حول قلق الهوية في مسرحية ‘صبي لاجئ’ للجامايكي بينجامين زيفانياه

 

لازالت الهوية والانتماء أحد الأسئلة المعرفية والإنسانية الكبرى في هذه الفترة من الاضطرابات السياسية في العالم، فالهوية الإنسانية هي وليدة عدة مفاهيم ومجالات إنسانية، لا يسهل حصرها بمسار معرفي واحد.

ولكن الهوية السياسية للفرد هي واحدة من المكونات المفصلية لهوية أي فرد منا، فليس ‘صحيحا إن الإنسان منا ينتمي للكونية والعالمية أكثر من هويته الوطنية والمحلية، فأبسط أسئلة الهوية: من أنت ؟ ومن أين أتيت؟ تحيلك إلى بقعة معينة من الأرض، وعلى الرغم من أناقة الشعارات الإنسانية البراقة لمفهوم الإنسان الكوني والعالمي إلا إنه بشكل فيزيائي مربوط بفكرة الوطن، فالإنسان لا يسافر من دون جواز سفر، ولا يستطيع أن يتمتع بحقوقه كإنسان إلا بانتمائه لوطن، أو لجوئه لآخر بعد سلسلة طويلة من الخطوات التعذيبية في سبيل الحصول على إقامة في بقعة ما، ليصبح ذا هوية مزدوجة، فإما يكتب لهذين الكيانين أن ينسجما داخل الكينونة الإنسانية، أو يتصارعا فيصبح هذا الفرد مثقلا بهذه الانتماءات المتعددة، فالوطن الواحد فيه أمان نفسي من قلق أسئلة الهوية، مع أهمية وجود النزعة الإنسانية العالمية المتسامحة والمتقبلة للآخر والتعايش معه.
أرى النقاش السابق أكثر بذخا من المشكلة الإنسانية المطروحة مسرحية صبي لاجئ، لأنها تتحدث عن هوية صبي تركه أبواه في بريطانيا وحيدا يواجه مأزق الانتماء واللجوء السياسي، لأنه بلده، أريتريا، كانت تعاني من حرب مستمرة مع أثيوبيا. فالمسرحية تعرض لعدة إشكاليات إنسانية وثقافية في متنها، من مثل أثر الصدمة المتأتية من الحروب على نفسية الشخصيات، الأب والأم وابنهما عالم جراء الحرب، ومن ثم إشكالية التعايش مع الآخر المتأتية من الحنين إلى الوطن والأهل، ومن رفض المضيف أن يكون مضيفا دائما، إضافة إلى الإشكاليات السوسيولوجية والثقافية المطروحة من خلال حوار الشخصيات في العرض المسرحي.’
قلق الهوية:
قلق الهوية، هو التعبير الأنسب للمهاجرين واللاجئين بشكل إجباري، وليس اختياريا، فهم يعيشون بين مكان جديد يحاولون التأقلم معه مثلما كانت هي حالة عالم، الصبي الأريتيري ذو الأربعة عشر عاما، الذي تبدأ أحداث المسرحية بترك أبيه (مستر كيلو) ‘له في بريطانيا خوفا عليه من القتل في الحرب الناشبة بين ارتيريا وأثوبيا. يعاني عالم أولا صدمة الهوية، كونه يعيش التشرد في الشوارع البريطانية، يسأله أحد المجرمين والمتسولين، ما اسمك؟ فيقول: اسمي عالم، فيقول له : لا أنت صبي لاجئ، فيرفض عالم، ذلك، فيضربه هذا المتسول، ويرغمه على قول إنه صبي لاجئ، ليبدأ التعرف على هويته الجديدة، بأنه لاجئ، هذا التعرف هو بداية عذابات الهوية لطفل متسول لا يعرف ملجأ له.. يعلمه رفاق الشارع (مصطفى) طريقة الكلام على الطريقة الانجليزية، بكل ما تحمله من طاقة اجتماعية، وسخرية، وأضداد، كأن يقول له إن الجيد يعني سيء والسيء يعني جيد فيردد هذه القاعدة اللغوية المستوحاة من لغة الشارع في كل مناسبة، لدرجة إنه يثير ضحكهم واستهجانهم لعدم معرفته بقواعد الرد الاجتماعي متى ما رد بطريقة مخالفة، لتتضح لنا إحدى مفارقات الهوية المفخخة عبر الحوار بين الضيف والمضيف، ذاك المضيف الذي لا يقبل أي شرخ يحدث في الحوار معه، ولا بأقل من بروتوكولات الحوار اليومية. كأن يقول السائل: (لو سمحت) بعد أي طلب.. فهذه الكلمة هامة جدا في الطلب، وإلا اعتبر مقدم الطلب وقحا أو جافا بأحسن الأحوال.. عالم أو الصبي اللاجئ يعيش تحت رعاية محامية (السيدة فيتزجيرالد) وأسرتها، ريثما يأتيه أبوه ويأخذه كما وعده، ولكن الغياب يطول على الصبي، وتكون أحلامه المتكررة بأبيه وأرضه رسالة اللاوعي إليه معادلا لحنينه إلى الانتماء والأسرة، ولا أن يكون لاجئا، فهذه الكلمة فجرت بالصبي الصغير النزعة العدوانية، لدرجة إنه قام بضرب أحدهم وهدده بالقتل هو يناديه بلاجئ، وكأن اللجوء هوية مشينة له. إذن الاغتراب، والوضع الإنساني يجعل الإنسان عرضة للعنف اللغوي والجسدي من الآخر، ويجعل هذا الشخص حاملا لوباء العنف وقابلا لتفجيره في أي مناسبة عابرة. فيتضح إن ‘رسالة المسرحية هو العنف الممارس ضد اللاجئين، وقابلية تحولهم إلى أدوات عنيفة مفخخة بأي لحظة صدام بينها وبين أي هوية مغايرة.

كل شيء في هذا العالم سياسة: 
يعود الأب لأخذ ابنه والعودة إلى وطنهم، ولكن هذه العودة باتت مستحيلة، كون الوضع في بلدهم لايسمح بذلك، فعالم وأبيه يسكنان في الحدود الارتيرية الأثيوبية، ويعتبرونهم في أثيوبيا اريتيرين، وفي اريتيريا أثيوبيين، مما يشكل قلقا آخر لهم، بالإضافة إلى رفضهم وتهديدهم، بالقتل، في وطنهم.. وهذا ما يجعل المحامية ترفض عودتهم حاليا، وتطلب من المركز البريطاني السماح لهم بذريعة عدم الاستقرار بوطنهم، يرفض الطلب الذي سنحلله في الفقرة التالية، وتقرر أن تقوم بمظاهرة من أجل السماح له في البقاء هنا هو ووالده بعد وفاة والدته تحت وطأة الحرب الناشبة بين البلدين. يقول الأب:عالم لا تتحدث بالسياسة يقول عالم: كل شيء سياسة يا ابي جئنا إلى هنا (يقصد بريطانيا) بسبب السياسية و قتلت أمي بسبب السياسة وسنغادر من هنا بسببها.
قتل الأب في مظاهرة الدفاع عن حقهم في بريطانيا، عن طريق أحد الإرهابيين الذين يظنون إنه هو من حرض ابنه للتظاهر، فالرسالة هنا إن أكثر المدن نظاما ومحافظة على الامن يقتل فيها الأب بينما لم يقتل وهو في بلده وقت الحرب، لامفر من القضاء والقدر.
تنتهي المسرحية بموت الوالد، وتعلق مصير عالم، بين الرحيل أو البقاء لذلك أرى إن ديكور المسرحية ‘المؤلف من حقائب متراصة بعضها فوق بعض، يعكس كثرة القادمين إليها عن طريق اللجوء السياسي، وليس أمام اللاجئين سوى فكرة الرحيل المستمر.

الرسالة السياسية للمسرحية:
كما أوضحنا أعلى إن المسرحية قامت بتغطية جوانب متعددة من حياة اللاجئين، على اللاجئ والبلد المضيف نفسه، من حيث اللغة، وقلق الهوية للضيف والمضيف، وأخيرا التوجه السياسي للدولة تجاه استقبال اللاجئين على أرضها، وتكلف أعباء مادية وسياسية في رعايتهم، إذ بدا هذا التوجه من خلال السماح له بالإقامة في بريطانيا عندما كانت ظروفه لا تسمح بتسفيره، وهو في مرحلة الطفولة، والحرب قائمة على أشدها، بينما عندما استقرت الأوضاع قليلا في بلده، وحضر أبوه تغيرت زاوية الرؤية للقضية وبناء عليه تم رفض تجديد اقامتهما، ليبحثا عن فرصة عمل في موطنهما الأصل، فما أراد الكاتب قوله هنا هو شرح وجهة نظر الحكومة البريطانية في كلا الحالتين أولا، ولتبيان حدود النظرة الإنسانية لمثل هذه المواضيع ثانيا. ماهو غير مباشر، في المسرحية، هو توضيح مدى ضيق الحكومة البريطانية من اللاجئين الذين يحاولون إثقال كاهل البلد بالعديد من الأعباء السياسية، والاعتبارات الإنسانية، فكما هو معروف بريطانيا تعاني من تعدد كبير في الهويات، وباسم حقوق الإنسان تتحمل أعباء كثيرة من جانب، ومن جانب آخر هذا يهدد الهوية البريطانية نفسها، لذا نرى إنعزال الشعب البريطاني على ذاته، وعدم تعامله مع الضيف إلا بحدود التعامل الرسمي العملي اليومي، إلا في حالات قليلة. ولعل هذا يفسر لنا ابتداء المسرحية بالحوار التالي، والمتكرر ثلاث مرات خلال العرض المسرحي:
سيد كيلو: هذه نجمة الشمال.
عالم : ولكن أين بقية النجوم؟
سيد كيلو: في بريطانيا النجوم عليها أن تنام. تضيء بالدور حتى توفر الطاقة.
عالم: لا.سيد كيلو: نعم. لأنها إذا أضاءت لوقت طويل، سوف تضعف طاقتها. النجم الشمالي قرر إنه يلمع باستمرار لأنه الأقوى من البقية.. حسنا.
فالكاتب من خلال الحوار السابق يشير إلى قوة بريطانيا العظمى، ولكنه بنفس الوقت يلمح لقضية توفير الطاقة، التي تقوم بها بريطانيا، حيث توزع إنسانيتها بالقدر الذي لا يضعف إمكانياتها، كما إنها لا تقوم بشيء من دون مقابل. باختصار، الحوار السابق يعكس براجمية العقل البريطاني.
ناقدة وكاتبة كويتية.
صبي لاجئ كانت في الأصل رواية للكاتب الجاميكاني بنجامين زيفانياه،، حولت إلى مسرحية عن طريق ليمن سيساي، وأخرجها جيل مكلنتير. نشر: Bloomsbury@su_ad81

سعاد العنزي

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *