية هذا العالم، وعنفه، ووثنيته المتفجرة.
إن «يرما» امرأة تعيش في صحراء من الحب، والشعور بالوحدة القاسية فهي غالبا ما تكون بمفردها، ليس لديها احد تتحدث إليه أو تسره، يرفضها المجتمع، لأنها وبكل بساطة، متهمة بالعقم، وهكذا فهي حبيسة مجتمع لا يريد أن يعترف بأن زوجها خوان هو السبب. ومع ذلك تحاول أن تعيش، وأن تتبادل بعض الكلمات مع رجل آخر. يرما وخوان، متزوجان منذ سنتين، ولكنهما لا يستطيعان ان ينجبا طفلا. يرما غير مرتاحة مع زوجها الذي يكبرها سنا ً، والذي لم يكن من اختيارها، بل اختيار أهلها لها، وقد قبلت بدورها بهذا الاختيار، ولم تعترض عليه، لاعتقادها بأن الغرض من الزواج هو الأبناء، لهذا كان كل طموحها هو أن تـٌرزق بطفل، لكن المشكلة أن خوان لا يهتم بهذا الأمر، ولم يعره أي اهتمام، وهذا ما يحول حياتهما إلى جحيم دائم. مع ذلك تظل يرما على أمل أن يتغير زوجها، وترزق بطفل. خوان زوجها رجل عملي، لا يحس بمعاناتها، ومتمسك بقناعاته الأخلاقية، ومع ذلك فإن يرما لا تريد ان تخونه أو تخدعه لاحترامها للتقاليد ولزوجها، فهي لا تريد ان تجرحه باي شكل من الاشكال، على الرغم من انجذابها إلى فكتور صديق طفولتها، الذي يبادلها الإعجاب أيضا، ولكنه لا يبوح به مثلها تماما، لخجله واتزانه واحترامه لزوجها. وسؤالنا هنا: لماذا خوان زوجها غير قادر على حب زوجته ؟ ولماذا لم تتركه يرما ؟ وما هي مكانة فكتور بين الزوجين ؟ كل شيء يدور بين الزوجين من خلال الصمت، والمسكوت عنه. وهذا يعني أن الزمن هو مركز الاحداث، سواء كان بالنسبة للشخصيات أو المخرج نفسه. كيف يمكن ترجمة هذا الوقت الذي يمر ؟ وهل أن الزمن يمضي ويفلت من بين اصابع اليد بنفس الطريقة التي يمر فيها في القرية ؟. وشيئا فشيئا يبتعد الزوجان عن بعضهما البعض. الزوج خوان يبدو عليه الاستسلام لهذه الحالة، فيحبس نفسه بمشاغل العمل، في حين أن يرما، على العكس، ترفض الاستسلام لقدرها، وتحاول بشتى الطرق الانتصار على مصيرها. وهكذا يصبح كل واحد منهما غريبا في بيته …
لقد كتب لوركا هذه المسرحية في عام 1934، وهي تشكل جزءا من ثلاثية تكتمل مع مسرحية «عرس الدم» (1933)، و»بيت برناردا ألبا» (1936). يستخدم لوركا، غالبا، في هذا العمل الشعري للغاية، الرموز ليكشف عن مشاعر الشخصيات، ولكي يؤكد على بعض الحالات المؤلمة فإنه يرمز، على سبيل المثال، للخصوبة عن طريق مياه المطر، والحليب أو صورة المصدر، في حين أن الحجر والرمل والجفاف تشير إلى العقم. أما صور الجدار، فيمثل العقبات التي تواجهها يرما. يتناول لوركا من خلال صياغته للكلمات الشعرية، دور المرأة في المجتمع الريفي. وهو لا يتحدث عن امرأة حكم عليها بالعقم، وإنما عن انسانة يائسة، تتوق لأن تكون محبوبة تشعر بأنوثتها التي تخاف ان تغادرها ذات يوم، دون الحصول على طفل. وقد قدم المخرج الاسباني دانيال سان بيدرو، هذه المأساة الشعرية، التي يشجب من خلالها لوركا، الحظ العاثر للنساء اللواتي يعشن في البلدان المخنوقة بالتقاليد، ناقلا لنا سلطته الشعرية بكل قوتها، مع مجموعة من الممثلين الاستثنائيين.
يرما الرقيقة دوما، امرأة متقدة، ساطعة وهاجة، وحديثة جدا. ولقد وضع على الارجح لوركا الكثير من نفسه في هذه المسرحية، بحيث بدت يرما كما لو انها فريدريكو لوركا نفسه. لاسيما أنه قد استلهم أحداثها من عائلته، مثلما يقول، ومن ازدواجيتها الخاصة، ومن صعوباتها في الحب، ومن عدم قدرتها على أن تلده هو نفسه، وهنا يكمن محرك مسرحيته. إن الحديث عن العقم الزوجي ، مثلما فعل لوركا، أو حتى تصوره، في المجتمع الذي عاش به، يعتبر موضوعا دراماتيكيا بامتياز، ويمكن أن يجعل من بطلته يرما امرأة مختلة العقل وخطرة على المجتمع. إنه تصريح يسبق زمنه، علما ان هناك العديد من مقاطع المسرحية التي تسلط الضوء بقوة على الظروف التي تعيشها المرأة في ذلك الوقت، وفي المجتمعات القديمة البالية، التي تمنع وصول الثقافة والمعرفة الى الفتيات. إن هذه المسألة لا زالت موجودة في العديد من المحافظات، وفي القرى الفرنسية، وفي الأماكن التي لازالت فيها التقاليد والعادات قوية، ولا تريد ان تستجيب لعجلة التطور، وقد تكون هذه التقاليد والعادات لذيذة، في بعض الاحيان، ولكنها في الغالب قمعية، وعفا عليها الزمن.
يتم تحديد وتحريف السلوكيات في مسرحية يرما، وفقا لما سيقوله الناس، والضغوط الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى ان ما يقال في هذه المسرحية حول الدين، في سياقات ثلاثينيات القرن الماضي، عنيف بشكل لا يصدق. بحيث يبدو لنا أن ما في اعمال لوركا، الكثير من الحجج، التي أدت إلى قتله. فلم تمر حواراته التهجمية على الدين، على سبيل المثال، مرور الكرام من قبل رجال الدين، الذين بعد سنوات قليلة، في وقت لاحق، باركوا اطلاق المدافع على الثوار، وقاموا بتمويل التمرد الفاشي. وفي بداية عام 1934، في مدريد، كانت هناك محاولة لعصابات اليمين المتطرف، لمنع النجاح الكبير الذي حققته مسرحية يرما. علما، إن لوركا لم يكن منتميا إلى طرف من الأطراف، وإن التزامه السياسي الأكثر وضوحا، هو استجابته الايجابية مع فرقته المسرحية البركا Barraca، لعملية حمل ونشر المسرح الكلاسيكي في الاماكن التي لم تكن متوفرة فيها حقوق المواطنة، وفي القرى، والارياف البعيدة عن الاضواء. إن مسرح لوركا، بشكل عام، لم يكن محايدا، إنه مرتبط بالسياق الاجتماعي والسياسي؛ فلوركا من أصول غرناطيه، ويشعر بقرب شديد مع الأقليات، البربر، واليهود، والغجر، ويمكن ان نضيف قربه من النساء أيضا. إنه مثل كل الفنانين الكبار، يعمل على تغير العقليات.
لقد احتفظ المخرج دانيال سان بيدرو، في عرضه المسرحي، باللغة الاسبانية، وخاصة في أجزائه الشعرية، من أجل أن يكون الصوت سليما، ومن اجل ان يحافظ على موسيقية المسرحية، وشهوانيتها، ومن أجل أن تكون ملهمة لمؤلفها الموسيقي أيضا. كانت أغلب المقاطع الشعرية مغناة. فمسرحية يرما، من وجهة النظر الدراماتورجية، تعتبر الأكثر موسيقية من بين اعمال لوركا، هذا بالإضافة إلى أن لديها وضعا خاصا، يكمن في موسيقيتها الشعرية التي لا تعمل على تقديم الحدث فقط، وإنما التعبير عن الجزء الذي لا يوصف من الاحداث، والحميمي لأبطالها الرئيسيين، وخاصة يرما. وقد لجأ المخرج إلى الصوت المغنى ذات النكهة الفلامنكيه، نسبة الى الفلامنكو، المعبرة جدا، والذي يوقظ فينا مشاعر واحاسيس قديمة مدفونة في عواطفنا الفسيولوجية بشكل مكثف جدا. وعلى الرغم من ان التأليف الموسيقي كان أصليا بشكل كامل، إلا أنه كان يلجأ أحيانا في مرجعيته إلى الموسيقى الشعبية الاندلسية. وقد اختار المخرج العزف على آلة البيانو، لأنها الآلة المحببة للوركا، التي كان يحب العزف عليها، ولقد وضع المخرج، على المسرح، عازف بيانو شابا، لكي يعطي حضورا للوركا من خلاله، وليكون عينه التي ترى، دون أن يكون مرئيا. وقد كان الغرض من هذا الخيار الموسيقي- في اعتقادنا- هو الهروب من الموسيقى الاسبانية التي ارتبطت بلوركا فترة طويلة، وانتجت الكثير من الكليشيهات التي حاول الكثير لصقها عنوة برجل غني البصيرة مثله. وقد انظمت، في هذا العرض، إلى موسيقى البيانو، العديد من آلات النقر، للحصول على الايقاع، الذي اصطحبنا إلى جنوب اسبانيا، ووحد المجموعة الموسيقية. وبالإضافة إلى الصوتين الغنائيين الذكوريين والانثويين، كان هناك صوت غناء الممثلين أيضا. وكل هذا قد جنب المنافسة بين اللغة الفرنسية والاسبانية، وبين الغناء والكلام، بين الشعر والحوار، بحيث كانت جميع هذه الاشكال متجانسة فيما بينهما وكأنها خطاب واحد، مع فروق هجائية اضافية. وكان هناك الرقص أيضا، مثلما كان يتمنى لوركا نفسه، رقص على هيئة الطقوس الوثنية، التي تلجأ إليها يرما للتأثير على مسار مصيرها. ولقد كان هذا الرقص بين الذكور التوراتية والنسائية، والشيطان وزوجته. ف «يرما» مثلما طالعنا العرض تلجأ إلى الساحرة الوثنية، التي تعرض عليها الهروب من زوجها، والزواج من ابنها الذي سيمنحها الطفل الذي تريد وتنتظر، ولكن يرما ترفض مقترحها الشيطاني، فتنسحب العجوز، وتتفاجأ يرما بأن زوجها خوان كان يسترق السمع للحوار كله، من أوله إلى آخره. فيدور بينهما حوار يعلن فيه الزوج عن عدم رغبته في أن يكون له طفل منها، وهنا تفقد يرما السيطرة على نفسها، وتلف يديها حول عنقه بقوة، حتى تأتي عليه، وهي تصيح: «لقد قتلت طفلي».
لقد كان يبحث المخرج من خلال هذا العرض، عن التماسك، وعن عملية توليف الفنون الغنائية، والموسيقية، والرقص، والتراجيدية، والضوء والديكور، والازياء، في قصة واحدة. وقد اشتغل مع الممثلين بنفس الطريقة التي اشتغل فيها مع الموسيقيين، من خلال بحثه عن الجرس الصوتي، ومكانته، وايقاعه. وهذا بحد ذاته، ما يشير إلى مدى غرام، وتعلق المخرج بصوت الكلمات وأثره، وقدرته على التفجر في الفضاء، وكذلك الصمت الممتلئ، الذي يقول كل شيء من خلال الكلام، ولحظات من هذا النوع كانت كثيرة في العرض، دارت بين الزوجين، وبين يرما وصديق طفولتها فكتور. أما السينوغرافيا، فقد كانت عارية تقريبا، ومتقشفة جدا، وكان دورها في الكثير من الاحيان، التفريق بكل بساطة، بين ما هو خارجي وما هو داخلي، بالاعتماد على نفس المواد والاكسسوارات. كان اللون الأسود يهيمن على العالم الذي تعيش فيه يرما حبيسة. وقد لعب الضوء دورا كبيرا في ابراز الشخصيات ومنتجتها، من خلال المساقط التي كانت تركز عليهم بشكل مكثف لدرجة العزل. أما ازياء العرض جاءت قريبة من لوحات الرسام الاسباني غويا، وكان فيها بحث واضح عن الثقافة الجنوبية الاسبانية، وجزء من جماليتها، ولكن مع بعض قلق الحداثة. ومن ملاحظاتنا عن العرض ايضا، ان المخرج دانيال سان بيدرو، كان حذرا في تعامله مع الفلكلور، فالفلكلور، مثلما نعلم، ذو وجهين، من جهة هو تقليدي وتراثي ومفيد للرؤية الاخراجية، ومن جهة أخرى، فهو عادي ويشوه الثقافة، ويحيلها إلى كليشيهات. لهذا حاول المخرج وفريق عمله أن يذهبوا إلى العمق الاسباني للبحث عن اصل الجمال الثقافي والمعرفي.

 

محمد سيف

 

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *