‘اللي بعده’ .. حلو الفكرة ومر المعالجة

 

أسوأ ما قد يفعله الكاتب بنفسه، هو الإقدام على كتابة فكرة ما، دون الإلمام بمكامن الثراء الدرامي الموجودة بها، لتبدو الفكرة براقة، ألمعية، ولكنها لا تلبث أن تتوقف عند حد هذا التوصيف الرنان وكفى، ومن ثم يتوه وقعه في غمار معالجة مشتتة، خاوية الوفاض، تجنح إلى عدد من الحلول المعهودة، لحل إشكالية ملأ وقت العرض وفراغاته، فتتنوع ما بين الثرثرة أحيانا، وأحيانا أخرى اقحام المزيكا، أوالغنوة وغيرها.

ورغم أن الكاتب محمد سلماوي إختار التكثيف، كأكثر الحلول إحتراما لنصه المسرحي الذي ينتمي إلى هذه الأعمال السابق ذكرها، بعنوان ‘اللي بعده’ والذي قدمه على مسرح ساقية الصاوي بالقاهرة، فأطل على الجمهور بمسرحية من فصل واحد قصير يكاد أن يقترب شكلا ومضمونا من كونه مشهدا طويلا، إلا أن هذه القدرة على الاستشعار لم تُمكنه كليا من السيطرة على جماح الفكرة التي طرحها في عرضه، لم يقو على عقد علاقة حميمة مع مواطن قوتها، وبواطن أوجها الدرامي أو الساخر.
فكرة مختلفة
رمز سلماوي في فكرة نصه المسرحي إلى الوضع الإجتماعي والسياسي الراهن بإيجاز جدير بالإعجاب، صور من خلاله المواطنين يتزاحمون في صف غامض، يتشاحنون على أدوارهم التي طال بهم الزمن في الحصول عليها، مُضيفا على أبطاله، أعمارا مختلفة، ومستويات ثقافية متناقضة، فمنهم الفلاح والآخر الطبيب، ومنهم الشاب ونظيره الذي أدركه الشيب.
الفكرة بلا شك، لها جاذبيتها في دغدغة فضول المتفرج، وإثارة شغفه، والاستحواذ على انتباهه، ولكن خط سير المعالجة، أزهق روح الفكرة، ولم يخرج منها أفضل ما فيها، عاجزا عن التواؤم المثمر معها، والذى يعد عاملا رئيسيا لنجاح أي عرض بشكل يكاد يكون متكاملا.
مباشرية وتخبط
يبدأ العرض، بلقطة شديدة الإبتذال، يدخل فيها الأبطال واحدا تلو الآخر، كل منهم حاملا في يده لافتة مكتوب عليها كلمات من قبيل ‘خوف، فقر، تحرش، بطالة، ظلم، ….. إلخ’، يصطف الأبطال وهم يحملون الوريقات مواريين وجوههم بها، ومن ثم ينطفىء النور، وما إن يضاء من جديد يبدأ العرض. وكأن المتفرج بحاجة إلى تذكيره قبل بداية العرض بهذه الأمراض التي تصيب مجتمعه والتي يعيشها عن ظهر قلب، ويرغب الآن وقد دفع نقودا ليحضر عرض مسرحي في ألا يراها مكتوبة بخط اسود على ورقة بيضاء أمام وجهه. فهذا التقديم الساذج لم يكن له أي داع.
تماما كآخر لقطة في العرض، والتي يظهر فيها ‘حماد’، ذلك المواطن الذي استماتت زوجته في البحث عنه طوال المسرحية، ليصعد من بين الجماهير فجأة، إلى خشبة المسرح، ومن ثم يحادث المتفرجين ويلقى بخطبه أول جمل فيها ‘ شوفتوا، أهو ده حالنا، كله طوابير…..إلخ’، من جديد يتم التعامل مع الجمهور على إنه أغبى من فهم مغزى العمل المسرحي، فالأمر تخطى عدم إعطاء مساحة خيال كافية للتفكر، وإنما انتهك عقلية المتلقى بشكل يسيء له بكل تأكيد ومن قبله صفة الإبداع ذاتها.
ومثلما اُقحمت الاستغاثات الورقية بالظلم والبطالة قبل بدء العرض، تم الزج بأغنية ذيلية لا محل لها من الإعراب بعد إنتهائه، فبعد انطفاء الأنوار، أضيئت مرة أخرى على أحد الأبطال وهو جالسا في المنتصف ومعه غيتاره، ومن ثم تشاركه بطلة أخرى في الغناء، ويتوالى الجمع بالترتيب ذاته تقريبا ليشارك في الغناء، وكأن الأغنية شىء إضافي يعوض بشكل أو بآخر عن قِصِر مدة العرض.
الكوميديا واستفهامات الطرح
هذا وإلى جانب، بعض الخطوط التي لم يُعد لها جيدا، فبدت تقليدية تفتقر إلى الروح، منها خط السيدة التي تبحث عن زوجها ‘حامد’، هذا الخط الذي تاه بين كونه مصدرا لصناعة الإفيه، وبين تحوله في النهاية إلى خط درامي تراجيدي بحت، له صبغة تبلغ الذروة في تقليديتها، ومعها تفقد الأثر والفاعلية بشكل حقيقي.
نقطة أخرى، أتت غريبة في سياق الطرح، ففي بداية المسرحية كان أحد المسنين يجلس على الكرسي الموضوع في منتصف المسرح، منتظرا دوره، تماما كالآخرين لا يتميز عنهم في شيء، وحينما أتى دخيل ما للناس يقنعهم بضرورة تنظيم أنفسهم لتيسير حركة الطابور، يموت الرجل المسن في الوقت الذي يأتي فيه دوره وتتحقق أمنيته، بينما يطمع هذا الدخيل في دوره ويجلس على كرسيه، فيصبح الآمر الناهي، وبالتالي يضحى رقم 1 في الطابور، إذا وإن كان للكرسي دلالة السُلطة، فلماذا لم يحظ بها الرجل المسن الذي كان يجلس عليه في البداية، وهو من تساوى مع غيره، قابعا منتظرا دوره حتى الممات، وإن انحصرت دلالة السُلطة في الكرسي فقط عند مجيء هذا الغريب، فلماذا تفوه الرجل المسن في بداية العرض آمرا من في الطابور بضرب أحدهم وطرده ومصادرة كل ممتلكاته، وهي ذات الجملة التس تفوه بها الدخيل بعدما استولى على الكرسس وبات في موضع القوة، ثمة خلل واضح في هذا الجزء.
الكوميديا في المسرحية اقتصرت فقط على دور الافيه اللفظي، والذي لم يكن على القدر الكافي من الإجادة بما يصنع ضحكة حقيقية على وجه المتفرج.
لفتات جيدة
أجاد سلماوي اختزال فكرة التعامي والتبعية التي تُسيطر على الشعب المصري صوب القائد السياسي، معبرا عنها في صورة الغريب الذي يأتي ويعرض لباقته وحديثه المهندم على الآخرين فيحوذ بلقب صاحب المشورى، وتكون له السلطة في غمضة العين، وأبدع سلماوي حينما أعاد الكرّة ذاتها من جديد، في قدوم غريب آخر لعبه نفس الممثل، بنفس الديالوغ ولكن بطريقة مغايرة، فما كان من رفاق الطابور إلا تكرار نفس الفعلة في تنصيبه على الكرسي، واعتباره ملاذهم ومخلصهم، إثر هروب الأول، بعدما قضى مصلحته وغرضه بحصوله على رقم 1 في الطابور.
ديكور المسرح، جاء ملفتا للغاية، على الرغم من بساطته، وإنما تلك اللوحة الكبيرة المرسومة والتي تم تعليقها بطول خلفية المسرح ساهمت في إعطاء انطباع حيوي، كما أن المخلفات التي نُثرت على أرض المسرح عنوة، مبعثرة هنا وهناك، أعطت صورة شبه مطابقة لحالة الشارع المصري، هي صورة قاسية، وإنما جاءت في محلها.
آخر كلمتين:
ـ توظيف الموسيقى جاء سطحيا، قريب المعنى لدرجة خانقة، ففى اللحظات التي يتحدث فيها أحد رفاق الطابور عن معاناته، تصاحب كلماته موسيقى بائسة، وتخفت إضاءة المسرح، ومن ثم يعود كل شيء لحاله بعدها، وهكذا، يتكرر الأمر، مع كل حديث جاد أو يحتمل بعض الشجن.

 

 

إسراء إمام

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *