يوميات ملتقى الشارقة للمسرح (2)

 

كنا من جنسيات عربية مختلفة: الإمارات، العراق، السعودية، لبنان، مصر، السودان، الجزائر، تونس، المغرب. تنويعات مهمة لا بد أنها ستخلق جدلا ثريا بخصوص فكرة التسامح في المسرح تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى ــ حاكم الشارقة، وصاحب الكلمة التي ألقيت في اليوم العربي للمسرح: “ فيا أهل المسرح، تعالوا معنا، لنجعل المسرح مدرسة للأخلاق والحرية “. كيف ذلك؟

هل هذه قاعة أم لوحة زيتية لسالفادور دالي؟ الساعة العاشرة من يوم 26 يناير 2014، انطلقت أشغال ملتقى الشارقة الحادي عشر للمسرح العربي ــ المسرح والتسامح ــ في جوَ شبيه بقطن الربَ. حالة من البياض الذي كندف الثلج التي طالما تخيلتها وكتبت عنها ببعض العجز التصويري. استقبال عربي كريم. لم ينس الإماراتيون الحفاوة الأصيلة التي من خصال السلف. شيدوا مدنا عجيبة وحافظوا على إرث غاية في الأهمية: كرم الأجداد، ذاك ما يبدو من أوَل لقاء: السلام على تلك الحفاوة التي أعادتني إلى هويتي. إنني محتفل مع نفسي، ولا داعي لإزعاجي بالحداثة المصنوعة من نفايات الحضارة الجائعة.

كان الأستاذ عصام قطبا ومريدا في الوقت ذاته. ها قد التقيت به أخيرا، هو الذي كان يهاتفني يوميا من الإمارات ويرتب لسفري. من عادة حدسي أن لا يخطئ في التقدير، لكنه أخطأ هذه المرة خطأ فظيعا. لم يكن صوت السيد عصام يشبه شكله كما تخيلته. يحدث أن نجانب الصواب عندما لا نشحذ الحدس. يحدث ذلك كثيرا بالنظر إلى محدودية الخيال والحواس والعقل والروح البشرية المتلعثمة. كان السيد عصام حاضرا في كل مكان، في القاعة والبهو والفندق ودائرة الثقافة والإعلام بملامحه وابتساماته السودانية الجاحظة. افتتح أشغال المؤتمر الأستاذ عبد الله العويس بكلمة مقتضبة ومكثفة، من ذلك النوع الذي أشاد به البلاغيون القدامى: ما قلَ ودلَ. لعله أحد حفدة هؤلاء. من يدري؟ قليل من النحل أفضل من الذباب الكثير.

كنا من جنسيات عربية مختلفة: الإمارات، العراق، السعودية، لبنان، مصر، السودان، الجزائر، تونس، المغرب. تنويعات مهمة لا بد أنها ستخلق جدلا ثريا بخصوص فكرة التسامح في المسرح تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى ــ حاكم الشارقة، وصاحب الكلمة التي ألقيت في اليوم العربي للمسرح: “ فيا أهل المسرح، تعالوا معنا، لنجعل المسرح مدرسة للأخلاق والحرية “. كيف ذلك؟

المنطلق والهدف: ورد في إعلان مبادئ بشأن التسامح ــ منظمة الأمم المتحدة ــ الذي تمَ تدوينه في الدفتر الذي تم توزيعه على الحضور : “ إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير والتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد…”

تذكرت في قاعة المحاضرات كتاب “ ما لا تقوله الكلمات “ الذي أعرته لطالب. كان من أجمل الكتب التي قرأتها حول التسامح، بالمفهوم الراقي والعملي للكلمة. طبعا، لعنت الطالب وضحكت منَي. ليس من الحذق إعارة كتب بهذه القيمة الاستثنائية، خاصة في هذا الوقت الذي يشبه ثعلبا. كان المؤلف يتحدث عن ملتقى في الترجمة جمع قرابة ألفين وخمسمائة شخص من ألسن مختلفة. وكان كل واحد يتحدث بلغته، وذلك شرط أساسي. لم تكن هناك لغة أفضل من الأخرى، ولم يكن الحاضرون بحاجة إلى مترجمين. كل لغة تعبر عن نفسها وثقافتها، أمَا الترجمة فممنوعة، بما في ذلك ما ورد في البيان الختامي الذي كتب بكل اللغات. كان ذلك الجنون أروع تسامح بين اللغات البشرية.

شبهت المسرح والتسامح بهذه الخطوة العجيبة التي قام بها مترجمون قبل سنين خلت، حدث ذلك في أسبانيا إن لم تخني ذاكرتي، كما تفعل ذلك أحيانا. بيد أنَي كنت معجبا بالمبادرة الإماراتية التي يمكن تعميمها إن توفرت النيات، كنظرية وكممارسة. المسرح أداة مهمَة لصناعة الوئام بين الألسن والقوميات والأديان والملل والنحل، على أن لا تنمحي الخصوصيات المنتجة للمعنى، أو تلك التي تحصن الذات في ظروف تاريخية معقدة، كما أشار إلى ذلك غوته عندما قال بأن عولمة الأدب تقضي عليه وعلى مميزاته.

لقد كانت دائرة الثقافة والإعلام تسعى إلى “ تحقيق مشهد مسرحي عربي أكثر قوة وفاعلية وازدهارا… أما الملتقى فيمثل حلقة وصل بين المسرحيين العرب على اختلاف مواقعهم وتوجهاتهم الفكرية والجمالية، ويربط بينهم ويعزز من إمكانات التحاور والتفاعل والتجدد…كما يعد الملتقى استكمالا لمساره الذي استهله منذ أكثر من عشر سنوات. “ في حين جاءت فكرة المسرح والتسامح تأسيسا على “ جملة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بتأثير من حراك الاقتصاد المعولم وثورة الاتصالات وسطوة وسائل الإعلام، وترافقت مع ذلك ــ أو باتت أكثر وضوحا ــ الصراعات بين الشعوب وتفشت نزعات التباغض والكراهية…”

حيص بيص: المسألة، كما رآها المشاركون في الندوة الهادئة كما الجدول والساقية، ليست يسيرة لاعتبارات عدة: المصطلح والمفهوم بالدرجة الأولى، ثمة ما يربك المدلول ويستغلق على المعنى. لذا تمَت مناقشة كلمة التسامح من عدة أوجه، أدبيا وسياسيا ودينيا وجماليا وأخلاقيا، في إطارها الإقليمي والدولي، وفي بعدها الإنساني، بداية من المسرح الإغريقي إلى القرآن إلى الاستثمارات المريبة التي قد تدخل في باب التنازل لحساب الأقطاب المهيمنة دوليا.

قد يغدو التسامح لغما: كالتسامح مع القاتل المصرَ على الجريمة، أو مع المستعمر الذي يتمادى في إلحاق الضرر بالمستضعف، أو كالتسامح الذي تفرضه القوى الكبرى وفق منطقها، وفي السياقات التي تريدها، وتأسيسا على منطلقاتها ورؤاها المتحوَلة، القطبية في أغلب الأحيان. ما يعني أن المبدأ في حدَ ذاته، رغم ما يبدو عليه من أخلاق وطوباوية، لا يمكن تجسيده إلاَ في إطار تنازلات متبادلة بين الشعوب والألسن والقوميات والأديان، مع أن الجانب السياسي غالبا ما يتبوأ ليمارس ضغوطاته وخياراته. لذا يبقى الحديث عن التسامح بمفهومه المطلق أمرا ممكنا في حدَ، وفي سياق، أي عندما تتوفر الشروط العامة التي تؤسس على البعد الإنساني للخطاب المسرحي، مع ما يمكن أن يكتنف ذلك من تنازلات أحادية الجانب.

المسرح، القيَم، والتحولات الاجتماعية، ثم المسرح والتسامح، قراءة في تجارب عربية معاصرة. لقد ركز الملتقى على هذين المحورين القاعديين، لا ثالث لهما. ما يعكس قوَة تركيز المنظمين وانضباطهم في حصر الموضوعات لئلا يأخذ المؤتمر طابعا احتفاليا يربك التلقي والنقاش، أو يقوم بتعويم الأفكار بإسهامه في إخراج النقاش عن طابعه الأكاديمي.

تحية للأساتذة إبراهيم مبارك، مرعي الحليان، عادل خزام وعلي العبدان من الإمارات، بسمة الفرشيشي ومعز المرابط من تونس، حاتم حافظ ومايسة زكي ومحمود نسيم من مصر، نورة لغزاري وسعيد كريمي من المغرب، عبد الكفري من لبنان، فيصل أحمد سعد من السودان، قحطان زغير من العراق، سامي الجمعان من المملكة العربية السعودية، ولخضر منصوري من الجزائر. هؤلاء هم الذين أثروا النقاش بأخلاق عالية، وبتواضع استثنائي.

ستكون لنا جلسات ونقاشات كثيرة في القاعة وفي الفندق وفي جولاتنا إلى دبي والشارقة، نقاشات مضيئة من ذلك النوع الذي لا نعثر عليه في سوق الرثاث، وفي جدل أولئك الذين يعرفون كل شيء عن كل شيء، بما في ذلك تاريخ ميلاد الشيطان ومقاس حذائه وجواربه واسم خالته. لقد شكلنا، في واقع الأمر، وفي فترة زمنية قصيرة، ما يشبه عائلة من الفنانين والباحثين المنسجمين كما عناقيد الماء الميممة صوب النوادر بقناعة المخلوقات التي تعي وضعها وحقيقتها، وكان ذلك مريحا جدا. المحاضرون كلهم يعرفون ولا يعرفون.

لم يحدث أن حصلت تجاوزات، كما يحصل في بعض الملتقيات المتوترة التي تنطلق من معياريات وقناعات لا تقبل المناقشة، تلك التي تملك علوم الدنيا والآخرة ويوم البعث. لقد حقق اليوم الأول للملتقى نجاحا باهرا بالنظر إلى المنظورات العميقة والنقاشات الجادة التي أسست على زاد معرفي مهمَ، وعلى معرفة السماع وتبادل الآراء بشكل حضاري، وقد كان التنظيم عنصرا مصيريا من أسباب النجاح. ويجب التأكيد على هذا الجانب المثير الذي لا نعثر عليه في كل مكان. الإماراتيون يهتمون كثيرا بالتفاصيل لأنها مصيرية.

المفاجأة: قبل الذهاب إلى الملتقى نزلت إلى صالون الفندق لأكتشف المحيط ومشتقاته. أبدأ بشريحة الهاتف قبل أي شيء آخر. من هذا الذي أمامي؟ الدكتور الناقد اليمين بن تومي من جامعة سطيف، ثم التحقت الدكتورة والروائية ربيعة جلطي. وقبل أسبوع مر من هنا المسرحي والروائي والإعلامي عياشي احميدة الذي تم تكريمه اعتبارا لجهوده في المسرح. لقد اكتمل الصف: الشعر والنقد والهندسة والصحافة والرواية والقصة والفلسفة والترجمة والمسرح.

يجب البدء فورا في التخطيط لانقلاب لا يبقي ولا يذر… انقلاب أدبي ناعم مثلا. لم يعد ينقصنا سوى بعض الذباب والغبار والحفر والممهلات والخطب الحماسية التي أصبحت جزءا معتبرا من كياننا الفظيع. ذلك ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات، أنا المنتهي الصلاحية رغما عني. لا أدري لماذا نخفي هذه الحقائق الموجعة؟ أتصوَر أن التظاهر بالعكس سيعمَق المرض، وسنغدو أتعس أمة إن تمادينا في الادعاء والرعونة. يجب أن نسمي القمامات باسمها لأنها لا يمكن أن تكون وردا، مهما حاولنا إخراجها من حقيقتها. القمامة ليست روضة أو ديوانا شعريا أو بذلة من الحرير أو حمامة أو بلبلا أو حمارا. ما رأيكم أنتم جميعكم أيها الناس، دون استثناء؟ بما في ذلك القرد والحشرة.

لا أتذكر جيدا في أيَ الأمور تناقشنا، المهمَ أننا لم نتطرق إلى الرواية والنقد والشعر والقصة والسياسة والفلسفة والمناهج والمسرح والترجمة. كانت الأديبة ربيعة جلطي بحاجة إلى مشط فاشترينا لها، بعد لأي، أنا والأستاذ المهندس محمد حسين طلبي، مشطين جميلين بحثنا عنهما في كل أزقة المدينة. وكان ذلك من أهمَ الانجازات التي حققتها في حياتي الجمالية والسياحية والنقدية والأكاديمية قاطبة. وضحكنا كثيرا بمناسبة هذا الفتح المبين الذي لا يحدث أكثر من مرَة في القرن، وتحديدا في الشارقة التي كقوس قزح وكالرمان. يا دكتورة ربيعة: أنت مدينة لنا بهذه الخدمة الأسطورية التي أسديناها لك عن قناعة لن تكرر مرة أخرى.

أصبح ابن الأرض لا يضحك ولا يمزح إلاَ عندما يخرج من الوطن في فسحة قصيرة سرعان ما يعود بعدها كئيبا ومنهارا. لم يعد البلد قادرا على توفير الظروف اللازمة لبعض الراحة والابتسام القليل، بعيدا عن اللغط والخربشة. فقط الابتسام من العمق، دون ندم، ودون أن تسقط عليك بعد ذلك لعنة من الوزن الثقيل. تقول النكتة الجزائرية: هناك بلدان إن تكلمت فيها متَ، أما عندنا فإننا نتكلم إلى أن نموت من الغمَ. نكتة تعوَض آلاف النظريات والأطروحات والمناقشات والخطابات المقيتة التي لا تختلف عن لسعات الناموس الذي تحصَل على الجنسية وأصبح مواطنا مثلنا. لم يعد ينقصه سوى بطاقة الانتخاب وقميص الفريق الوطني لكرة القدم ليشارك في الاستحقاقات المزوَرة القادمة.

أغبطك أيتها الشارقة العظيمة. كيف جيء بكل هذا الورد إلى حضرتك وكنت صحراء وقحطا ومرتعا للظباء قبل سنين قليلة؟ تجوَلنا كثيرا قرب البحر والصخور في ذلك المساء المضيء، والتقطنا صوَرا مليئة بالسعادة، هناك حيث العائلات تنعم في هدوء وسلام. لقد قامت المدينة على منشآت قاعدية متينة. الإماراتيون يبنون للمستقبل البعيد، وليس لليوم، أو لليوم التالي. لا وجود للظرف والتفكير القائم على الترقيع، كل المنجزات بملمح استشرافي متقدم، إضافة إلى المنظر والشكل. هناك موسيقى حقيقية في هيئة عمران، وعلى العين أن تغتسل من آثار الخرائب قبل أن تعود إليها قانطة. أوطان الناس للناس.

لن نطيل كثيرا قرب البحر. سيعود الدكتور اليمين رفقة الدكتورة ربيعة غدا في الصباح الباكر. أمَا المخرج الأخضر منصوري وأنا فسنبقى أسبوعا آخر، ما زال لنا متسع من الوقت للتأمل والاكتشاف والقهقهة. كان الأستاذ حسين طلبي سخيَا جدا. لم تنفع معه نقودنا في كل الجولات التي قمنا به. ذكَرني بنائب عام كان جارا لي في وقت مضى. كان يقول لي مازحا: لا تدفع ثمن القهوة. ممنوع منعا باتَا. راتبك الشهري لا يكفيني لشراء التبغ، ومع ذلك تتظاهر بالغنى. كنت وقتها قد اشتغلت ثلاثين سنة بالجامعة ولم أستطع تحقيق أي شيء: سراب وقبضة ريح.

تكفلت دولة الإمارات العربية المتحدة مشكورة بكلَ المصاريف، تذكرة الطائرة والإطعام والإيواء والتعويضات. وتكفل بي الشاعر عياش يحياوي يوما كاملا. أمَا الأستاذ طلبي فمنعني من الحديث في الموضوع بحضوره: الدفع حرام في شرعي. ومع أني كنت ثريا في تلك الأيام فقد حرمت من متعة طالما أحببتها: أن أدفع لأشعر بأني مهمَ، ولو قليلا جدا. يوم ديك أفضل من سنة دجاجة، كما يقال عندنا ببعض المكر والتعصب. لقد ضحكنا كثيرا، رغم ذلك الحزن الذي كنَا نخفيه في أعماقنا. كان كل واحد منَا على يقين تام بأن الآخر ليس سعيدا كما يدَعي، كما يجليه الظاهر، وبأن هناك أشياء كثيرة تدور في بال كل منَا. تلك الأشياء هي الجوهر. الأشياء القاسية التي لا يمكن معالجتها لأنها أكبر منَا. لأنها كذلك منذ سنين، وستستمر، سيستمر العبث الكبير هناك، في تلك البلاد التي تحكمها الصدفة والمهاترات.

اليوم الثاني من أشغال ملتقى الشارقة للمسرح: تم التركيز على مداخلات تطبيقية تخص المسرح العربي، وكانت مشاركة الجزائر بمداخلتين حول المسرحيين المرحومين عبد القادر علولة وكاتب ياسين، كما قدمت تجارب أخرى بمستوى النقاش ذاته، وبذلك الاحترام الكبير لما يقدمه الآخرون، سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا. يبدو أن المحاضرات والنقاشات المركزة كانت تعكس تسامحا حقيقيا يتناغم تماما والمحور المبرمج. لقد غدونا عائلة من الكرز وكفى. شيء مدهش وعفوي لفت انتباه الحضور. قيل لي إن هذه الأجواء استثنائية حقا. هناك ما يشبه السيمفونية، أو المعزوفة القادمة من شرفات الخلق الجليل.

كانت جل المداخلات، بحكم التوقيت والبرمجة، وجيزة ودقيقة، وغاية في الجدية والإفادة، وذلك الأهم. التركيز الكبير الذي يتفادى الإطناب ونفايات السرد، بتعبير الروائي الحبيب السائح. أو الاقتصاد الايجابي الذي يبني على التلميح والاختزال لتفادي الجمل النموذجية التي لا وظيفة لها. وذاك ما كان. مداخلات في الجوهر. بدت لي أبَهة، وذات قيمة أكاديمية محترمة بالنظر إلى جهدها الواضح وطابعها الاحترافي ومستوى الطرح والنقاش.

تأملت القاعة بطبيعة الحال، وذلك الصرح البهيج الذي خصص للثقافة. هناك ناس يشتغلون وهناك ناس تعبوا من التطبيل فاخترعوا طبولا أخرى وأجراسا لتمضية الوقت والحياة. اللعنة… ليس بمقدور الإنسان أن لا يرى ما يحيق به من جنون محلَف، ليس بمقدوره أن ينسى ما يراه يوميا. بعض الساسة يتحدثون كالصراصير والمفرقعات بحيث لا يمكنك أن تفهمهم إطلاقا، وذلك أفضل. أمَا إذا حدث أن فهمتهم فيلزمك الحصول على حبل والبحث عن مكان لائق لتشنق نفسك باحترام شديد اللهجة. هؤلاء هم الذين يخططون لمشاريع من الرماد.

اختتمت الأشغال مساء بتقديم التوصيات التي ألحت على انتقال الأيام المسرحية إلى جهات مختلفة، وإلى الجامعة من أجل تعميم الفائدة. وفي ذلك المساء وزعت الشهادات وعرضت مسرحية ليوجين يونسكو من إخراج هاوية. هناك جهد. قد تأتي البدايات مترددة ومرتبكة، لكنها ستذهب بعيدا إن عرفت كيف تستمع. السماع موهبة نادرة في البلدان المصرة على التعالي، لكنه ما زال على قيد الحياة في بعض الأصقاع التي لم يصبها غرور العظمة وتأثيراته المأسوية. قيل لي وقتها إن الشارقة تقدم ما يقارب ستة آلاف وستمائة نشاط سنويا، أي ما يعادل اثني عشر نشاطا يوميا، إضافة إلى الاهتمام الاستثنائي بطبع المجلات والكتب ودعمها وتوزيعها، مجانا أحيانا، ومجانا معناها دون مقابل، وفي حلَة جميلة تسيل اللعاب من العينين، وليس من الفم.

كما تتعامل الإمارات بشكل مكثف مع أقلام وباحثين عرب وأجانب، وفي كل الحقول المعرفية التي تسهم في تقويتها وترقيتها، كما دلت على ذلك الشروح التي قدمت لنا أثناء الزيارة الجماعية إلى دائرة الثقافة والإعلام، تلك المؤسسة الراقية التي لا تختلف عن دولة داخل دولة. ليحفظك الخالق أيتها البهجة. ذلك هو التعليق الوحيد الذي يمكن أن يفي بالغرض. أمَا العلامات الأخرى فتقرفص عاجزة عن نقل تلك الأبَهة التي لا تختلف عن ملحمة، شكلا وفعلا. أشير ها هنا إلى الجهد والإستراتيجية المنتهجة في الحقل الثقافي، لا غير، دون التدخل في ما لا يعنيني كزائر له تخصصه وميدانه. على الإماراتيين أن يعتزَوا بهذه المنجزات الفخمة الآتية من المستقبل نحو الحاضر، وليس العكس. عليهم أن يفتخروا دون تردد لأنهم أهل لذلك.

صورة من المريجة: عدت إلى قلب الشارقة القديمة لأتأكد من مشاهد سابقة كنت رأيتها مع الشاعر عياش يحياوي الذي استفاض في الشرح والتعليق، بحكم إقامته الطويلة هناك، وبحكم معرفته الدقيقة للمجتمع الإماراتي وخصوصياته ونمط حياته. كان يترك سيارته مفتوحة وبها هاتفه ووثائقه ودراهمه، ولم يكن للمفتاح أي دور، ما عدا أثناء القيادة. أمَا أنا، وبفعل العادة التي اكتسبتها منذ الولادة، فكنت أحمل كل مرة حقيبتي وهاتفي النقال تحت نظراته المتفحصة المتسائلة. لاحظ ذلك مرارا، ثم حدث له ما حدث لمن سكت دهرا ونطق كفرا. قال لي لا أحد يقترب من أغراضك في هذا البلد الآمن، وعليك أن تترك في السيارة، أو الناقة السوداء، كما يسميها، كل وثائقك وجواز سفرك ونقالك، دون أن تقلق.

كانت المحلات التجارية مفتوحة وقت صلاة الظهر، لكن لا أحد بداخلها، لا أحد يحرسها، ما عدا الله والملائكة و الخوف من القانون الصارم. الملائكة كثيرون في الشارقة، لذا لا أحد يعتدي عليك، لا نهارا ولا ليلا، لا أحد يفكر في السطو على عافيتك العزلاء. لم أشاهد الملائكة أمامي، لكنني أحسست بهم منتشرين في كل الأصقاع التي مررت بها مزهوَا كالنعناع. كنت أمشي مطمئنا جدا، وبثقة لا حدَ لها، بل كدت أزغرد لولا الحياء. كانت لي رغبة كبيرة في أن أزغرد كالمعتوه، أو أن أفعل أي شيء يدل على السعادة والحزن في الوقت نفسه. ولكن، لماذا الحزن؟ لا داعي للشرح. سأذهب مساء إلى إمارة عجمان رفقة المهندس محمد حسين طلبي والمسرحي لخضر منصوري، وسأزور غدا مؤسسة العويس الثقافية، ثمَ سنرحل بعد يومين إلى خورفكان، مرورا بإمارة الفجيرة من أجل حضور الكرنفال المسرحي.

الإمارات العربية المتحدة

يناير 2014

ــ يتبع ــ

السعيد بوطاجين

http://www.djazairnews.info/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *