‘فايّيي إنكلان’ رائد الأدب المسرحيّ والغنائيّ في إسبانيا في ذكرى ميلاده الـ 150

 

 

 

في الخامس من كانون الثاني/يناير 2014 حلّت الذكرى الثامنة والسبعون لرحيل الكاتب الإسباني الغنائي والمسرحي’ رامون فاييّي إنكلان ‘(1866-1936) الذي يعتبر من كبار المبدعين في تاريخ الأدب الإسباني المعاصر.
كان ‘فايّيي إنكلان’ في خضمّ احتفالات نهاية أعياد الميلاد قد فارق الحياة في عاصمة غاليسيا ‘سانتياغو دي كومبوستيلا’ على سريره وهو مستغرق في الكتابة، مات فقيرا معدما، ولكنه كان فاحش الثراء خلقا وإبداعا وعطاء. وتتأهّب ‘مؤسّسة فاييّي إنكلان’ الإسبانية التي تعنى بآثاره وأعماله الإبداعية لإقامة سنة احتفالية كاملة كبرى في إسبانيا ،وفي العالم الناطق باللغة الإسبانية على أوسع نطاق بهذا الكاتب المبدع خلال عام 1916 حيث ستحلّ الذكرى 150 لميلاده، وتتوفّر هذه المؤسّسة في الوقت الراهن على مسرح يعنى بالأعمال الإبداعية المسرحية والدرامية لهذا الكاتب، كما تصدر هذه المؤسّسة مجلة أدبية دورية تحمل اسم أحد أعماله المسرحية’ برادومين’ ،كما قامت المؤسّسة في السنوات الماضية بنشرأعماله الكاملة في مجلّدين كبيرين ضمّ المجلّد الاوّل إبداعاته النثرية ، وتضمّن الثاني أعماله المسرحية والشعرية والقصص.

ذراعا فاييّي إنكلان وسيرفانتيس

ونشر مؤخرا حفيد الكاتب فاييّي إنكلان ‘خواكين’ العديد من نصوص جدّه المخطوطة المؤرّخة في الفترة المتراوحة بين1895 و1935 والتي لم تكن قد نشرت من قبل مثل ‘إشبيلية’ و’الموت راقصا’ و’الماركيزة كارولينا وبرادومين’ و’الملك الأعمى’ و’طرق وقدر’ و’الزّلزال’ و’جندي من إفرقيا’ وبعض الرسائل المخطوطة الشخصيّة الأخرى التي ترى النور لأوّل مرّة، وتلقي أضواء جديدة كاشفة على حياة هذا الكاتب خاصّة في الفترة التي زجّ به في السّجن من طرف الدكتاتور الإسباني بريمو دي ريفيرا.
ومثلما بترت الذراع اليسرى للكاتب الإسباني العالمي ‘ميغيل دي سيرفانتيس′ صاحب ‘دون كيشوت’ في معركة خليج ‘ليبانتو’ الشهيرة ضد الأتراك في اليونان (7 أكتوبر 1571) فقد بترت الذراع اليسرى كذلك للكاتب رامون فاييّي إنكلان على إثر مشاجرة عنيفة مع معاصره الكاتب الإسباني كذلك ‘مانويل بوينو’، وبعد أن تماثل ‘فاييّي إنكلان’ للشفاء، أقام أصدقاؤه الكتّاب والشّعراء ومعهم ‘مانويل بوينو’ الجاني حفلا كبيرا بتقديم إحدى مسرحياته بمسرح ‘لارا’ المرموق بمدريد والتي كانت تحت عنوان ‘رماد’ من إخراج فاييّي إنكلان نفسه، وجمعوا مبلغا هامّا من المال واشتروا لصديقهم ذراعا صناعية حتى يعوّض بها اليد التي فقدها بعد ذلك الشّجار اللعين، وأصبح معروفا لدى الجميع منذ ذلك الإبّان بالكاتب الذي لم تعد له سوى ذراع واحدة مثل بلديّه الكاتب الذائع الصّيت ميغيل دي سيرفانتيس، ولحق به نفس اللّقب الذي لزم صاحب ‘دون كيشوتّ وهو (المانكو) الذي يعني في اللغة الإسبانية ذو الذراع الواحدة.

رائد المسرح الإسباني المعاصر

التيّارات الجديدة التي عرفها المسرح الغربي بشكل عام إنطلاقا من عام 1887 في كل من باريس، وبرلين، وموسكو، ولندن، تعتبر انعطافا في تطويرهذا المسرح، حيث عرفت المواضيع الأساسية المتعلقة بالعروض المسرحيّة تطوّرا هائلا مهّدت السّبيل إلى ظهورالمسرح الحديث الذي سيصبح من أبرز رجالاته فيما بعد ‘برتولت برخت’، و’أرثور أداموف’، و’جان جنيه’، و’غروتوسكي’، و’بيتر بروك’، وسواهم الذين يعتبرون برمّتهم من الوجوه المشعّة في تاريخ تطوّر المسرح الأوروبي. هذا التيّارلا يعتمد علي الصّورة المسرحية بقدر ما يعني في الأساس بجوهرالنصوص ،هذه النقلة التي توسم كذلك بـ’ ثورة’ التي عرفها عالم المسرح في إسبانيا قام بها الكاتب الإسباني ‘فاييّي إنكلان’ انطلاقا من سنة 1906 حيث بدأ يتجلّى الإبداع المسرحي في الورق والكتابة قبل أن يظهر على الخشبة بواسطة الإخراج المسرحي.
وهناك نصّان مسرحيّان بارزان لهذا المبدع هما ‘نسر المجد’ (1907) و’غنائية الذئاب’ (1908) حيث بدأ بهما ‘رامون فاييّي إنكلان’ مرحلة جديدة في الفنّ الدرامي في إسبانيا، وتغلف هذه النصوص أجواء من الظلام، والطلاسم، والموت، والدم، والعنف، والقسوة، وعناصر أخرى ظلّت بمنأى عن النصوص المسرحية الأوروبية، وعن خشبات المسارح الغربية بشكل عام. لا تحتاج نصوص ‘إنكلان’ سوى إلى حيّز رمزي لإبلاغها للجمهور، وتغدو كلمات شخصياته حليفة الضوء واللّون والصّوت، ولصيقة بأجسام الممثلين وحركاتهم ومواقعهم، ذلك أنّ هذه النصوص تتوفّر علي قوّة سحرية ليس انطلاقا من ثراء مضامينها وحسب، بل وبشكلها وإطارها ووقعها وتنغيماتها، هذه النصوص هي ذات طابع إجتماعي ونفسي في آن واحد، إذ لا يقوم العالم الدرامي لدى الكاتب سوى على النطق والقراءة كما كان الشأن في النصوص الواقعية، بل إنّه لصيق بالجّو الرمزي الجديد، أيّ طغيان الكلمة باعتبارها الخاتم الجديد لمسرح القرن العشرين. لم يكن ‘فاييى إنكلان’ بهذا الاتجاه الجديد كاتب نصوص وحسب، بل كان ممثلا ومخرجا مسرحيا في آن واحد داخل نصوصه نفسها. وهذا المنحى المسرحي الجديد لديه ليس هروبا من الأعراف أو القواعد المسرحية التقليدية المألوفة أو نكرانا لها بقدر ما هو عودة إلى ينابيع الدراما الأولى، وانغماس في معايشة الفنّ المسرحي في أجلي معانيه وأبهى صوره. إنّه بهذا الاتّجاه مثلما هو عليه الأمر في التراجيديا الكلاسيكية يمثل رجوع الإنسان إلى رؤاه الأولى المبكّرة للعالم الحافل بالأسرار والخبايا والخفايا والغوامض، هذا العالم المغلّف بلغز التساؤل الأبدي المحيّر، وما يتراءى له في نصوصه من شخصيات غريبة تتسابق وتتلاحق وتتعانق فيها الخيالات وأضغاث الأحلام باللاّوعى والهذيان.إنّ فاييّى إنكلان باتجاهه هذا قد أعاد الإعتبار لبعض الأبطال الكلاسيكييّن الذين نعرفهم، فالأشكال المسرحية المبتكرة في نصوصه الدرامية هي الحلقة الواصلة التي كانت مفقودة بين جيري وبريخت ، أو أرتود وأونيسكو، أي بين المسرح الملحمي أو الحماسي ومسرح العبث أو اللاّمعقول.

إنكلان وروبين داريّو

يعتبر رامون فاييّي إنكلان من الكتّاب المجدّدين في إسبانيا، ولقد اقتفى في هذا القبيل آثار صديقه ومعاصره شّاعر نيكاراغوا الكبير المجدّد ‘روبين داريّو’ الذي تعرّف عليه وأقام معه صداقة متينة عندما قدم إلى مدريد عام 1899حيث كان يشارك إلى جانب كبار الأدباء والكتّاب والشعراء الإسبان الموائد الثقافية المستديرة، والمناقشات الأدبية الرفيعة التي كانت تنظّم في ‘مقهى مدريد’ (كانت بمثابة مقهى الفيشاوي في مصر) وكان يشرف على هذه التجمّعات فاييّي إنكلان نفسه، والأديب الإسباني الكبير خاثينتو بينابينتي، وكان معظم هؤلاء الكتّاب الإسبان ينتمون إلى الجيل الأدبي الشهير (98) الذي كان من أبرز أعضائه كذلك إلى جانب فاييّي إنكلان أدباء وشعراء كبار من العيار الثقيل أمثال ‘أونامونو’ و’أثورين’ و’أنطونيو ماتشادو’ وسواهم من أعمال فاييّي إنكلان الأخرى القصصية والمسرحية الأخرى ‘بابل’ (1888)، و’الشحّاذ’ (1891)، و’منتصف الليل’ (1889)، و’رماد’ (1899)، و’الخوف’ و’مأساة حلم’ و’ملك القناع′ (1903)، و’بلاط الحبّ (1914)، و’المسحور’ (1913)، و’المصباح السّحري’ (1916)، و’كلمات ربّانية’ (1920)، و’وردة من ورق’ (1924)، و’أضواء البوهيمية’ (1924)، و’ثلاثاء الكارنفال’ (1930) وسواها. كما نقلت العديد من أعماله الإبداعية إلى السينما في كلّ من بلده إسبانيا وفي المكسيك وكوبا ، منها ‘يوميات المركيز برادومين’ (1959)، و’زهرة القداسة’ (1972)، و’أختي أنطونيا’ (1976)، و’كلمات ربّانية’(1978)، و’أضواء البوهيمية’ (1985)، و’بانديراس المستبدّ’ (1993).

‘ كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).

 

غرناطة ـ من محمّد محمّد خطّابي

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *