غنام: في أريحا تجلى أول الحب وأول المسرح والشاي بالنعناع

 

ما يشبه رحلة هلالية متقلبة الأحوال، غزيرة الترحال، عظيمة المعاني، تَجَلّتْ مسيرة الفنان غنام غنام. صحيح أن المسرح صعد وتصاعد ليكون أعلى مراتب معراج تلك الرحلة الحافلة الممتدة، ولكن غنام الابن البار لأبي الفنون، قدّم في غير حقل آخر إبداعاً هنا وتحليقاً هناك، ونثر في درب الجلجلة بعض ورود المعنى، فجرّب في حقل القصة القصيرة التي كان إنجازه فيها: «قف للتفتيش» و»من يخاف و»برجمة» وغيرها جواز مروره الأولي لعضوية رابطة الكتاب الأردنيين، وبالتالي للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وكان له تجربة ليست بالقليلة مع الدوبلاج التلفزيوني والتعليق الصوتي لأعمال كرتونية ووثائقية عديدة. المرور على هذه التجارب، يعد، ربما، من باب التأني قبل الخوض في التجربة المسرحية الفذة والممتدة كتابة وتمثيلاً وإخراجاً وانغماساً كلياً بما يشبه الذوبان والتماهي، انتقل لاحقاً للجانب الإداري من العمل المسرحي، ابتداء من تأسيس فرقة موال مع عشاق مسرح آخرين، مروراً بالمشاركة الفاعلة في تأسيس فرقة المسرح الحر، وليس انتهاء بالعمل الإداري مع الهيئة العربية للمسرح.
عشرات الأعمال المسرحية ترافق إنجازه لها بعشرات الجوائز أيضاً، وبما يتعذر حصره في مقدمة لحوار طويل، وربما يكفي أن يُشار هنا إلى أن كثيراً من أعمال عاشق المسرح، كانت من تأليفه وإخراجه وتمثيله، دون أن يمنعه ذلك من العمل مع مخرجين آخرين كممثل ملتزم، وهو ما تجلى على وجه الخصوص بمونودراما «عائد إلى حيفا» التي أعدها للعرض ولعب فيها دور الممثل الوحيد من إخراج يحيى البشتاوي في مرّة، ومخرجة لبنانية في تجربة أخرى للنص نفسه. دزينة جوائز تزين مسيرة غنام الدرامية عموماً، والمسرحية على وجه الخصوص، حول مجمل منجزه، وذاكرة المكان الأول، وتعدد أقانيم الإبداع، وأفقه العربي، كان لـ «الرأي» هذا الحوار مع الفنان غنام غنام.

كأحد المنظرين عربياً لمسرح الفرجة، والمشتغلين فيه زمناً.. هل يمكن النظر إلى طرحك فكرة «مسرح الجلسة» باعتباره تراجعاً عن مسرح الفرجة أم تحولاً عنه أم امتداداً له؟
الجلسة شكلٌ من أشكال التكوين وإطار للاحتفال والبهجة خاصة الموسيقية في منطقة الخليج، ومن هنا فإنني أرى مسرح الجلسة (مكاناً وإطاراً) فيما تكون الجلسة المسرحية (التشكل الفني) داخل المكان والإطار، وهكذا تكون مسرح الجلسة هو امتداد لمسرح الفرجة والجلسة المسرحية هي امتداد للفرجة المسرحية. ومنذ البيان المسرحي الثاني في 1994 (بيان الفرجة) أكدت على العمل على الحلقة إطاراً وشكلاً أكمل للاحتفال، والاستفادة من تقنيات الأداء في الفنون الشعبية، وكانت أعمال مثل عنتر زمانه والنمر والزير سالم وكأنك يابو زيد وعبد الله البري والاسكافي والوهراني وغزالة المزيون كلها اتطبيقات عملية لرؤى نظرية أسسها ذلك البيان.
إن تفكيكي للجلسة كشكل احتفال في الخليج أوصلني إلى استكناه ما ترسخ من تقنيات الحضور والجلوس والمشاركة فيها، وقد بنيت رؤيتي للأمر بالاستناد إلى ذلك، وبالمناسبة أتمنى أن لا يتم ربط الأمر بوجودي في الشارقة، فقد بدأت التفكير بالتجربة منذ حوالي 10 سنوات، لكن وجودي في الشارقة منحني المناخ الحيوي الذي يذهب بالأمر الآن إلى تأسيس (مختبر الجلسة المسرحية) بالتعاون مع رموز وفنانين أماراتيين سيثرون التجربة، ليتجاوز الأمر مجرد عمل إلى ترسيخ منهج.

أريحا الحب والشاي بالنعناع

أريحا.. وما أدراك ما أريحا.. ساكنة بحسب ما تشفّ شهاداتك وكثير من أعمالك، في أعماق وجدانك. كيف وظّفت ذاكرة الطفل فيك، وعلاقتك الإنسانية المتشعبة والمتشبعة بالمكان، مسرحياً كتابة وإخراجاً وتمثيلاً؟
وكأنك يا صاحبي كنت في حواري بالأمس مع الزميل جعفر العقيلي الذي زار الشارقة مؤخراً، إذ كنت أقول ما قلته دائماً (أساتذتي الأربعة أبو أمينة وحسن وأبو زكر وأبو زكية) من مشخصاتية وفناني أريحا الشعبيين هم أساتذتي في منهج الفرجة الذي يتقاطع مع الاحتفالية كثيراً، مع البريختية في بعض النقاط، وما نظّر له ونّوس وإدريس أحياناً، لكنه (ريحاوي) بالمجمل، نعم فأريحا ساحرة بتفاصيلها الاجتماعية والجغرافية والتاريخية، وهي موجودة في تفاصيل قصصي ومسرحياتي وآخرها غزالة المزيون بوضوح، إلى جانب ما أكملته جرش في هذا التكوين؛ وكيف لا يحدث لي ذلك وأنا أولد في أقدم مدينة سكنها البشر، ودرج على ترابها المسيح، وتعمد في مائها، وحين هجرت عنها عام 1967 كانت حاضنتي هي جرش الحاضرة المهمة في تاريخ المنطقة بألقها التاريخي والمعرفي.
إن إيقاع أريحا الفني حارٌ وحيوي وغني، وهي كانت ميداناً لفنون شعبية وفنون احترافية قدمها هاني صنوبر في (تل العرايس) فيها، وكانت الحركات السياسية النشطة تفعّل المشهد الثقافي. في أريحا تعلمت الإنشاد في كورال، فيها عرفت المسرح، وتعمدت بالحب والشاي بالنعناع. أريحا آخر قطعة عشتها من فلسطين.. لذا تجدني فيها وتجدها فيّ.

إلى مدى أثّرت تجربتك النضالية كأحد رفاق الوعي اليساري في مرحلة كان لتلك الأشياء معنى، في رؤيتك الإبداعية، وإلى مدى أثْرتها؟
أعتز بتجربتي النضالية مع تنظيم تميز بنتاجه الثقافي والفني، واعتقد أن غسان كنفاني كان بوصلتي لذلك. في هذه التجربة عرفت معنى الالتزام، والعمل الجماعي والموقف الشعبي والانضباط. هناك بقيت مع رفاق العمر فقيراً وكادحاً وعزيز النفس، فقد علمتني أنْ لا تهاون، ولا تنازل. علمتني أن أكتب أغنية يغنيها الناس وهم لا يعرفون مؤلفها، أن تهتفها الحناجر في التظاهرات وهم لا يعرفونك، علمتني أن (البالة) مع العزة أكرم من أي شيء. علمتني كيف تكون كاتباً وفناناً، ويدافع عنك سائق تاكسي ويصبح رفيقك. علمتني كيف تجد بيوت الناس مشرعة لاحتضانك حين يحيق بك الخطر… ورغم ذلك فإن أول فرقة أسسناها من خلال رابطة الكتاب الأردنيين عام 1985 (فرقة موال) كانت تضم فنانين حزبيين من عدة تنظيمات وكانت جملتي الواضحة لهم (حين تدخلوا المسرح إخلعوا التنظيمات على عتبة الدخول) لا لشيء إلا لأن المسرح يوحدنا جميعاً فهو طليعي، شمولي إنساني.
تجربتي النضالية منحتني أن تكون كلمتك وفعلك متطابقان، منحتني طعم العمل التطوعي في بصيرا، وطعم التظاهر في المخيم، وطعم صياغة المزاج العام في النشاط. منحتني كشفاً مبكراً وواضحاً لمواطن الخلل في التجربة. منحتني رفاقاً سيبقون وشم اعتزاز على جبيني، وأن تشعر بكم يأمل أفراد شعبك فيك، وكم ينظرون بالثقة لموقفك ورأيك؛ ورغم تركي التجربة الحزبية قبل حوالي 25 سنة إلا أن الرفاق الشباب الذين ولد بعضهم بعد تركي للتجربة ما يزالون يحفظون لي موقعاً محترماً بينهم.

عبر رحلة ممتدة كتابة وأعمالاً وإنجازات وجوائز، ما الذي تبقى؟ وما هو الشعور الذي يراودك عند إلقائك نظرةً على ما تحقق وما كان؟
أشكر الله على ما منحني من جنون يكفي لأن أقترف كل ما اقترفت من أفعال كانت توصف بالحماقات في لحظتها، وها أنا الآن فخور بها وبما منحتني من صفات ومواصفات قد يوافق عليها البعض وقد لا يوافقني عليها البعض الآخر، فأنا الذي حلمت في الخامسة عشر من عمري أن أكون مخرجاً مسرحياً.. عاكستني كل الظروف وألقيت نفسي في آتون المغامرة فكنت، أنا الذي حملت وطني وشعبي وتراثي على كاهلي المسرحي. حصدت احتراماً محلياً وعربياً ودولياً عليه، ونلت من التكريم والجوائز ما أستحق، وحرمت من تكريمات وجوائز وفرص أستحقها ولست بنادم. تجربتي موثقة وتدرس في الكليات والمعاهد، أشعر الآن بالزهد في هذه الدنيا التي عشتها، وزهدي لا يعني أنني عفتها، بل عفت المغريات وأحبها لذاتها، وأحبها بطريقتي، فخور بما حققت، وفخور حتى بالجهود والزمن الذي ضيعته أحياناً في خلق وتكوين أناس ومؤسسات وذهبت هدراً جهودي، أو لربما أتت لي بالمتاعب، لكنني فخور لأنني لو لم أفعل، فإنني قطعاً لست بغنام.

رغم عديد محاولاتك للتمرد على العلبة الإيطالية، إلا أن التخلص النهائي منها مما يبدو أنه يتحرك في حقل التجديف المسرحي. ما هو أفق التوقع المطلوب من جمهرة النظارة للإسهام في التحرر من كلاسيكيات أبي الفنون؟
لم أدّعِ يوماً القطيعة مع العلبة ولا مع أي شكل من أشكال المسرح، ولم يكن انحيازي للفرجة والحلقة والجلسة نوعاً من التمرد على العلبة الإيطالية، إنه بحث عن صورتي كعربي وبحث عن أطرٍ وأشكال مسرحية لها ملامحي.. ولذا فإنني كنت دائم العودة إلى العلبة ضمن شروطي وقوانيني، بل وتعمدت تقديم المسرح الكلاسيكي في عام 200 بتجربة تجليات ضياء الروح، لذا فالفعل الإبداعي هو بحد ذاته استئناف، ولكنه ليس إلغاءً ولا هجرة.. أما المطلوب فهو ليس من جمهور النظارة بل من الفنان الخالق الفعل البداعي أن يمنح الجمهور فرصة اختبار الأشكال والطرائق بأعمال متقنة ومسلحة بالوعي وبعدها يمكن أن نقول (مطلوب من الجمهور كذا) إذا وجدناه مقصراً.. أي علينا أن نقدم له ومن ثم نطالبه.

المسرح في مواجهة أعداء الحياة

أسهبت كثيراً في استعراض ملامح المسرح في مسيرة تاريخنا العربي وموروثنا الشعبي، رائياً أن لدينا مختلف ما يجعلنا نستعيض به عن المرجعيات المسرحية عند غيرنا. أتراك وضعت في بالك أثناء إسهابك هذا، ما تسبب فيه التطرف وما يزال من تضييق على منابع الفنون عموماً، والمسرح على وجه الخصوص؟
(لا تغفر لهم يا أبتاه إنهم يدرون ماذا يصنعون) وهنا أجمل التطرف بمختلف اتجاهاته، وأخص به هذه الموجة الظلامية التي تريد أن تذهب بنا إلى عصور ظلام وضلالة لم تعشها أمتنا من قبل، وعلى العموم فهي بالنسبة لي معركة قائمة مع كل أعداء الحياة، ويمكن أن استعير معادلة نضالية قديمة جداً كانت تقول (الصهيونية+ الإمبريالية+ الرجعية= معسكر الأعداء). الرجعية هنا تشمل الأنظمة والأحزاب والقوى التي تعمل ضد المدنية والحياة وتدعو إلى الكيانات الدينية، هذا هم المعسكر الذي أواجهه في أعمالي منذ بدأت الاحتراف والعمل على تقديم رؤاي منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن.

وبعد أن كادت «غزالة المزيون» من تأليفك وإخراجك, ومن سينوغرافيا خاصة بك، أن تشكّل عودة من قبلك لفرجويتك التي تجليت بها عبر أعمال كثيرة مطالع تسعينيات القرن الماضي، وإذا بك تتوقف مرة ثانية، مختاراً المونودراما تمثيلاً هذه المرة لعرض «عائد إلى حيفا» المأخوذ عن رواية غسان كنفاني، لتنزاح بها وطريقة عرضك لها وتعاملك مع رؤى مخرجها يحيى البشتاوي، محاولاً شكلاً جديداً لمفهوم الفرجة عبر جهود ممثل وحيد. أين تضع «غزالة المزيون» وأين تضع «عائد إلى حيفا» ضمن الحشد الكبير من أعمالك المسرحية؟
بالمناسبة اسمح لي أن أرتب التاريخ قليلاً ليكون الجواب كامناً في هذا الترتيب: «صباح ومسا» و»عائد إلى حيفا» في عام 2009، «فصيلة على طريق الموت» و»غزالة المزيون» في عام 2010، من هنا تجد أن آخر المطاف كان بالفرجة في غزالة المزيون وتوازيها فصيلة على طريق الموت التي لم تكن فرجة لكنني قدمتها في فضاء مفتوح هو ساحة مديرية الفنون في اللويبدة. أما «عائد إلى حيفا» فالفرجة فيها تكمن في اختيار كون الشخصية (سعيد) حكواتياً.. وبالتالي امتلكت كممثل هذه المساحة الكبيرة كمشخصاتي فرجوي، وهنا لا بد أن أشكر د. يحيى البشتاوي الذي وافق أن أشترك في الإعداد كما وافق على مرجعية الشخصية والزمان اللتين اقترحتهما عليه.

إلى أي قدر، برأيك، يعد الثمن الذي يدفعه الفنان، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، باهظاً ليظل وفيّاً لإبداعه ولرسالة الفن؟
يدفع الفنان ثمناً باهظاً بالفعل، وتجربتي مريرة بذلك، فلقد عانيت من المنع في العمل، كما نمت وأولادي بالجوع ليالٍ عديدة، ووصل الأمر في بعض الأوقات إلى أنني لا أجد ما أطعمهم سوى الملح والخبز.. لكنه اختياري أن أكون فناناً ملتزماً، وعائلتي دفعوا الثمن معي، كما أن أركان البيت اهتزت مراراً لا لسبب إلا الظلم الذي يحيق بي كفنان؛ أن تطرد من منزل تستأجره أنت ووالدتك وابناؤك لأنك فنان وصاحب البيت يخشى أن يحاسب في الآخرة على ذلك.. هي معاناة كبيرة، أن تترك ما يأتيك بالمال لتنحاز لمشروعك المسرحي الذي تؤمن به مقابل لاشيء، أن تكتب ولا تجد من ينشر لك، أن تبدع ويمنع عملك قبل الافتتاح بليلة، أن لا يجاز عملك للنشر أو العرض، أن تتلاشى فرقتك المسرحية بقرار حلٍّ عرفي، أن تكون في إطار لا يقدر معنى أنك في حالة كتابة (حالة ولادة) ولا يمكنك التواصل مع محيط آنياً.. تفاصيل من المعاناة لا يعلمها إلا الله والفنان المبدع. هنا استغل الفرصة لأعتذر لأبنائي لما سببته لهم من معاناة اجتماعية ومادية لكوني فنان من هذا النوع، وأشكر لهم لأنهم دوماً يتجاوزون كل هذا ويفخرون بمنجزي.

الإبداع والإدارة

العمل الإداري ومشاغله واستحقاقاته، هل أثّرت على خصبك المسرحي الذي عودتنا عليه؟ وهل في جعبة مقبل الأيام من جديد يخبئه لنا غنام غنام؟
-نعن إلى حد ما أثر على رغبتي في تقديم عمل مسرحي كمخرج، خاصة أنني أخطط منذ عامين لعمل ربما يظهر في 2015 من مسرح الجلسة وأفكر بتطويع غزالة المزيون لهذه التجربة مدداً. لكنني في الوقت نفسه كتبت عدداً من النصوص التي أعتز بها. ولا أخفي سراً أنني سعيد بعملي الإداري لأنني أخدم من خلاله المسرحيين العرب جميعهم والمشروع النهضوي التنويري العربي، وهو الذي لن يكون متاحاً لي بهذا الزخم، لو لم أكن في الهيئة العربية للمسرح وفي شارقة الثقافة.

 

 

محمد جميل خضر

http://www.alrai.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *