سيمياء الممثل في مختبر التنظير المسرحي.. (دراسة ما بعد حداثية)

 

 

 

تقدم دراسة ( أحمد شرجي) في كتابه “سيمياء الممثل وتطور مستويات القراءة المنهجية” للمنجز الابداعي في اطار القراءات النقدية المابعد حداثية عبر تفحصها لمنجز الممثل في المناهج التجريبية. إذ اجتهدت هذه الدراسة في مهادها النظري لتؤسس أرضية تحليلية تنطلق من بداهة نظم و علم العلامات وبالتالي اشتغال هذه العلامات السيميائية بوصفها نسقاً شكلياً وبالتالي إسقاط مخبريات هذه المنظومة على المسرح وعناصره، من فرضية التصدي للممثل بوصفه أيقونة اجتماعية ( ذات- شخصية) في مقابل( ذات علامية) هي ذات الممثل، بوصفه باثاً علامياً في العرض المسرحي وحاملاً للعلامات.
وعليه ففي الإطار النظري للدراسة حاول المؤلف( الشرجي) أن يقدم بانوراما وصفية للعلامات وللأصول والبدايات ، مشتغلاً فيها على ( الخطاب- العلامة) والممثل بوصفه خطاباً في فضاء السيميائية كونها علماً للعلامات، وكيف تطور هذا العلم من محاضرات في البنيوية إلى اشتغالات جادة وحثيثة بدءاً من السؤال الأول للرواقيين ومروراً أيضا بحلقة براغ ومحاولة تلمس المقتربات بين طروحات جاكبسون وما سبقه من مفاهيم.
وعليه فأن هذه الدراسة المتميزة تتعرض باختزال للعلاقة بين الألسنية والسيميوطيقية في وجهتي نظر متباينتين لـ ( دو سوسير ، ورولان بارت)، إذ يرى الأول أن الألسنية جزء من علم أوسع وأكثر شمولية هي السيميولوجيا في حين يتفق مع جاكبسون .. إذ لكل علامة من العلامات مرجعيتها اللغوية مبينا استحالة اشتغال العلامات غير اللفظية من غير دعم لغوي لأن جميع الأنساق العلامية تنتج المعنى عندما تمتزج باللغة ، بما في ذلك ماهو تداولي استعمالي ففي حال يبقى الوسيط اللغوي فاعل في الحركة الاستعمالية و تداولية العلامة في عمل الممثل، مستفيداً من وجهتي النظر (السوسورية / دو سوسير)  التي ترى بالكشف عن تلك العوامل  والشروط المؤدية لنشوء العلامة وعمليات السميأة، حيث لا يمكن لعلامة أن تعمل من دونما تلك الشروط، ومن وجهة النظر( البورسية/ بورس) الذي يختلف بما يميزه من إعجابه بالفن المسرحي وانحيازه إلى منطوق أسبقية العلامة على موضوعها بأدلة مسرحية ما يؤدي إلي حضور قوي لسيميولوجيا المسرح من خلال هذه السميأة ( البورسية) والتي يصفها ( تاديوش كاوزان) بالسيميولوجيا المجاورة…
ولعل الباحث( الشرجي) قد عمد إلى تلك التخارجات ومقارباتها ليؤكد تمفصلات العلاقة بين المسرح والسيمياء، بوصفه ظاهرة ثقافية ، وأن المسرح هو آلية تواصلية لها اشتراطاتها وتوافر عناصرها التي تجعل من المسرح والعرض المسرحي  نسقاً سيميائياً غير خاضع للاعتباطية، إذ أن شبكة علاقات عناصره المسرحية متلازمة بين دلالاته ومدلولاته ، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن العناصر البصرية والسمعية للمسرح تشكل بنية مجازية سيميائية تمتلك نفس سمات النص على حد ( آن اوبرسفيلد) وصولاً إلى إخضاع العرض لمنهجية التحليل السيميولوجية.
وعليه فان تمفصلات الدراسة في اشتغالاتها النظرية استفادت من العلوم اللسانية واشتغال العلامة تبعاً لمعطيات المناهج الأدبية ، ثم مادية العلامة وتمثلات اشتغالها التأسيسي لمداخل يلج الباحث من خلالها إلى العلامة في المسرح.
وعليه فقد أفرد الباحث (الشرجي) مبحثاً أولاً بعنوان سيميولوجيا المسرح الذي يؤشر في بدايته أهمية وفاعلية الدور الذي لعبته مدرسة براغ وما تبعه من دراسات مهمة فتحت لها آفاق التأمل في التحليل السيميائي للمسرح من خلال دراسات( علم جمال الفن والدراما) لأوتكار زيخ ، و( التحليل البنيوي لظاهرة الممثل) لموكاروفسكي، واثر هاتين الدراستين في تحديد الأسس العملية التي بنيت عليها النظرية المسرحية الحديثة ،إذ حددت الدراسة أول حضور للتحليل العلاماتي لدور الممثل عند موكاروفسكي ،  ما جعل الممثل في بؤرة ضوء بنيوية براغ بوصفه ( الوحدة الدينامية لمجموعة كاملة من العلامات) وهنا تجتزء الدراسة مقتبساتها في تغذية سيمياء الممثل من( كاوزان) و( كير إيلام) ومن ( باتريس بافس) الذي يركز في تعريفه لسيميولوجيا المسرح على الرتيب الشكلي للنص أو العرض والترتيب الداخلي لهذه المنظومة الدلالية- على أساس ديناميات المعنى وتوطيد الشعور بالمشاركة  بين الممثل  والمتلقي.
وهكذا فأن هذا الفصل من الدراسة يضعنا على عتبات المنصة الإجرائية التعريفية قبل المفهوماتية لينتهي المبحث بتصنيف( كاوزان) الشهير وبعض التطبيقات. وهكذا أصبح المبحث الثاني( سيميولوجيا النص الدرامي) ضرورة بوصف النص هو الأرضية العلاماتية لنص العرض في مستوياته ( الخارج- الداخل) المؤسس بالحوار الدرامي ومحمولاته وامكانيات الانساق العلاماتية الفاعل عبر عناصر العرض ( الجسد- السينغرافيا- الموسيقا) وغيرها- ولأن المبحث  في ( النص الدرامي) فقد استدعى الوقوف عند الحوار والثنائيات الألسنية التي تنطلق منها المنظومة اللغوية للنص- كما يتطرق الباحث إلى سيميولوجيا الإرشادات المسرحية بوصفها شبكة علامية تحدد ملامح الشخصية وبنائها الدرامي- ثم يفرد وحسناً فعل الباحث مبحثاً شيد من خلاله مداخله عن الشخصية ليدخل من خلالها إلى سيميولوجيا الممثل الذي دخل إليه من البناء الثلاثي للعلامة عند ( بورس) في تشكلات- ماهية العلامة- علاقة العلامة بموضوعها- تصور المؤول للعلامة من خلال شرح مفصل لثلاثية بورس- بعد ذلك يقدم الباحث دراسة تعريفية مهمة وأن جاءت متأخرة لوجودها في المدخل الإجرائي يعرف من خلالها الممثل الذي يشكل بؤرة العنوان العلمي للدراسة التي يشتغل علها الباحث( الشرجي) ، إذ كان يمكن لها أن تكون في التعريف الإجرائي المنهجي وليس في الإطار التحليلي الذي رصد الباحث من خلاله اشتغالات الممثل في المسرح الإغريقي وما مثله من منظومة علامية مبكرة في تاريخ المسرح ، حلل من خلالها النص بوصفه علامة نوعية وما يتصل به من علامة عرفية تمثلت بالرحمة والخوف و( التطهير) بوصفه علامة تصديقية..الخ، ولكن الباحث من دونما تسلسل جغرافي منهجي انتخب محطة لازدهار فن الممثل والتمثيل و وقف عندها مع طروحات الفرنسي( دينيس ديدرو) استفاد فيها من المقدمات التحليلية كون الممثل حاملاً لعلامات نوعية ومتفردة تشتغل بتراتبية هرمية ، قمة الهرم فيها الخيال وقاعدته المرجع والموضوع، ويحدد( الشرجي) موقفه من ممثل ( ديدرو) على وفق معطيات هذا الهرم.
ثم يعود إلى مبحث يختص في طريقة ( ستانسلافسكي) محاولاً تتبع الاشتغالات العلامية التي اخطوت عليها الطريقة ( الستانسلافية) في مراحل اشتغال الممثل على الدور والذاكرة الانفعالية، وتأسيس مقارباته مع أداء الممثل عبر الطريقة بكل تفاصيلها النظرية المعروفة في- إعداد الممثل- لكي يتهيكل البحث فيما بعد على الممثل في المسرح الايهامي واللا إيهامي من دونما قصدية للباحث عندما راح بشكل مباشر بعد ستانسلافسكي إلى مايرهولد والبايوميكانيك حيث يتخذ( مايرهولد) من الجسد وسيلة لإيصال الدلالات التي يحملها العرض المسرحي ودور الحركة في إنتاج المعنى في المجتمع وعمليات الاتصال بالوساطة العلامية.
لتنتهي العمليات الإجرائية للبحث عند ( برتولد بريشت) الذي عرف هو الآخر بمنهجه اللا إيهامي والرافض للأرسطية والتقمص والتطهير في فعل الممثل المسرحي جاعلاً من الديالكتيك جوهراً للمسرح الملحمي الذي جعل من بريشت فيما بعد وسيطاً بين الواقع والخيال على حد قول ( الشرجي)… إذ يرى العلاقة بين الشخصية والممثل ليست علاقة تشابه وتقمص وإنما علاقة تغريب تجعل من الممثل يعرض الشخصية على الجمهور بدلاً من أن يجسدها وفي ذات السياق التحليلي عمد الباحث( الشرجي) إلى عرض منهج بريشت وعملية العمل  مع ممثله المسرحي، واضعاً إياه على رأس الهرم، ممثلاً أيقونياً وأن قاعدة الهرم هي العارض والمعروض ، موظفاً لذلك ذات المقاربات الإجرائية في اشتغال العلامات النوعية والعرفية بما يتصل بالمعروض وكذلك رموز وعلامات متفردة فيما يتصل بالعارض- جاعلاً  من الممثل المؤدي أيقونة- .
أخيراً أن خوض ( أحمد شرجي) الباحث والفنان الرؤي في هذا المجال النظري المهم وتصديه لسيمياء الممثل يعد واحداً من الانجازات التنظيرية المهمة في الدراسات التحليلية والتطبيقية للمسرح العراقي.

 

د. يوسف رشيد

 

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *