مسرحية (أحلام كارتون)..بهاء العتمة.. براءة الأوهام

( الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم  بعضاً، لحساب آخرين يعرفون بعضهم  بعضاً ولا يقتلون بعضهم  بعضاً) بول فاليري

بنسق واتزان محسوبين تتضح وتتعمق مهارات المخرج(كاظم النصار)عبر تثوير مقاصد وعيه الراسخ في قيعان روحه وعقله وثقة وجدانه إخلاصا نوعيا لكل ما نوى على مسرحه طوال سنوات تجربته التي وسمت باسمه بامتياز خاص ،تلك التجربة الحية التي امتدت لتصل-اليوم-إلى حيث تفجيع وترجمة حروف وآهات أوجاع وأوهام أبطال ملاك عمله المسرحي الأخير،عبر انثيالات براعة وبراءة ذلك النص المفعم بالسخرية القاتمة والمحمل بمآثر خلاصات تلك الأوجاع و تفاقماتها جراء فرط تزاحم الانتظارات وتوالي الخسارات والظنون وتجمعها في مجمع المخاوف اليومية،في نهاية ضوء نفق ما أرادت إيصاله المسرحية التي كتبها الشاعر(د.كريم شغيدل) ،متخذا من(أحلام كارتون)عنوانا بالغ الأثر وعميق التأثير من حيث زوايا النظر إلى تراكم الأوهام وهي تتحول إلى( نزهة) في أرض عذابات ما جسّد بعض(مآثره)من الممثلين الذين توالى حضورهم على خشبة المسرح الوطني ليومي 6و7كانون الثاني/2014 وهم (فاضل عباس آل يحيى/سنان العزاوي/علاوي حسين/آلاء نجم/وأسعد مشاي)متناسقين في تأدية أدوارهم، مقتربين في حدس وجس ولمس ما كان -ولم يزل- يواجهنا جميعا من آثار ذلك الجحيم الأرضي،أقصد نحن من أدمن تنفس هواء تلك الأزمات وارتوى بمياه ينابيع المحن واكتوى بنيران الحروب واختنق بأدخنتها اللائبة في دواخل أرواحنا إلى الآن،ولعل أبلغ ما يمكن تلخيصه لكل مآسي مسلسلات تلك الظروف القاسية والاستثنائية التي عاشها عراق الأربعة عقود الماضيات من أعمارنا هو ما اكتنز في صدى هدير تلك الصرخة المدوية التي أطلقتها(حياة البابلي)بطلة رواية(سيدات زحل) للكاتبة الكبيرة (لطفية الدليمي) حين تقول-في سياق أول سطور تلك الرواية:

” ما من نبوءة  لم تتحقق …وما من توقعات لم تحدث … وكل ما أرجأته الكوارث للمستقبل أو ما ادخرته الأيام لبلاد أخرى وقع هنا وانتهى الأمر”.
إن أية محاولة ستسعى لشرح مفاصل ومقومات وإعادة ما سعت إلى قوله مسرحية(أحلام كارتون)-إن لم تفسد لغة الشرح والتوضيح مهابة وخصوصية متعة(اللوعة) التي اجترحها النص،واحتواها الإخراج وبلورها التمثيل- كما لم ولن تصل تلك المحاولات إلى أدنى حدود ومديات وتطلعات ما لازم وتحاذى مع ما تم نسجه من خيوط ملحمة- واقعية تبرقعت بتفويض أوهام –الأحلام الكارتونية لترسيخ حضورها الذي برع-في توثيق أواصرها- المخرج(كاظم النصار) عبر مخارج رؤية ناقدة-حادة- نقية ومفاجئة،محملة بالدهشة الطرية وسحر نقاء السخرية في أقسى مقاييس قتامتها وعتمة وجوده التحريضي،تلك التي تنبق من تلافيف عقل مفكر ومبتكر في ترسيم حدود لعبته ومثابات تمرداته على ما يحصل في الواقع المرير،لقد لجأ المخرج في تمرير الكثير من زحف مقاصده ونبل نواياه وحمم  اعتراضاته وإداناته وتعويماته الجمالية والفكرية من أجل خلق متعة غاية بالذكاء الكافي للحفاظ على أناقة وعمق عرض مبهر ورصين،سعى بشكل وآخر لتجسيد-ربما-  مقولة الكاتب المسرحي (جان أنوي): (في ذروة اليأس ..هنالك بقعة ناصعة يسعد المرء فيها أحيانا)،مع حاصل فرض قدرة فائقة على سحب الجمهور وتماثلات انشداده منذ انبثاق لحظات الشروع برسم خطوط لعبة البداية،وتمهيد كل سبل واجتهادات الوصول إلى إكمال عناصر وتفاصيل تلك اللعبة الماكرة حتى نهاية مدة العرض الذي استمر لأكثر من ساعة ونصف،وهو زمن إبداعي لم يعد  أمرا سهلا  لمن يريد بلوغ رهان النجاح عليه في حيثيات عصرنا الحالي المضغوط بالسرعة  الهائلة ،إلا أن  تنويعات العرض الحاني بتفاعل قدرات ممثليه وانسيابية الخطاب اللفظي والجسدي عبر الاستفادة المثلى مما نوه عنه المخرج في مختصر كلمته في دليل المسرحية بخصوص ما أطلق عليه بـ(الكابريه السياسي) وتحفظات الاهتمام بعدم تجاوز(النسق النصي على نسق الإخراج والأداء)-حسب زعمه-،كلها من فضاءات أخرى ومهارات أدهى انساقت لصالح قوة وفتنة النسق العام لـ(أحلام كارتون)بعد أن تناسلت وتسللت إلى أرواح وعقول وتطلعات أربعة ممثلين وخامسهم بطل صامت لم ينطق حرفا واحدا طوال مدة العرض ،لكنه كان هو النطق البليغ بعينه، عبر ذلك الدور الذي جسده الفنان المبدع(أسعد مشاي) الذي طالما ذكرني بمنطوق حكمة مكسيكية تفيد بأن؛(الصمت مأهول بالأصوات).
هل سنقع في مستنقع الشرح المفسد لقيمة هذا العمل المسرحي الكبير كما كنا قد نوهنا عنه قبل قليل أم أن التوضيح سيكون نسقا تحليليلا مضافا لتقييم قيمة العرض وإنصاف جهود صنّاعه ممن جسد بصدق مدهش أعماق دواخله،على نحو كمية الحرية التي منحها المخرج لفريق عمله لكي يشاركوه في تكوين ونحت شخصياتهم المتمثلة بجحيم وعيها الكوني وفداحة خسائرهم اليومية والمتكررة وتوالي دفق الأزمات التي مرت ودفعت بهم إلى التفكير القطعي بالسفر والخلاص الأكيد بالرحيل عن الوطن جراء ما تعرضوا إليه من مخاوف وتوجسات واكتظاظاك نفسية مستمرة بسبب الحروب ونواتجها القذرة.
ولعل باستطاعتي حسم أمر الإجابة على تلك الأسئلة-هنا- على منوال وسجية وهج ذلك النهج الحذر،المنصاع لضرورات التفكير الدائم لمن يتورط بالسير في حقل من الألغام، لكني أردت أن أضيف بما يمكن أن ينفع القارئ والمتتبع لسياقات التذكير بعطاءات جهود الممثلين والفنيين في هذا العمل المتميز ،وهم(فاضل عباس)المثقف-الراديكالي و(سنان العزاوي)المتدين-المتشدد و(آلاء نجم) المطربة القديمة و(علاوي حسين)الجندي الذي خسر كل المعارك التي شارك فيها،بعد أن شكلوا ظاهرة حية ونابضة في خلاصة بنية العرض من خلال انصهارهم وتناغمهم وتماهيات ذكرياتهم وذواكرهم (هم أنفسهم من عاشوا أزمنة المحنة وشبح التفكير المستمر بالهجرة تحت ذريعة المنفى والرحيل الأبدي عن رحم الوطن) ،لذا جاء تفاعلهم بشكل مضاعف مع الشخصيات التي رسمها المؤلف وسعى المخرج إلى نفخ الروح فيها أثرا وتأثير مذهلا وتركها- بعد مراس تمارين وجولات حوار وتدقيق- تتجسد وعيا أدائيا خالصا زاد من لهب وحرارة المشاهد التي تنوعت،مسترجعة لذكريات وخلفيات كل واحد منهم على حدة،تارة،وعلى خلق صراعات واحتدامات مستمرة ما بينهم تارة أخرى،مما أعطى دفقات وتوهجات لحالات إنسانية مسكت بصولجان العرض وتبخترت به إلقاً تراوح ما بين  حزن وفرح واستهجان واستنكار وسخرية لاذعة حادة وطرية عبر تمهيد حاذق لمواقف وحالات عززت من حجم ثقتنا بمخرج شاعر ومثقف يعي واجبات كيف يجب أن يكون معارضا حقيقيا وحيويا-على الدوام- من أجل تثمين دوره الأنسب في صنع حياة تليق بتلك الأحلام-الأوهام التي تصارع من أجلها رجل الدين/والجندي/والمثقف الحالم/والمطربة في الجهات الأربع من أركان مسرحية (النصار)و(شغيدل) وهذا الرهط النابض بروح التمتع بلغة الحوار والجسد ومكملات الحضور المهيب للممثل خلاصة جوهر العملية الإبداعية ،ومتممات ومسوغات الظهور المساند من تصميم الديكور المدهش للفنان(سعد عزيز عبد الصاحب)وأثر اختيار الموسيقى والمؤثرات من قبل الفنان( محمد الربيعي) ثم بقية طاقم التنفيذ والكادر التقني لهذا العمل الذي تضمن منحى مغايرا في نواحٍ عديدة وهامة يقف أبرزها في نوعية وطبيعة الأداء المتميز بثقله وجدارة جدواه متمثلا بقدرات الفنان المثابر(سنان العزاوي)عبر سرعة استجاباته وتنويعات دواخله وتلويناتها حسبما يتطلبه المشهد وبراعة الدور الذي جسده بمهارة وقدرة استثنائية مضافة لمجهوداته في التمثيل والإخراج معاً، مع واجب التأكيد بطراوة وثقة الأداء الخاص والمتميز للفنانة(آلاء نجم) في تقديم الصوت… عبر الحوار …عبر غناء بعض المقاطع بغنج باذخ زاد من عمق وأثر الروح الفاعلة والمختبئة في غياهب وعيها الخالص بالتمثيل سبيلا ناصعا في التعبير عن ذاتها الفنية، فيما تميز(علاوي حسين)عرفا واعترافا بالقيمة الكامنة التي تسكنه فنانا مخلصا… متفانيا ،ولعل دوره في (أحلام كارتون) يعد بداية أخرى وإضافة نوعية وامتداداً لمحصلات عمله في مسرح الطفل والمسرح الجاد،لقد كنت متقصدا في وضع تقييم  جاد لما يعتمل في دواخل الفنان الطيع المملوء بمهارات عدة لم تتح لها-بعد- الفرص المناسبة  لحفر وحرث أراضيها الواسعة والخصبة والممتدة على طول وعرض ملكات الفنان المدهش(فاضل عباس) الذي تماهى في تطويع جل مهاراته انصياعا وانتماءً   للشخصية المحورية التي نجح وبرع في تجسيدها في (أحلام كارتون) مع المخرج(كاظم النصار) على هذا النحو من الطراوة والاسترسال وأريحية خاصة طغت على مناخ العمل-عموما- فحققت أغراضها الإنسانية ونبل مآربها بهذا الانفتاح والاختزال المدهش الذي مسك عصا العرض بثبات مجرب وثقة(مخرج) محب حقيقي ملخص لفنه وحياة وطنه التي يبغي ويطمح ويريد.

 

حسن عبدالحميد

 

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *