“ريتشارد الثالث”.. وَهْم مسرح جديد

 

لا تتمتع مسرحية “ريتشارد الثالث” بقيمها الذاتية وحدها، تتمتع بقيم المؤلف الشكسبيري الأصلي، الموصول بطبقات العنف الداخلية فيه. نصّ، تطابق أحداثه، نصوص الأحداث العربية في الآونة الأخيرة. غير أن النصّ الشعري الشكسبيري، لم يوافق تطلّعات الكاتب والمخرج، في العرض الفائز بالجائزة الأولى في الدورة الأخيرة من “مهرجان المسرح العربي”. لذا، افتتحت الدورة الـ24 من “الأيام” المسرحية في الشارقة، في 17 من الشهر الجاري، في تقليد أرسته الأيام، من خلال الشراكة القائمة بينها وبين “مهرجان المسرح العربي”. كل عرض فائز يفتتح دورة المهرجان في سنته الراهنة. توأمة لافتة في”الشارقة بالمسرح”، لأن بناء جسمين، منفصلين على آليات واحدة، بناء مقدر بكل المقاييس.

فازت المسرحية اللبنانية “الديكتاتور” بجائزة الدورة الماضية. إخراج لينا أبيض، عن نص الكاتب الراحل عصام محفوظ. عرضت في افتتاح الدورة الماضية للمهرجان، ما طرح مجموعة من الأسئلة على أدوار هيئات ولجان التحكيم. ذلك أن العرضين، لا يتميزان بما يجدّد في المشاهد الراهنة على خشبات المسارح العربية والمنصّات الخاصة.
لا شيء مما يميز العرض الأول والثاني عن عروض عربية عادية. لا بحوث جديدة هنا. لا نتاج يرفض الاعتماد على العقليات السائدة في الدرامات العربية. لا أدوات كافية لبناء عرض جديد، يشاكل العروض القديمة، أو الموروثات. لأن التجديدات في المسرح العربي، أضحت تقليدية، من كثرة استعمالها واستهلاكها. ما دامت “الديكتاتور” تقليدية البناء، قائمة على موروث هداية التموضع لا الإخراج في تجربة المسرح العربي، لولا أن الاقتباس استبدل الشخصيتين الرجاليتين بشخصيتين نسائيتين. ثورة موؤدة بعد موت الكثير من الحركات الثورية في لبنان واندلاع الحروب الأهلية فيه واهتزاز الستاتيكو الإقليمي والعالمي المتوازن، على فترة مديدة، على الأراضي اللبنانية، عبر العديد من الاجتياحات الإسرائيلية.
يعلم الكثيرون، أن ثمة اتفاقات وتسويات، تقدم عرضاً على عرض وتؤخر مسرحية على مسرحية. لا بأس. ثم إن العطاء يفترض، خلق المناخ الجاذب، المُصَّدق على مشروعية لجان التحكيم ومدى صدقيتها. ذلك، أن لا أحد يدري، الكيفية المعيارية السائدة، لأعضاء لجان التحكيم، بما يمثلونه، إذا قُدِّر لهم أن يمثلوا ضرباً من ضروب أو مكانة من مكانات في تجربة المسرح العربي. لا شيء يؤكد على ذلك، أمام الكثير من بنيات لجان التحكيم. أحد أبرز الإشارات على الأمر، أن “الأيام” المسرحية في الشارقة اختارت مخرج المسرحية جعفر القاسمي، كعضو في لجنة التحكيم، فقط لأن اللجنة انتقت عمله كعمل فائز في مسابقة ماضية. سرعة وسهولة وتقييم مزدوج، من لجان شبه سرية، يستطيع الكثيرون أن يشككوا في طاقات أفرادها وقيمهم وقوى تفكيرهم.
ترد المسرحية حضورها إلى مسرحية شكسبير الشهيرة، غير أنها لا تتوقف أمامها كثيراً، إلا في مشهدين يصفان دمامة ريتشارد الثالث، نموذج مسقط على هيئة الحاكم العربي. دميم الوجه، بحدبة ظهر، وقدم عرجاء. غير أنه يعوض غياب كاريزماه الشخصية بعنف لا ينتمي إلى أي عنف آخر. لاشيء من مسرحية شكسبير غير ذلك. قميص شكسبير بعد قميص عثمان. استعمال المكانة ببناء فكرة، لا تقوم على سالف الذكر، بقدر ما تقوم على الواقع. إسهام شكسبيري في مؤلف عربي. واحدة من عبقريات العرب الحديثة. لن يكتب محفوظ غزال نصّه إلا بمساهمة شكسبيرية محدودة. لن يقفز الرجل فوق الحاجز الشكسبيري وهو يكتب حكاية الأب “الديكتاتور”، في عائلة تحاول التخلّص من إرثه، بعد تركه لها. إرث قمعي، ثقيل، على المشاهد أن يتبيّنه، بعد تجميعه، في نثار مقاطع وجمل ومشاهد، لا تتوحّد في لحظة واحدة، بروح درامية واحدة، أو في سياق درامي واحد. جمع المشاهدون حكاية المسرحية/ حدثها، على مرحلتين. مرحلة العرض ومرحلة ما بعد العرض، إذ تبادل المشاهدون ما وجدوه غير متعارض مع الرؤية الشكسبيرية للعرض. فهمٌ من هنا وفهمٌ من هناك. قراءة احتمالات من عديد الجهات، لدى المشاهدين، ما أفضى إلى ترجمة العرض على حكايته المفترضة. لا يتوقف تقريب وجهات النظر هنا، لأن العرض افتقد إلى الدراماتورجيا، في تقريب وجهات النظر بين وجهات النظر العديدة فيه. لأن مفهوم المعاصرة، الخاطئ، لم يجانب أن يرصف هذه الأداة أو تلك، من هذا المنهج أو ذلك المنهج، على خطوط سير عديدة متوازية.
نتاج مسرحي، مجتهد، يفتقر إلى الوحدة الدرامية، وهو يستدعي التغريب والرقص المعاصر والتعبيرية والطقس، من آرتو، صاحبه الأول في التجربة المسرحية العالمية والأداءات الممسوسة بالواقعية المحضة، الدائرة على أسلاك العقليات العربية.
عجيج من أصناف ومناهج لا تشكل موجة واضحة وسط تيارات مائية عاتية. لم يستطع العرض، أن يعَّمِر منصته، على التعارض الدرامي في الطريق إلى الصياغة الدرامية الموحدة، على قواعد المثل الشعبي القديم “من كل واد عصا”. وهم مسرح جديد، لا جديد مسرح. ذلك، أن عدم القدرة على قوننة المناهج، قدم العرض على أنه عرض مفاهيم مقتبسة، لا مفاهيم مشغولة بالفهم واستدراك الفهم ببناء مسرح الحدث على امتلاك التقنيات بالمناهج المسرحية، لا على استعارتها واستخدامها فقط.
لا تزال بعض التجارب الشبابية، تطرح احتمالات تعمير التيار الثالث في تجربة المسرح العربي. لا تنجح إلا بالاحتفال بالفكرة، بإحراق خشبها والتدفئة عليه. “ريتشارد الثالث” بين المسرح اليوناني القديم والمسرح الأوربي الحديث. خلطة، أشبه بالخلطة بين العامية التونسية والعربية الفصحى. عامية غير مفهومة باستمرار، يخرج العرض منها إلى العربية الفصحى، من دون انقطاع عن غنائياتها الداخلية. كل ما هو باللهجة المحلية مغلق. وكل ما هو بالعربية الفصحى مغنّى. شيء مرهق. غير أن الكلام بالعربية، غالباً ما فقد معناه، من عدم قدرة الممثلين على التقاط المعاني في اللغة. الأخطر، أن مخرج العرض توقع في تصريح إلى يومية “الأيام”، بأا تراوح عروض “ريتشارد الثالث” في العالم العربي، لأنه توقع “لهذا العرض النجاح عالمياً”. الأرجح، أن المهرجانات تمنح جوائزها، لا لعرض بقواه الذاتية، تمنحه من ضعف العروض الأخرى، على قاعدة النسبية.
عبيدو باشا
http://www.almodon.com/

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *