مسرحية بوشكين الشعرية.. (موتسارت وساليري)

 

مسرحية بوشكين الشعرية– (موتسارت وساليري) تتمحور حول موضوعة الحسد  باعتبارها ظاهرة اجتماعية يمكن أن تؤدي أدوارا خطيرة و هائلة وكبيرة ورهيبة في مسيرة العلاقات بين البشر, وفي تفاصيل الحياة الإنسانية اليومية بشكل عام, وكم توجد في التراث العربي من قصص وحكايات تتناول موضوعة الحسد هذه  وانعكاساتها وتأثيرها ونتائجها المرعبة, وكان عنوان مسرحية بوشكين هذه عندما كتبها أول مرة هو – (الحسد ) إلا انه تخلٌى عن هذا العنوان لاحقا ووضع بدلا منه عنوان – ( موتسارت وساليري ) كي يكون أكثر شمولية , وعندما اطلعت على مسرحية بوشكين هذه أول مرة وكنت آنذاك طالبا في كلية الآداب بجامعة موسكو قبل خمسين سنة, تذكرت رأسا سورة الفلق , وخصوصا الآية الأخيرة فيها – ( ومن شر حاسد إذا حسد ) , و بقيت أرددها بيني وبين نفسي, إذ يقول ساليري في سياق هذه المسرحية بصراحة الجملة  الآتية – ( أنا حسود. شعور بالحسد المضني ينهشني ) , وهذا اعتراف خطر للإنسان وهو يتحدث مع نفسه, وفي هذه الجملة بالذات يكمن جوهر المسرحية الفكري والفلسفي, ويشير بعض النقاد والباحثين الروس إلى ان بوشكين كان يميل إلى الاعتقاد بظاهرة الحسد في العلاقات الإنسانية بشكل عام , بل إن بعض الأصدقاء قالوا لي صراحة إنهم  اتخذوا بعض الإجراءات ( الوقائية !!! ) الدقيقة و المحددة  حول ذلك,  وأخذوا هذا بعين الاعتبار في علاقاتهم بمن حولهم  ممن يبدون بشكل أو بآخر حسدهم تجاههم  بعد  اطلاعهم على نهاية هذه المسرحية  بالذات !!! وقد قلت لهم ضاحكا ان في هذا تكمن عظمة الفن ووظيفته الاجتماعية وأهميته في حياة الإنسان , وفي هذا أيضا  تنعكس عبقرية  بوشكين وخلوده , ويتناول الكاتب في مسرحيته موضوعة أخرى عدا الحسد وهي – العلاقة  المتبادلة بين العبقرية والشر , إذ يطرح موتسارت هذه الفكرة في حواره مع ساليري ويقول , إن العبقرية والشر – (ضدان لا يجتمعان) , أما ساليري فانه يشك في ذلك , وهذا موضوع فلسفي كبير في مسيرة الفكر … ولكن من الضروري ان نبدأ ولو بشكل وجيز – قبل ذلك كله –  بالكلام عن هذه المسرحية وتاريخها وسماتها وموقعها في نتاجات بوشكين الإبداعية أولا. كتب بوشكين هذه المسرحية في فترة نضوجه الفكري وذلك عام 1830 وتم نشرها عام 1832 وهي واحدة من اربع مسرحيات شعرية اطلق بوشكين عليها تسمية – ( التراجيديات الصغيرة ) أو ( المآسي الصغيرة ) كما جاءت في بعض الترجمات العربية ,  وتعد مسرحية – ( موتسارت وساليري ) ( غالبا ما يكتب المترجمون العرب اسم الموسيقار النمساوي هكذا – موزارت, ولكننا ارتأينا الاحتفاظ باسمه كما جاء عند بوشكين في النص الروسي ) احدى نتاجاته التي اعتمد فيها على الموضوعة العالمية في محاولاته للكتابة عن هموم الحياة الإنسانية وتشعباتها المختلفة حيث تناول الإنسان بشكل عام بغض النظر عن قوميته وجنسه ودينه …الخ, ( لنتذكر مثلا قصيدة بوشكين الشهيرة – النبي ) وقد أبدع الكاتب في ذلك بشكل رائع , وهي المسرحية الوحيدة التي تم عرضها على خشبة المسرح أثناء حياة بوشكين نفسه وذلك في نفس عام نشرها أي في 1832 . اطلع بوشكين على قصة وفاة الموسيقار النمساوي  العظيم موتسارت بعد ان دس صديقه الموسيقار الإيطالي ساليري السم له لأنه كان يحسده لنجاحاته الباهرة في عالم الموسيقى ولا يستطيع ان يجاريه , وقد نشرت هذه الشائعات الصحف العالمية ومنها الروسية في أواسط عشرينات القرن التاسع عشر, وكان بوشكين يميل إلى الاعتقاد بمثل هذه الأفكار المستندة إلى صفة الحسد عند بعض البشر, وكيف ان هذه الصفة يمكن ان تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب الجريمة , وقد أشارت تلك الأخبار في حينها إلى ان ساليري قد اعترف بجريمته تلك وهو على فراش الموت . وهكذا كتب بوشكين مسرحيته الشعرية في إطار هذا المضمون واصفا حسد ساليري الشديد والرهيب تجاه موتسارت وموسيقاه الرائعة ,  التي كان الناس يتقبلونها بإعجاب ودهشة , بينما لم يحقق هو ( أي ساليري ) ذلك النجاح رغم انه أكثر خبرة  منه وأقدم في مجال التأليف الموسيقي , ويتخذ القرار بقتله , وذلك عندما يدعوه لتناول الطعام ويدس له السم في قدحه , وهكذا يقضي عليه  مسموما ويتخلص منه , انطلاقا من حسده المرعب له . لقد عاد الحديث عن هذه الأحداث مرة أخرى عندما قام المخرج التشيكي ميلوس فورمان عام 1984 بإخراج فيلم على وفق مسرحية بيتر شافر حول جريمة ساليري ضد موتسارت , ولكن سكان المدينة الإيطالية التي عاش فيها الموسيقار الإيطالي ساليري  وكذلك متحف موتسارت بدأوا بحملة لرد الاعتبار إلى ساليري , مؤكدين ان الموسيقار الإيطالي بريء من هذه التهمة, وان الذين ألصقوها به هم الصحفيون , وجاء بعدهم بوشكين الذي اقتنع بصحة تلك الاتهامات وكتب مسرحيته حول ذلك , ثم جاءت مسرحية شافر ثم الفيلم …الخ , ومن أجل إثبات براءة ساليري أشاروا إلى ان زوجة موتسارت نفسها قررت ان يكون ساليري معلما لطفل موتسارت في الموسيقى, وان هذا الواقع بحد ذاته ينفي هذه التهمة , إذ كيف يمكن للأم ان تثق بقاتل زوجها وتمنحه إمكانية تعليم ابن الشخص الذي قتله؟ ولكن كل هذه الوقائع والآراء التي تدور حولها لا يعني إلغاء مسرحية بوشكين أو حتى التقليل من أهميتها أو التأثير على مكانتها في دنيا الثقافة والأدب , إذ أنها تبقى نتاجا فنيا وابداعيا باهرا يتمحور حول ظاهرة موجودة فعلا في المجتمع الانساني وتؤدي دورا في مسيرة حياة البشر, وقد استطاع بوشكين بعبقريته ان يصور هذه الفكرة  ويستخدمها بغض النظر عن أبطال هذا الحدث وزمانه ومكانه .
ختاما لهذه السطور الوجيزة, أود الإشارة إلى ان هذه المسرحية الشعرية قد تمت ترجمتها إلى العربية من قبل مترجمين فطاحل هم :المرحومة  د . حياة شرارة ( في كتابها بعنوان – مسرحيات بوشكين, الذي صدر في بغداد نهاية الثمانينات وقد كتبتُ أنا له المقدمة وراجعته ) , والأستاذ عدنان جاموس , زميلي السوري في كلية الآداب بجامعة موسكو وصدر في دمشق بعنوان – المآسي الصغيرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب , والأستاذ المصري المعروف بشعره وترجماته رفعت سلام في كتابه بعنوان – الغجر وأعمال أخرى لبوشكين ,  الصادر في القاهرة ضمن سلسلة مشروع القراءة للجميع , وربما توجد ترجمات عربية أخرى لهذه المسرحية , ويمكن القول بلا شك :إن هذه الترجمات تنتظر الباحث العربي الذي سيدرسها ويقارنها  مع النص الروسي ويتحفنا بدراسة جميلة ومفيدة حول الترجمة وأساليبها.

 

د. ضياء نافع

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *