المسرح والتنمية: دلالات ومعان

 

 

 

توجد علاقة، على المستوى الصوتي، بين التنمية والنماء. وبالمقابل، هناك فرق لغوي دقيق بينهما على مستوى الدلالة. النماء يعني، لغة، من ضمن ما يعنيه، الزيادة. وفي اللسان ‘نمى ينمي نميا ونميا ونماء:زاد وكثر، وربما قالوا ينمو نموا’.
وهناك من سوى بين ‘ينمى وينمو’. وفي ‘المعجم الوسيط’3 نما، ونمى، وأنمى، ونمى. نما (بالألف الممدودة) فعل لازم. ونمى (دون تشديد الميم وبالألف المقصورة) وأنمى فعلان لازمان تارة ومتعديان تارة أخرى. ونمى (بتشديد الميم) فعل متعد. الفرق إذن، من الناحية اللغوية، بين نما ونمى هو أن الفعل الأول من النمو والنماء، والفعل الثاني من التنمية. النمو والنماء عملية أو فعل ذاتي داخلي، يحدث داخل الشيء الذي ينمو. و’الأشياء كلها على وجه الأرض نام وصامت: فالنامي مثل النبات والشجر ونحوه، والصامت كالحجر والجبل ونحوه’.
يفهم الصامت هنا بمعنى الجامد الذي لاينمو. والتنمية عملية أو فعل خارجي، ذلك أنها تقتضي وجود طرفين، الأول فاعل والثاني موضوع الفعل فعل التنمية. الأول واضع الخطط والبرامج والسياسات من أجل التنمية، التنمية البشرية؛ والثاني مستفيد منها ، وهو كذلك وسيلتها وغايتها، هذا من الناحية اللغوية.
ومعلوم أن مصطلح التنمية البشرية رائج ومستعمل اليوم سواء على الصعيد العالمي أم على الصعيد الداخلي أي الوطني.فعلى الصعيد العالمي، هناك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي دأب على إعداد تقرير سنوي في الموضوع منذ سنة 1990.
يستند البرنامج ‘إلى تحاليل التجارب’، ويتناول ‘القضايا والاتجاهات والسياسات الإنمائية’ على الصعيد العالمي. وقد صدر التقرير الأخير في شهر مارس سنة 2013. يعتمد هذا الأخير على مؤشرات ملموسة تتعلق بالتعليم، والصحة، والتغذية، والتشغيل، والدخل الفردي، والمشاركة في صنع القرار إلخ. أطلق هذا التقرير الأخير’ دعوة إلى المزيد من الشفافية والمحاسبة، ويشدد على أهمية دور المجتمع المدني العالمي في مناصرة هذا الهدف، وإشراك أكبر الفئات تعرضا للتحديات العالمية في عملية اتخاذ القرار، وهم أشد الفئات فقرا وضعفا في العالم’ حسب مديرة البرنامج هلن كلارك. واعتمادا على مؤشرات ومعطيات ملموسة مستمدة من الواقع يتم ترتيب الدول في سلم التنمية العالمي سنويا إلى حد الآن.
وعلى الصعيد الداخلي الوطني، كان محمد عابد الجابري قد تناول بالدرس والتحليل، في كتابه ‘المغرب المعاصر الخصوصية والهوية..الحداثة والتنمية’7، من ضمن ماتناوله فيه، التنمية بالمغرب من بداية الحماية إلى حدود بداية الثمانينيات من القرن العشرين. وقد نظر إلى التنمية في المغرب ‘ من خلال نتائجها الملموسة وليس من خلال ما تقوله عن نفسها أو ما تدعي تبنيه من مطامح وأهداف’. بناء على هذا، رصد الجابري مسلسل التنمية بالمغرب خلال الحقبة الزمنية المشار إليها سابقا مستعملا البيانات والاحصائيات . في هذا السياق ذكرت المخططات الخماسية، كما تمت الإشارة إلى برنامج ‘الانعاش الوطني’ الذي انطلق سنة 1961. كانت رؤية الجابري لموضوع التنمية بالمغرب رؤية نقدية غير منفصلة عن التزامه ومنظور القومي.
يتجلى التزامه في تعاطفه مع حكومة عبد الله ابراهيم. فهو يرى ‘أن إقالة الحكومة التي نجحت في إقرار التدابير التحررية المذكورة (مايو 1960) كان انتصارا سياسيا لاشك فيه للقوى التي تعارض إعادة هيكلة النظام ‘التعميري’ الاستعماري، والتي كانت قد بدأت تتولى تسييره واستغلاله.
أما الذين كانوا يطمحون إلى إعادة الهيكلة تلك فلم يكونوا في حاجة إلى رفع شعار من الشعارات التي رفعت فيما بعد في كثير من بلدان العالم الثالث كشعار الاشتراكية مثلا. لقد كان يكفيهم أن يقولوا ب’التحرر الاقتصادي’ مثلا حتى يدرك الجميع، والجماهير الشعبية خاصة، أن الأمر يتعلق بتحقيق أحد مضامين شعار ‘الاستقلال’ الشيء الذي لا يستطيع أحد أن ينازع في مشروعيته بل في وجوب القيام به، ولذلك لم يجد خصومهم مايرمونهم به في إطار التنابز بالألقاب والتراشق بالشعارات سوى القول بأن طموحات مخططهم الخماسي طموحات ‘خيالية’ و’غير واقعية’، وبالتالي فلا بد من ‘الواقعية’ التي تعني: ‘الليبرالية”9.
ويتجلى المنظور القومي الذي انطلق منه في نتيجة دراسته حيث قال: ‘وإذن فالتنمية الاجتماعية الشاملة في الوطن العربي لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار من التنمية الاقتصادية والعلمية يقوم على علاقات الترابط العضوي والتكامل بين الأقطار العربية ككل. وإذا تحقق هذا، أو دخل في طور التحقق، فإن البقية، أعني الوحدة السياسية، ستأتي تبعا’.
كتب الجابري عن موضوع التنمية حسب معطيات كانت موجودة في تلك الفترة هي غير موجودة اليوم بالتأكيد. منها مثلا أن50/’من المنازل في المدن لاترتبط بقنوات المجاري كما ان 32 /’ منها لا تتوفر على كهرباء (يتعلق الأمر بصفة خاصة بالمدن الداخلية المتوسطة والصغيرة). أما في البادية فإن نسبة الدوواوير التي تتوفر على كهرباء لا تزيد عن 3/’ (احصائيات 1973)’. واليوم يقدم التقرير العالمي المشار إليه معلومات عن المغرب تتصل بالتنمية البشرية. وتوجد اليوم بالمغرب ‘المبادرة الوطنية للتنمية البشرية’، التي تحتاج إلى دراسة علمية من ذوي الاختصاص.
لكن السؤال الجوهري هنا، أو الذي يبدو كذلك، هو: ما هي علاقة المسرح بالتنمية البشرية؟ إن المسرح منذ أن وجد وهو في قلب التنمية البشرية. ذلك أنه سعى دوما إلى تبصير الناس وإبراز مشاكلهم وقضاياهم، وسعى دوما كذلك إلى غرس القيم الإنسانية الخالدة مثل الحرية، والتسامح، والعدل، والخير، والحب….وغني عن البيان القول إن الكاتب المسرحي يتفاعل مع الواقع، ويعبر دراميا ومسرحيا عن الأحلام والطموحات، كما يعبر عن الآلام والأوجاع. تحدوه في كل ذلك رغبة في المساهمة في رقي وتقدم الإنسان. والرقي والتقدم هما غاية كل تنمية بشرية.
ومنذ أن عرف العرب المسرح في منتصف القرن التاسع عشر، أدرك رواد المسرح العربي دور المسرح في تنمية الإنسان. فقد قال مارون النقاش في خطبته، وهي وثيقة تاريخية، التي ألقاها بمناسبة تقديم مسرحية ‘البخيل’ في أواخر 1847: ‘على أنني عند مروري بالاقطار الأوروباوية، وسلوكي بالامصار الافرنجية، قد عاينت عندهم فيما بين الوسايط والمنافع، التي من شأنها تهذيب الطبايع، مراسحا يلعبون بها ألعابا غريبة، ويقصون فيها قصصا عجيبة. فيرى بهذه الحكايات التي يشيرون إليها، والروايات التي يتشكلون بها ويعتمدون عليها، من ظاهرها مجاز ومزاح، وباطنها حقيقة وصلاح’ محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث1847-1914، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط/3، 1980، ص/33). وذكر فيها أيضا أنه ‘بهذه المراسح تنكشف عيوب البشر، فيعتبر النبيه ويكون منها على حذر. وعدا اكتساب الناس منها التأديب، ورشفهم رضاب النصائح والتمدن والتهذيب، فإنهم بالوقت يتعلمون الفاظا فصيحة، ويغتنمون معاني رجيحة’ ، و’يتفقهون بالامور العالمية، والحوادث المدنية’.
المسرح إذن عنده حقيقة وصلاح، وكاشف لعيوب البشر من أجل الاعتبار والحذر. هذا فضلا عن كونه مجالا لاكتساب الأدب، والتمدن، والتهذيب، واغتنام المعاني الرجيحة أي الوازنة. لهذا وجدت قضايا الإنسان طريقها إلى المسرح، حيث تم، ويتم، تقديمها على الركح بأساليب مسرحية متنوعة، أو في النص الدرامي بأساليب درامية متنوعة أيضا. ولأن الأمر كذلك، فقد كشفت أبحاث ودراسات عن ‘دور المسرح التنويري والطليعي في قيادة المجتمعات نحو الارتقاء بالقيم وصولا إلى المجتمع الحضاري’14، منها كتاب ‘المسرح والقضايا المعاصرة’ الذي وقف من خلاله مؤلفه ‘على أكبر قدر ممكن من القضايا الإنسانية ومحاولة دراستها دراسة عميقة ضمن معطيات الفلسفة والفن المسرحي، بوصفها قد ارتبطت بالواقع الإنساني ارتباطا وثيقا، ولامست دواخل أبناء الجنس البشري على اختلاف فئاتهم، وهو يهدف إلى رصد انعكاساتها في المنتج الفني والإبداعي بوصفه الشاهد المحسوس على ما في الزمن من تحولات وارهاصات صادمة’15. في الكتاب المذكور تمت دراسة قضايا سياسية واجتماعية، ومنها القهر الاجتماعي، انطلاقا من المسرح.
هكذا يبدو جليا أن التنمية، في مفهومها الشامل، لا تنحصر في الجانب المادي فقط، ولكنها تشمل أيضا الجانب المعنوي ومنه تنمية الوعي، وتربية الذوق، واحترام الرأي الآخر، والحق في الاختلاف، المسرح نفسه مختلف ومتنوع، وغيرها من المفاهيم الأساسية في العلاقات الإنسانية المتحضرة. وهنا يكمن الدور الطليعي للمسرح. ولذلك فإن تنمية المسرح، عن طريق الدعم، من صميم التنمية البشرية.

 

أحمد بلخيري

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *