سعدالله ونوس .. حين أصبح المسرح سلاحا ضد الهزيمة

 

 

 

ونوس: لا معنى للمسرح إن لم يطرح قضايا جوهرية

لا ازدهار للمسرح أو للثقافة دون وجود الديمقراطية

نحن المثقفين “قفا” النظام وليست لدينا طروحات جذرية

في “المملوك جابر”..الانتهازية لن تؤدي للخلاص أبداً

”إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لايمكن أن يكون نهاية التاريخ”

هكذا كان يردد دوماً الكاتب والمسرحي السوري سعد الله ونوس، التي تمر ذكرى وفاته في هذا الشهر، وبالتحديد يوم 15 مايو عام 1997، ليؤكد لنا أن الأمل لا فكاك منه، أو غنى عنه، فالأمل عنده أسوب حياة، حيث يقول: “في الواقع الموحل والزمن السقيم , قد يكون إنجاز الممكن هو الحلم”.

أمضى ونوس حياته يدافع عن قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية وقضايا العدالة الاجتماعية ، من خلال إيمانه العميق بأهمية دور الثقافة والمثقف في التصدي لهذه القضايا والدفاع عنها، فالثقافة كانت دائماً وأبداً تشكل عنده الجبهة الرئيسية للوقوف بوجه الظلم والاستغلال في كل مكان ، لأنها قادرة على بلورة المواقف النقدية و تعرية الواقع.

كان سعد الله ونوس مقاتلاً بالكلمة حتى آخر لحظة في حياته, فقد ذكرت زوجته فايزة شاويش أنه لم يترك الكتاب والورق والأقلام حتى في أيامه الأخيرة بالمستشفى وهو يودع دنيانا.

مسرحياته كانت تتناول دوما نقدا سياسيا اجتماعيا للواقع العربي، يجسد صدمة المثقفين والشعب إثر هزيمة1967، في أواخر السبعينات، ساهم ونوس في إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وعمل مدرساً فيه. كما أصدر مجلة حياة المسرح، وعمل رئيساً لتحريرها.

صخب وصمت

ولد ونوس في قرية “حصين البحر”، وتلقى تعليمه في مدارس اللاذقية، وقد كان للانفصال بين سوريا ومصر أعمق أثر في كتاباته.
بدأ الكتابة في مجلة “الآداب”، وعاد إلى دمشق وعمل في وزارة الثقافة، كمحرر لصفحات الثقافية في صحيفتي “السفير” اللبنانية و”الثورة” السورية. كما عمل مديراً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى في سوريا.

في أواخر الستينات، سافر إلى باريس ليدرس فن المسرح. وبعد أن عاد تسلم تنظيم مهرجان المسرح الأول في دمشق ثم عين مديرا للمسرح التجريبي في مسرح خليل القباني.

في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام 1982، توقف ونوس عن الكتابة لعقد من الزمن. ثم عاد إلى الكتابة في أوائل التسعينات.

كان سعد الله ونوس أول مسرحي عربي يقوم بكتابة الرسالة الدولية في اليوم العالمي للمسرح 27 مارس 1996، تم تكريم سعد الله ونوس في أكثر من مهرجان أهمها مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ومهرجان قرطاج وتسلم جائزة سلطان العويس الثقافية عن المسرح في الدورة الأولى للجائزة في 15 مايو 1997.

توفي ونوس بعد صراع طويل استمر خمس سنوات مع مرض السرطان. كان أول كتاب اقتناه وعمره 12 سنة هو “دمعة وابتسامة” لجبران خليل جبران, ثم نمت مجموعة كتبه وتنوعت “طه حسين وعباس العقاد وميخائيل نعيمة ونجيب محفوظ ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وغيرهم”.

في عام 1959 حصل سعد الله ونوس على الثانوية العامة وسافر إلى القاهرة في منحة دراسية للحصول على ليسانس الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة.. وأثناء دراسته وقع الانفصال في الوحدة بين مصر وسوريا مما أثر كثيرا عليه.

أسلوب مسرحي فريد

شكل ونوس عبر مسرحه كما يقول النقاد، قفزة في المسرح العربي ، راح المسرحيون الآخرون يحاولون استيعابها ، فسعوا في تجاربهم المسرحية لتحقيق ذلك الحوار الحي و المرتجل بين الخشبة والصالة ، لكن البعض منهم ابتذل مفهوم مسرح “التسييس” وأصبح مكرراً و تقليدياً ، في الوقت الذي كان ونوس يرى فيه أن مشاركة المشاهدين مع الممثلين يجب أن تتم عبر ارتجال حقيقي و صادق ، بحيث يصبح كل عرض تجربة جديدة لا تتكرر ، مثل مباراة في الشطرنج ، أما أهداف “مسرح التسييس” فقد حدّدها بوضوح في البحث عن الحقيقة وتعرية الهزائم وتنمية وعي المتفرج بواقعه الاجتماعي و دفعه للتساؤل و العمل .

في حوار لسعد الله ونوس عام 1979 شرح تطور أسلوبه المسرحي قائلاً: كنت أطمح إلى انجاز “الكلمة الفعل” التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة معاً.

كان يرى أنه ” لا معنى للمسرح إذا لم يطرح قضايا الإنسان الجوهرية “، ولم ينظر ونوس للمسرح على أنه حلية ثقافية ، لابد من وجودها في المجتمع كي يبدو هذا المجتمع معاصراً ، بل نظر إليه بصفته حاجة، ومن أهم أولويات السلطة المدنية، الراغبة و الشاعرة بالمسرح – الحاجة، هي إشاعة الديمقراطية وتعزيز مظاهر المجتمع المدني، لأن المسرح هو أحد أبرز الفضاءات الديمقراطية.

فقد كان برأيه أن المسرح و الثقافة، لا ينموان و يزدهران إلا في تربة الديمقراطية، وحيث تحترم إنسانية الإنسان، فالمسرح كما يقول ونوس ” ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب ، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع ، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره”.

التخلي عن المسرح..خيانة!

يقول ونوس في أحد مقالاته، منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان . وكانت الكتابة ، وللمسرح بالذات ، أهم وسائل مقاومتي . خلال السنوات الأربع ، كتبت وبصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة . ولكن ذات يوم ، سئلت وبما يشبه اللوم : ولمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات ، في الوقت الذي ينحسر المسرح ، ويكاد يختفي من حياتنا ! .

يجيب: التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي . وكان عليّ لو أردت الإجابة أن أضيف ، “إني مصرّ على الكتابة للمسرح، لأني أريد أن أدافع عنه، وأقدّم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً “.

كان يشعر بإهمال المسرح، وأنه جزء من أزمة الثقافة فيقول: المخصصات التي كانت تغذي المسرح تضمر سنة بعد سنة، والرعاية التي كان يحاط بها ، تحولت إلى إهمال شبيه بالازدراء، غالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق . وما دمنا لا نريد أن نخادع أنفسنا، فعلينا الاعتراف، بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني، الذي يهبنا فسحة للتأمل، والحوار، ووعي انتمائنا الإنساني العميق . وأزمة المسرح ، رغم خصوصيتها ، هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة.

يتابع ونوس: المسرح يتقهقر . وكيفما تطلعتُ ، فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها ، وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة ، بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الأضواء ، والشاشات الملونة ، والتفاهات المعلبة . لا أعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي .
رسائل كاشفة

رسائل سعدالله ونوس إلى الناقدة المصرية عبلة الروينى، تكشف آراءه في الموضوعات التي شغلته كمثقف، منها محاولة فهم أعمق لهزيمة 1967، انكسار المشروع الناصري، انكسار المعسكر الاشتراكي، هشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة، وكانت صرخات سعد الله ونوس “أننا مهزومون حتى العظم، أقصى حدود الايجابية هو أن نقبل الهزيمة لا أن نراوغها. أن نواجهها صراحة لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال”.

ففي إحدى رسائله إليها يقول وهو الذي اعتاد على الأمل: كل شيء قاتم، ومبتذل، ومسفّ. المهرجان يؤذن بالانتهاء، شاهدت كل العروض، ضحالة وتدهور، لا إبداع، ولا هموم حقيقية، وإننا نعود القهقري.

ويصف المثقفين بأنهم “قفا النظام” فيقول: إننا ـ نحن المثقفين ـ سلطة ظل شاغلها الأساسي أن تصبح سلطة فعلية، أو أن تنال فتاتاً في السلطة الفعلية. إننا قفا النظام، ولسنا نقيضه أو بديله، ولهذا ليست لدينا طروحات جذرية، ولا آفاق مختلفة، والمراوغة تطبع عملنا وتشكل جوهر سلوكنا، يا للخيبة! ويا للحزن!

ويختتم رسالته إليها: ضيقة هذه الحياة التي نحياها. إننا تقريباً نعيش من أجل لا شيء. وليس بالإمكان أن يتوهم المرء، أو أن يقتنع بالسراب.

حالة مسرحية

يصفه الناقد والشاعر شعبان يوسف في أحد مقالاته بأنه “محض حالة مسرحية حقيقية”، نالت مسرحياته استحسان المصريين كما يقول، فقد كان للمخرج مراد منير الدور الأعظم في اختيار مسرح سعدالله ونوس لعرضه على الخشبة المصرية، فقد أخرج مسرحية “الملك هو الملك”، وكان نجم المسرحية الفنان محمد منير، الذي غنى عدداً من الأغاني التي كتبها الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، وكذلك أخرج مسرحية “رأس المملوك جابر”، وبعد ذلك راح يتنافس كثيرون على إخراج نصوص سعدالله، فأخرج حسن الوزير على مسرح الهناجر مسرحية “الطقوس والإشارات”، وعرضت المسرحية ذاتها على خشبة المسرح القومي، ولكن من إخراج الفنانة نضال الأشقر، وكذلك قام الفنان بهائي الميرغني بإخراج “ملحمة السراب”، وأصبح مسرح سعدالله ونوس حالة مصرية بامتياز، حتى أن داهمته مرحلة المرض.

ويحكي يوسف عن زيارته لـ”ونوس” في منزله، فيقول: منزل سعدالله منزل فنان حقيقي، مضيء ومشمس، تتناثر بشكل رائع أفيشات مسرحياته في أكثر من إخراج.

ويروي شعبان عن حزن ونوس لتوقيع ياسر عرفات اتفاق أوسلو في واشنطن تحت رعاية كلينتون، يقول يوسف: لم يكن مصدقاً – يقصد ونوس – أن “أبو عمار” سيلتقي عدوه غداً، وأنه سيوقع اتفاقاً مجحفاً- يقصد اتفاق أوسلو – لا بد أن هناك خطأ في التاريخ أو الجغرافيا أو السياسة، وهل على العرب دوماً أن يتحملوا أخطاء التاريخ والجغرافيا والسياسة بكل هذه الفجاجة، كان سعدالله يلقي بأفكاره، وكان يقوم ويقعد ويدور ويعلو صوته ويخفت حتى وقف، وأشار لنا بإصبعه هاتفاً: “إنني أتمنى أن أحيا حتى أرى إلى أي نهاية ستصل إليها هذه الأمة”.

مغامرة رأس المملوك جابر

ذاعت هذه المسرحية ذيوعاً كبيراً، حيث تطرح علاقة المواطن بالسلطة، والعكس صحيح حيث تقدم قصة تاريخية، حاول فيها ونوس إعطاء بعض التفسيرات لطبيعة العلاقة بين السائس والمسوس من خلال تناول موضوع الصراع على السلطة بين خليفة بغداد ووزيره، إذ يحاول الوزير الاستعانة بجيوش الأعداء لنصرته، ويستغل “مملوك جابر”موقف عدم استطاعة الوزير إرسال رسالة إلى العدو فيقترح عليه أن يكتب الرسالة على رأسه بعد أن يحلق شعره، ويذهب الحارس في مهمته تحدوه أحلام كثيرة بالثروة والجاه والجواري، لكنه يكتشف بعد فوات الأوان أن الوزير طلب من العدو قطع رأس حامل الرسالة…وبهذا تنتهي هذه المغامرة الانتهازية إلى الفشل.

قال ونوس من خلال مسرحيته، أن الانتهازية لن تؤدي بصاحبها إلا إلى الفشل والموت ، بينما يظل الشعب هو الذي بيده كل شيء ، وهو الذي سينتصر في النهاية ، “مؤكداً على أهمية العمل الجماعي السياسي إذ لا جدوى من العمل الفردي كمطلب للخلاص.

من أقواله..

– أن نتخيل مسموح، أن نتوهم مسموح، أن نحلم مسموح، ولكن حذار أن يتحول الخيال الى واقع ممنوع، أو يتحول الوهم الى شغب، -ممنوع، أو تتحد الأحلام وتتحول الى أفعال – ممنوع”.

– “ما من ملك يتخلى عن عرشه …إلا اقتلاعاً”.

– “ما أتعس حالنا إذا كان علماء الأمه يسمون الاجتهاد والعلم كفراً”.

– “في لحظات التعاسة فقط، يشعر الانسان أنه لم يعد قادرًا على الاحتمال. لكن قدرته على الاحتمال لا تنفذ. هو يتحمل أي جحيم لأنه يعرف -ولو بالفطرة- أن الشقاء لايمكن أن يستمر”.

– “كم مرة هزمتنا الخيانة …دون قتال”.

– “إذا صفت النوايا ..اتحدت القلوب”.

– “يراودني الامل بأننا نقاتل لكي نبتكر نظاما جديدا, لا لنحافظ على نظام نعرف جميعا انه تداعى وانهار”.

– “في أوقات الضعف والانحلال, الأحلام باهظة التكاليف”.

– “حين تلم بنا الخطوب, ويهدد الخطر وجود الأمة, من المحزن ألا يكون لدى العالم ما يفعله إلا وصف المحنة …! بل, حين تلم بنا الخطوب ويهدد الخطر وجود الامة من المحزن ألا يكون لدى الأمة من تستنجد به إلا علماء بلا قوة ولا شوكة”.

– “متى تدرك أيها الشاب, أن العلم هو العلم, وأن النعوت وتحيزات الاخلاق تفسد العلم, وتملؤه بالضلالات”.

– “المقارع لا تقوّم إلا العبيد, أما الاحرار فإنهم أقوم من المقارع”.

 

كتبت – سميرة سليمان

http://moheet.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *