مسرحية (استيلاء).. هيمنة ذكورية غائبة وحضور أُنثوي مستلب!

 

حملوا ما تبقى من أرواحكم .. فالحرب لم تنتهِ بعد..!
تنتمي (الحرب) إلى ذلك النوع  المستحيل من الأفعال التي لازمت البشرية منذ تكوينها الأول ذلك أنها ارتبطت ابتداء بامتلاك القدرة على البقاء كما هو الحال في الصراع بين الإنسان والطبيعة ، ومع تحولات الزمن باتت الحرب وسيلة للسيطرة على الآخر والهيمنة على ثروات الشعوب وفي ذلك أمثلة كثيرة على الحروب الاستعمارية التي قسمت المنطقة العربية على وفق اتفاقيات سياسية، ولم تنته الحرب بعد؛ بل إنها غيرت شكلها فحسب ، مستبدلة رداءها العسكري القديم برداء ناعم يمنحها  قدرة السيطرة على الآخر تحت مسميات الحرية والديمقراطية وغيرها من الملفوظات التي يسهم مثقفو السلطة في تشكيل بنيتها ومفاهيمها. 
ولم يزل المشهد المسرحي في العراق غيرقادر على إنتاج فضاءات مغايرة تمتلك حضورها على مستوى البنية النصية أولاً وليس إنتهاء بالرؤية الإخراجية المستقبلية التي من شأنها أن تسهم في إنتاج ثقافة تنسجم مع حركة العالم المتسارعة بما تحمل من طروحات وإشكالات معرفية لاتقف عند حدود الإرتهان إلى الذاكرة الجمعية المشبعة برائحة الحرب ؛ بل أن  تكون فاعلة في إنتاج ثقافة تمتلك حضورها في تشكيل الواقع  وبناء المستقبل .
إن إعادة إنتاج (الحرب) على خشبة المسرح يطرح العديد من الإشتراطات تقف في مقدمتها جماليات الرؤية الإخراجية التي نفترض أن منتجها يقدم مقترحاً جمالياً وفكرياً متفرداً ومغايراً عن كل الرؤى الإخراجية التي أطاحت بالحرب في مراحل سابقة من تأريخ المسرح في العراق ، حيث تنوعت التجارب المسرحية مثلما تنوعت (الحروب) ففي (حرب الثمانينات ) ظهرت تجارب مسرحية تناهض الحرب من وجهة نظر السلطة ، إلا أن هذه الرؤية سرعان ما تمت إزاحتها بعد (حرب التسعينات)  حيث بدأت التجارب المسرحية تتوالى للكشف عن بشاعة الحرب وماتخلفه وراءها من دمار ، بمعزل عن طروحات السلطة ، ونذكر بخاصة تجارب (منتدى المسرح) الذي أريد له ان يكون صوتاً للسلطة  إلا أنه انقلب عليها من خلال إنتاج عروض مسرحية يطغى على رؤاها الإخراجية حضور فاعل للرمز هروباً من سلطة الرقيب ، وبعيداً عن تجارب (منتدى المسرح)  لابد لنا من ذكر تجارب (فلاح شاكر) في التأليف ورؤية (فاضل خليل ) في الإخراج التي كشفت عن قسوة الحرب في عروض مسرحية عدة، فضلا عن تجارب (كاظم النصار) التي حملت معها مشروعاً مسرحياً عنوانه (مسرح الحرب ) وغيرها من التجارب المسرحية التي أغنتها الدراسات البحثية والأكاديمية .
وبعد انتهاء حقبة الحروب التي عصفت بالشعب العراقي في مراحل سبق ذكرها وليس انتهاء بالاحتلال الأمريكي ، يعود المسرح العراقي إلى تذكير المتلقي بأن ثمة (حربا) لم تنته  بعد ، كان آخرها في العرض المسرحي( استيلاء) تأليف (هوشنك الوزيري) إعداد وتعريق(حيدر جمعة) إخراج (إبراهيم حنون) دراماتورج(رائد محسن) تمثيل ( سمر محمد ، آلاء نجم ، ميلاد سري) مع مجموعة من  شباب المسرح العراقي الواعد،  الذي قدم على خشبة المسرح الوطني في بغداد مؤخرا.

النص الدرامي  بين مقترحات المؤلف واشتغالات اخرى
إن فعل المزاوجة بين طروحات المتن الأساسي للنص المسرحي الذي أنتجه (هوشنك الوزيري) وبين مقترحات الإعداد والتعريق التي تصدى لها ( حيدر جمعة) لم تستطع الابتعاد بالتناصات التي بدت حاضرة في العرض المسرحي التي أعلن عنها المخرج (إبراهيم حنون) في مشاهد العرض الأولى ، التي ارتبطت مع فضاءات نصية أخرى تمثلت في مسرحية (بيت برناردا ألبا) للشاعر الإسباني (فيديريكو غارسا لوركا) حيث يكشف لنا المتن النصي عند حضور فاعل لنص (لوركا ) في مواضع عدة على الرغم من وجود لغة محلية بعيدة عن الفضاء الشعري الذي ينتمي إليه الشاعر الإسباني، وقد أتاحت الدراسات النقدية التي قدمتها (جوليا كرستيفا) التعاطي مع النصوص التناصية  بوصفها تشاكلات معرفية تنتمي إلى مقولة ( إن الأسد هو مجموعة خراف مهضومة) .ومن جهته فإن الفعل الإخراجي عمد إلى تعزيز الفضاء النصي  من خلال علامات بصرية متنوعة تمثلت بالأزياء السوداء (الحداد) وهيمنة السيدة (الزوجة) وغير ذلك.
فضلا عن ذلك فإن (الوزيري) قد اختار التعاطي مع شخصية السلطة العسكرية التي تشكلت في الذاكرة الجمعية وظلت حاضرة على الرغم من غيابها عن العرض ، الأمر الذي يؤكد أن نص المؤلف ينتمي إلى تلك الحقبة الزمنية الماضية التي كان حضور الرمز فيها مهيمناً على النص المحلي كما هو الحال مع العرض ، بمعنى ان الخوف من السلطة تحول من سلوك خارجي يمارس  على نحو معلن كانت الحرب أبرز تمظهراته ، إلى أن تحول إلى سلوك داخلي يضرب أعماق الوعي الإنساني ويراقب سلوكه ، ويذكرنا ذلك برواية (جورج أورويل) ( 1984 ) المعروفة وبخاصة في حضور السلطة الأبدي متمثلا بمقولة ( الأخ الكبير يراقبك)، وفي نص (هوشنك) تحولت السلطة الغائبة إلى حضور مادي تمثل في شخصية الزوجة التي حولت غياب زوجها إلى سلوك  حاضر في فضاء العرض الأمر الذي يحسب للمخرج قدرته في التعامل مع مقترحات المؤلف .
سينوغرافيا العرض بين الدهشة البصرية والوظيفة الإخراجية
اختار المخرج تقسيم فضاء العرض إلى ثلاثة مستويات شكل كل واحد منها منطقة للتعبير البصري ، حيث كان للمنطقة العليا أو ( المنصة / الجسر ) حضور مهيمن على باقي المناطق  حيث بدا واضحاً أن اشتغال المخرج فيها من أجل التأكيد على الزمن الماضي وقد بدا ذلك واضحاً من خلال المتواليات البصرية التي كشف عنها العرض متمثلة ابتداء بالدخان والشخصيات (مجاميع الممثلين) الذين قدموا متواليات حركية تجعلهم متشابهين في السلوك الذي ارتبط بطبيعة الحال بشكل السلطة في تلك المرحلة ، فضلا عن تشاركهم في أزياء الحرب التي سيطرت على سلوكهم الذي جاء منسجماً مع المقترح الإخراجي لحضورهم ، إلا ان حضورهم الأيقوني على مستوى الحركة والزي العسكري جعل المخرج يغفل عن أشكالهم التي بدت متناقضة في ما يتعلق بالهيئة التي تمثل عليها الجندي على نحو بات ملازماً للذاكرة الجمعية سواء في ملابسه أو رأسه الحليق، على العكس من جنود (إبراهيم حنون) الذين طلعوا علينا بشعور طويلة جعلتنا نحيلهم في مواضع عدة إلى عارضي الأزياء ، الذين يؤرشفون لمرحلة تاريخية في زمن ما .. فضلا عن ذلك فإن متواليات الحركة الأيقونية التي اعتمدها المخرج في حركة  (مجاميع الممثلين) أحالت المتلقي إلى صورة تشكلت في زمن سابق عن واحد من أكثر الأفلام اشتغالا على الجانب البصري في التعبير عن هيمنة السلطات القمعية  ألا وهو فيلم (الجدار) للمخرج (ألين باركر) وبخاصة المشاهد التي ارتبطت بإرسال الجنود إلى محرقة الحرب  الذي جاء تناصياً أو كما يقول (د.يوسف رشيد)  (تعرضنياً) مع مشاهد المخرج (إبراهيم حنون) وقد يكون ذلك على نحو غير قصدي .
وقد اختار المخرج منطقة عمق المسرح من اجل تشكيل (المطبخ العسكري) الذي تتم فيه صناعة الأزياء العسكرية وضروريات الحرب المكتنزة برائحة الموت ، وعلى الرغم من الشكل البصري الذي كان متحققاً في هذه المنطقة إلا أنها لم تمتلك حضوراً يسهم في تفعيل الأفكار الدرامية  المتوافرة في المتن النصي وتحويلها إلى فرضيات إخراجية ،على الرغم من أن مقترح الإخراج اختار ترك هذه المنطقة خالية من(الممثلين)  الأمر الذي منح المتلقي مساحة أخرى للتفكير والتأويل بقصدية ذلك الغياب ، الأمر الذي جعلها تنسجم مع فكرة الإبقاء على (المطابخ العسكرية) بوصفها ذاكرة تمنح من يتخذ الحرب أسلوبا في الحياة ومنهجاً في السلطة.
اقتصر حضور الحركة على نحو مستمر داخل فضاء العرض على المنطقة التي اختارها المخرج لتكون بيئة للشخصيات (الممثلات) سوف نأتي على ذكرها في موضع آخر ، إلا ان ما يهمنا هنا هو اشتغال المخرج (إبراهيم حنون) على منطقة وسط المسرح بوصفها مرتكزاً سينوغرافياً يمتلك فعل الحضور، فضلا عن ذلك فإن المعنى الدلالي الذي بدا واضحاً في توزيع الكراسي داخل منطقة التمثيل منح العرض بعداً تأويلاً مزدوجاً ، فإذا كان الكرسي يمتلك دلالة السلطة فإن حضور اللون بأنساق مختلفة قد منح الكرسي اشتغالات أخرى  كما هو الحال مع الكرسي الذي اصطبغ باللون الأحمر على نحو مغاير للكراسي الأخرى التي اتشحت بالسواد كما هي أزياء الشخصيات ، الأمر الذي كشف عن مركزية السلطة ودمويتها التي تمثلتها شخصية (الزوجة) ، من جهة أخرى فإن توظيف المخرج  (للمانيكان) الذي تنوعت أشكاله بين قطع رجالية كاملة وقطع نصفية متشحة بالسواد ؛ بدت القصدية واضحة الملامح في ذلك من اجل التعبير عن أنصاف السياسيين الذين ظل مصيرهم مجهول الهوية كما هو حال ضحاياهم ، إلا ان مايثير الانتباه تأكيد المخرج على (المانيكان ) النسائي النصفي ، الذي ينفي وجوده فرضية الشخصية التسلطية التي اكد عليها المخرج في  (المانيكان) الرجالي الكامل والشاخص في فضاء العرض.  

الأداء التمثيلي بين الجسد الأنثوي والفعل الذكوري
تنوعت اشتغالات المخرج والدراماتورج من اجل إنتاج أداء تمثيلي يكشف عن سلوك السلطة الذكوري  المهيمن من خلال جسد الأنثى ، ويمكن ان يحسب ذلك لصالح صناع العرض ، ذلك ان القدرة على تحويل فعل ذكوري إلى سلوك تتمثله أنثى ليس بالأمر اليسير ، وخصوصاً بالحديث عن نوع محدد من الشخصيات التي تمتلك جميع النقائض النفسية والجسدية والاجتماعية التي تجعلها بعيدة عن سلوك (المرأة/الأنثى) ، على الرغم من ان وجود مثل هذا النوع من الشخصيات ليس غريباً على المجتمعات التي تمتلك فيها المرأة حرية التعبير، كما هي الحال مع شخصية (مارغريت تاتشر) التي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط السلطوية، ولم تتسق مسيرتها (الأنثوسلطوية) إلا بعد  أن تحصلت على لقب (المرأة الحديدية) .ويبدو أن  شخصية (الزوجة) التي جسدتها الفنانة (آلاء نجم) تنتمي لذلك النوع من الشخصيات ، حيث أنها تمثلت السلطة الذكورية بكامل سلوكها ، على مستوى التعبير الصوتي والحركي ، الذي بدا منسجماً في مواضع عدة ، إلا ان صوت الأنثى انفلت من سلطة الشخصية الذكورية في مواضع أخرى، حتى إنها تحولت إلى مسخ( أنثى/ذكورية) برداء نسائي فضفاض  كان على المخرج إدخاله ضمن النسق الأدائي للشخصية من خلال اختيار ملابس رجولية كما هو الحال مع قبعة الرأس (البيرية) والحذاء العسكري، من جهة أخرى فإن أداء الممثلة (ميلاد سري) جاء تعبيراً عن (المرأة/ الأنثى / الضحية ) التي كانت تبحث في الذاكرة عن زوج خطفه جنرال الحرب المزعوم ولم يبقِ منه سوى رسائل تثير مشاعر (الأنثى)، وبين شخصية سلطوية وأخرى هائمة وقفت  الممثلة (لبوة عرب) التي جسدت شخصية (الخادمة/ الأخت) التي تنكرت السلطة لشرعيتها حائرة بين ماضٍ فاقد للعذرية ومستقبل مجهول الهوية،في أداء تمثيلي حاولت من خلاله الحفاظ على الشخصية وعدم انجرارها وراء أداء الشخصيات الأخرى ، ولم يدخر المخرج جهداً في توظيف الأفكار التي بدت واضحة للتلقي على الرغم من اعتماد المخرج على الترميز والغموض لأسباب لم تكن به حاجة إليها ، كما هو الحال في تقسيم الشخصيات الثلاث التي تغيرت عناوينها وانسلخت عن معطياتها بسبب دخول شخصية (صاحبة البيت/ المحتل)  التي جسدتها الفنانة (سمر محمد) ، حيث كان دخولها سبباً في تغيير الفكرة الأساسية للعرض ، كما هو الحال في الهجمات المفاجئة التي استخدمتها قوات الاحتلال في اقتحام بلادنا ، وعلى الرغم من ان دخول هذه الشخصية قد كسر من أفق التلقي إلا ان المخرج لم يتواصل مع بنائها لتكون ختاماً لجميع الحروب التي قادها جنرالات الماضي الموهمون بالبطولة ، وبذلك تنتهي حدود الرؤية الإخراجية عند سنوات الماضي الذي لا نستطيع الفكاك من جحيمه إلا بمستقبل أفضل … لم يزل مجهولاً حتى الآن!

 

صميم حسب الله

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *