قراءة في رسائل يوم المسرح العربي

اذا كانت جميع مساعي البحث عن هوية (للمسرح العربي) ومنذ اكثر من نصف قرن قد وصلت الى طريق مسدود، فالاحتفال بيوم خاص (بالمسرح العربي) يأتي تعويضا – بزعمنا – عن تلك المساعي, أو مكملا لتلك (الهوية) الغائبة التي نمسك بتلابيبها فعلا ليوم واحد من كل عام.

المكان: (الشارقة).

الزمان: (العاشر من يناير / كانون الثاني) من كل عام.

الحدث: الاحتفال بيوم المسرح العربي.

من فكرة تأسيس (الهيئة العربية للمسرح) التي اطلقها حاكم الشارقة الدكتور سلطان القاسمي, تم تحديد هذا الاحتفال سنويا من قبل الهيئة, بأن يكون هناك يوم خاص لمسرحنا العربي ويتم فيه تكليف احدى الشخصيات المسرحية العربية المعروفة بعطائها الابداعي, بكتابة رسالة خاصة بمناسبة هذا العيد المسرحي العربي, كما هو الحال مع تقاليد الاحتفال بيوم المسرح العالمي سنويا.

وفعلا كانت الانطلاقة الاولى من الشارقة مع اول احتفال في العاشر من يناير/كانون الثاني 2008. وكانت حينها اول رسالة خاصة بهذا اليوم كتبها الفنان د. يعقوب شدراوي, من لبنان. فما الذي حوته هذه الرسالة – والرسائل الست الاخرى تباعا – من مضامين وأفكار وتوجهات وأهداف ونتائج؟ تسعى هذه القراءة للكشف عنها.

بعد موجز سريع وجامع لتطور حركة المسرح الاجنبي يفصح شدراوي عن نيته ولوج منطقتي (التسلية) و(التأمل), مبنيا لنا في نظرة سريعة عن احتراق رجل المسرح من أجل الحياة .. من أجل الناس .. ومثاله رجال كثيرون يقف في مقدمتهم (وليم شكسبير) الكبير, الذي لا يمكن تصور يوم واحد سيأتي علينا لنقول فيه: اننا شبعنا من شكسبير .. ثم يتأمل شدراوي وبموجز تاريخي سريع ايضا كيفية وصول المسرح الينا كعرب وصولا متأخرا, من المرسح الى المسرح, كان التحول, وكانت الاحلام والحكايا تولد مكانا للعب وللرقص ليس الا … لكن مع الانتباه الى ضرورة اكمال ما بدأه الاخرون حفاظا على رسالة المسرح الانسانية دائما من اجل الاجيال اللاحقة. فما المطلوب فعله بعد كل هذا؟ .. يقول شدرواي:

“فماذا علينا أن نفعل اليوم وما هي الخطوات المطلوبة للقيام بما علينا، نحن الباقين أحياء، أن نقوم به لإبلاغ الرسالة للاجيال الطالعة؟

المطلوب ليس أن نقيم ندوات نكثر فيها الكلام من دون التوصل إلى نتائج محددة. المطلوب ليس ان نلف وندور حول المشكلة بل أن نقتحمها.

المطلوب في عصر العولمة والانترنيت، وتعميم الثقافة المعلبة وخراب المدينة بمعناها الانساني الحميم.

المطلوب بداية العمل على اعادة تشكيل حياة البشر الروحية سعياً إلى حضارة تليق بشعب كامل لكي يبني ثقافة قادرة على الغاء التعفن والترهل.”

اشارات ونقاط ضوء عملية يستشعرها شدراوي ويتفحص ثمارها .. التركيز على الجانب العملي ذلك ان المسرح قد فرض نفسه حاجة اجتماعية ثقافية توعوية بامتياز .. وان الجمهور هم الهدف الاسمى لكل ما يقدم مسرحيا وتحديدا الطبقة الوسطى منهم لانهم الاهم جماهيريا وفق شدرواي نفسه .. ليتوقف عند وصايا مهمة منها ما تحقق فعلا بعد عام 2008 ومنها ما ينتظر, فيقول في نقاط :

” 1 – محاولة العمل على ضخ الحياة من جديد في الطبقة الوسطى وتسهيل سبل نموها وتنشيطها من حيث هي عماد كل حراك اجتماعي نهضوي. هذه الطبقة التي قال عنها يوريبيدس : هي وحدها تحفظ النظام، وتمسك برمق الحياة.

2- العمل على ان يخرج من رحم هذه الطبقة جمهور لديه قابلية استقبال الاعمال الابداعية وتمثلها ونقدها. ويضيف ايضا: “وما تاج هذا العمود إلا حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية التنقل، وحرية الابداع، والحق في الاختلاف.”

شدراوي – كما المسرح وكما جميع المنتمين – هو ضد الحرب .. ضد الموت المجاني والدمار .. وهو ايضا – كما المسرح وكما جميع المنتمين – مع الانسانية الحقة ومع الكرامة والحرية ابدا. ليصل الى تساؤله المهم والخطير في جملة نصت على التالي:

” رسالتنا: أن يطفح عملنا بالمغزى العظيم، إذ نشعر بان الناس بحاجة لأعمالنا”.

مهم جدا ان نبحث في كيفية الوصول الى ذلك الهدف الصعب .. الناس بحاجة لاعمالنا .. ما السبل الكفيلة فعلا لتحقيق هذا الهدف السامي؟ كيف يمكن ان يكون المسرح مرتبطا بحياة الناس وبشكل يومي؟ كيف يمكن فعلا ان يشكّل المسرح عامل قلق لدى الناس اذا مر عليهم شهر واحد او ربما اسبوع واحد, وهم لم يروا فيه مسرحية واحدة؟ .. أيمكن تحقيق ذلك فعلا؟

اما الرسالة الثانية التي كتبتها السيدة سميحة ايوب من مصر, وألقتها في القاهرة 10/1/ 2009 في افتتاح مهرجان المسرح العربي الأول. كان الرجوع الى التاريخ ايضا, لكن لا التاريخ العام بل الى الخاص منه, الى التجربة الذاتية والفنية للفنانة ايوب عبر ماضيها وعلاقتها بخشبة المسرح المصرية, برغم ما تعرضت له هذا الخشبة من صعود وتراجع عبر مسيرة حافلة بالتحولات المرتبطة بالواقع المصري الموغل اثرا بواقع المسرح ومدياته الابداعية, فكانت نهاية كل مسرحية انما بداية لمسرحية جديدة اخرى وهكذا.

تقول ايوب: “كان حلماً ورسالة.. رفعته أجيال على أكتافها، واحترق فيه مَنْ احترق، وتعذب فيه مَنْ تعذب، لكن السعادة سادت الساحة بأكملها.”

وتضيف: “من يعش على جنبات المسرح.. يتنفس المسرح، ولكنه يجهل أو يتجاهل شيئاً واحداً.. هو إسدال الستار.. فحياة المسرحي بلا ستار.. النهاية.. إنها رحلة ممتدة إلى الأبد.. موغلة في الآتي..”. وايضا هناك البحث عن حلم جديد .. حلم بناء قاعة مسرحية في كل مكان .. في كل قرية وشارع ومدينة .. انها فكرة السعي الى الترويج واشهار المسرح .. اشهار الحياة الحقة ايضا كما سعى وتأمل شدراوي في رسالته السابقة .. لان المسرح في النهاية صناعة للبهجة .. صناعة للاحلام المؤجلة الى حين.

وتأتي رسالة الأستاذ عز الدين المدني من تونس التي ألقاها يوم 10/ 1/ 2010 في تونس في افتتاح مهرجان المسرح العربي الثاني بوصفها الرسالة الثالثة .. رسالة جمعت ما بين السيرة الذاتية والسيرة التاريخية مع مراعاة التنويه على المعنى المفاهيمي لفن المسرح من منطلق المنحى التفردي لهذا الفن برغم انه يخاطب الجماعة .. فضلا عن ما ينماز به الفن المسرحي من مكانة وتجدد وفحوى زئبقية يصعب الامساك بها دائما .. يقول المدني:

“وكيف لا يكون فن المسرح من أعز الإبداعات الفكرية وهو يتبدّل ويتغيّر ويتجدد على الدّوام، فلا يستقر على حال تتكرر، ولا على قاعدة تتكلس، ولا يتجمد في قانون إجرائي يمارس في كل عرض وفي كل عهد وفي كل عصر! فقاعدته الوحيدة حينئذ ألا تكون لها قواعد! إذ هو يتساءل عن كيانه فيراجعه في كل حين وآن، ويتساءل العاملون في وظائفه عن مفارقته بشكل مستمر: فما كان اليوم إيجابياً يصير في عيونهم وعيون الناس سلبياً غداً.”

هذا اضافة الى ان المدني راح يكشف وبجرأة واضحة عن أمراض وعن العلل الخبيثة التي تسللت إلى فضاءات مسرحنا العربي بسبب: “أولئك الذين يسبحون في الرداءة والضحالة والتفاهة والسمسرة والتجارة الفاسدة .. ” مضيفا قوله وبقسوة: “لقد حصل فعلاً ذلك في هذا الزمن الذي تردّى فيه فن المسرح العربي إلى أسفل سافلين، فصار مبتذلاً ملطخاً قذراً كمنديل الطبّاخ لأنه في متناول من هبّ ودبّ من بني آدم لا من العارفين، وصار محتقراً مبخوساً لأن عون الفرقة المسرحية يكتب ما شاء له أن يكتب من المسرحيات السّخيفة قصد الإضحاك من أجل الإضحاك لا غير، ولأن كهربائي الركح قد تكلف بإخراج مسرحية غبيّة في منتهى الغباوة والبلادة بحجة أن الجمهور (عايز كده)، ولأن عامل الميكانيك يمثل دور صلاح الدّين، وصار نجماً بينما لا دراية له بفن الممثل فضلاً عن فن المسرحة، ولا بأي شيء سوى تبديل زيوت السيارات القديمة …” لكن الرد والتصدي لامثال اولئك هو الابداع والتواصل والبحث والتشجيع واجتذاب سبل للعطاء ابدا .. فيقول المدني:

“الإبداع في عروقه بحث واستقصاء مثابر، فما أحوج المسرح العربي إلى البحث، وإلى بناء مؤسسات للبحث، وإلى دفع الكتّاب والمخرجين إلى البحث، وتشجيعهم على البحث بالأموال والتراتيب. ذلك أن الإبداع هو بحث في قول ما لا يقال وفي رؤية ما لا يرى وفي سماع ما لا يسمع حتى يكون الفعل الإبداعي بكراً ومبتكراً في المعاني والجماليات معاً، بمعنى غير مسبوق، مختلفاً عن السابق، ذا سمة الغرابة، طريقاً بعيداً كل البعد عن الابتذال والأشياء الممجوجة والشائعة كقاسم مشترك بين البشر، حديثاً ذا شوكة حداثية حادّة، ينبض بالجدّة في خصوصيته، في تفرده، في اختلافه، في فتح دروب وآفاق لا تخطر على البال..”.

ومن ثم يستقرىء المدني اسباب (الهجرة) من المسرح الى التلفاز ويستعرض مسوغاتها بموضوعية وواقعية, اذ يبحث عدد من الفنانين الى الشهرة السريعة عبر التلفاز او السينما لكن هذا النوع من الشهرة المؤقتة والسريعة تموت سريعا ايضا, ولان هذه الشهرة لا تعوض قيمة الفن الحقيقي وقيمة الفنان المسرحي الحقيقي مستقبلا .. لينتقل المدني الى (الحرية) .. الى تلك القاعدة الاساس لفن المسرح .. من مبدأ اننا لم نعرف المسرح تاريخيا الا حرا. وبحسب جان جاك روسو (ولد المسرح حرا) وبتناص واضح يقول المدني:

“أليس المسرح يوحي للمواطن العربي بالديمقراطية أي بحرية التعبير وباحترام رأي الآخر؟

والفن يربأ عن نفسه أن يكون وصياً على أفكار الناس ويتبرأ من أن يكون وليّاً ولا بوقاً للدعاية ولا استعلاء أخلاقياً ولا مكابرة سلوكية على الإنسان.

ذلك أن فن المسرح حرّ: حريته في النفس وفي الفكر وفي الخيال وفي الجماليات وفي المواضيع ولا مزية لأحد عليه ولا على فن المسرح.”

ومن العراق كانت الرسالة الرابعة للأستاذ يوسف العاني التي ألقاها يوم 10 / 1 / 2011 في بيروت, في افتتاح مهرجان المسرح العربي الثالث .. فمن خبرة 67سنة مسرح و58 مشاركة مسرحية دولية جاءت هذه الرسالة بتنوعاتها السيرية والموضوعية الراصدة وتساؤلاتها عن واقع حال المسرح العربي .. مبتدئا العاني التعبير عن لحظات سعادته الان بهذه الوحدة وبهذا الانتماء العربي فيقول:

“أرى اليوم أمامي لبنان بمسرحه والخليج بمسارحه ومصر بمسرحها العريق والعراق بإصرار مسرحييها على العطاء وسوريا بتواصل عطائها ومسرح الأردن بنشاطه، أرى فضاءات المغرب العربي المتعددة لأعود إلى مشرقه.. أراه كله موحداً تحت شعار مبارك: المسرح العربي..” ومباشرة يضيف قاصدا الاستفزاز بقوله: “ولكن أرجو ألا يستفزكم تساؤلي: هل لدينا حقاً (مسرح عربي)؟ ..”

وعبر سرد سيرته الفنية بايجاز وحلمه القديم بالوحدة العربية, وبسبب ما تعرّض له شخص العاني ومسرحه الى الرقابة والقمع والمنع .. “صارت السياسة التي تُعنى بالإنسان في كل مكان جوهر مسرحي.” اي جوهر مسرح العاني في العراقي .. ومن ثم تلاحقت الخبرات العربية في عدد غير قليل من المؤتمرات والمهرجانات المسرحية التي بدأها العاني منذ عام 1957, لتلبي الحاجة الفنية ولتصقل الخبرة المسرحية .. فضلا عن تلاقح الخبرة ما بين الاجيال المسرحية المتعاقبة وهذه هي اساس ديمومة المسرح فعلا .. فيقول العاني:

“الاستفادة من الرعيل الأول بما اغنوا وبما أبدعوا.. وأن نتبنى الشباب بصدق حماستهم المثقفة.. بما يقدمون من محاولات إبداعية مطورة لما كان.. وألا نقف موقف المتعالي على الكفاءات الجديدة .. فهي مفتاح المسرح الآتي..”.

ثم ليصل العاني الى تأكيده على محاولة التخلص من الكمي على حساب النوعي في انتاج عروضنا المسرحية .. منتقلا الى تاكيده ايضا الى عدم العزلة عن الاخر .. ومحلقا الى منطقة الحلم .. بقوله: “فأنا وعمري المسرحي الآن قد بلغ السابعة والستين بسنواته الطويلة وتجاربه الكثيرة والتي تنوعت وتغيرت وتناقضت وتآلفت.. جعلتني محكوماً بالحلم بعد أن اجتزت مرحلة الأمل وصار علي أن أنقل حلمي إلى كل المسرحيين العرب.. وإلى الهيئة العربية للمسرح بالذات لتعمل أو تحاول أن تعمل وأقول: تحاول أكثر من مرة لإزالة السدود والحدود.. وأكرر تحاول لكي يتحقق المسرح العربي الواحد: مدرسة وفناً وفكراً.. دون عزلة عن مسارح العالم بل بتميز جدير به وأصالة عريقة فيه بعد أن نتواصل بيننا ونصل إلى أفضل ما يقدمه أشقاؤنا في هذا البلد أو ذاك.. أن نتبادل الرأي ونكتشف الرؤى سواء ما كان جديداً منها أو التي ما زالت تبحث عن السبل الخلاقة للمسرح الآتي لنا وأن تظل الصراحة في الطرح أساساً صادقين مع أنفسنا أولاً .. كي نصل – مهما طال الزمن – إلى سمات وملامح وجذور في الشكل والمضمون ليكون مسرحنا بعد هذا (مصدراً) مسرحياً جديداً لا على صعيد مسارحنا وحدها.. بل على صعيد المسرح العالمي كله.”

اما الرسالة الخامسة فألقتها السيدة سعاد عبد الله من الكويت في يوم 10 / 1 / 2012 في عمّان – الأردن حيث انعقاد المهرجان المسرحي العربي الرابع .. وايضا كانت السيرة الذاتية, وايضا كانت الذكريات .. فتقول: “نعم، في ذلك الصباح البعيد، الذي سجل تاريخ ميلاد علاقة، أصبحت وثيقة، ودونت أسمي ورسمي، وكتبتني ضمن من سبقوني في هذا العالم المبهر المبهج (عالم المسرح)، وهبتني ذلك الانتماء الحميم إلى مسرح، هو الكون كله، في لحظة مدهشة، تمسك الأنفاس، وتفجر الحياة الجديدة” .. لتنتقل عبد الله من صبيحة المسرح المدرسي الى ذلك الحلم – كما هو حلم يوسف العاني – بوصفه المنقذ لواقع حال حياتنا العربية التي هي بحاجة الى ربيع مسرحي دائم .. فتقول:

“لأن المسرح هو أبو الفنون جميعها، ولا بد أن يقوم ابناؤه منتفضين على واقع الحال، ليعيدوا صياغة عالم يخرج من رحم المأساة سالماً معافىً وشامخاً، كما كان دائماً، فيقدم الخير والجمال لتدب خطى الفرح فوق خشبته من جديد، وليعود نشيد الحياة وصراخ الأمل… فإن حياتنا العربية، في ربيعها الذي تأخر كثيراً، تستحق أن يكون المسرح رديفها، بل أن يغدو صوتها الصادق الصدوق دائماً..”

ومن رحم معاناة الفكر والبحث المسرحي ولدت الرسالة السادسة للسيدة ثريا جبران من المغرب والتي تمت قراءتها بالانابة عنها يوم 10 / 1 / 2013 في الدوحة حيث انعقاد مهرجان المسرح العربي الخامس .. والتي انمازت هذه الكلمة / الرسالة عن بقية الرسائل بأمور عدة منها: ان طريقة السرد الذاتي كانت مختلفة اذ تم توظيف السرد بطريقة منولوج داخلي درامي طويل وكأنه نص مسرحي مونودرامي بالامكان الاشتغال عليه واعداده عرضا مسرحيا مونودراميا مهما, بحكم الصياغة والاسلوب اللذين احتكمت اليهما كاتبة الرسالة .. الى جانب تمثل عدد من المفاهيم المسرحية عبر هذا المونولوج الداخلي الحزين والفاضح لكل المسكوت عنه مسرحيا وسياسيا واجتماعيا .. تقول جبران:

“لقد كان المسرحُ، بالنسبة إِليَّ، وسيظل فَنَّ الحقيقة بامتياز. ولكنَّ حقيقةَ المسرح، بالتأكيد، ليست كحقيقة الخُدَع السينمائية، ولا حقيقة التلفازات التي تحجُب الرؤية، ولا حتى حقيقة المطابخ السياسية السائدة، حيثُ تُعَدُّ الوصفاتُ والتَّوابِل، وتُطْبَخُ الطَّبْخَاتُ على نار هادئةٍ في المختبرات والكواليس الدولية – كما كتب الشاعر الراحل مُحمَّد المَاغُوطْ – ثم يأكُلها الكبار في الغرب والشرق، بينما يكتفي العَرَبُ بغَسْلِ الصُّحُون! (أفَكِّر هُنا بالأخص، في العَرَب الذين لا يريدون العودة إلى التاريخ بعد أن خَرجُوا منه ..”

وايضا تقول: “المسرحُ ليس تصفيقاً، وإنما هو تَفَاعُلُ صِدْقٍ مع صِدْقٍ. وهذه مناسبة، لأَلْتَمِسَ بأَلاَّ تُصَفّقُوا كثيراً إنْ دَعَتْكُم مُجَامَلاتُ إلى التصفيق. وإنْ صَفَّقْتُم – ولا بُدَّ – لا تُصَفِّقُوا تَصْفيقاً خَاطِئاً. لَكَمْ أَعجَبَني ما قَالَهُ الروائي الأَلماني غُونْتَرْ غْرَاسْ (نوبل للآداب 1999، الذي كَتَبَ كذلك بعْضَ المسرحيات): «التَّصْفِيقُ الخاطِئُ من الجهَةِ اليُمْنَى يُغْرِي التَّصْفيق الخاطئ من الجهة اليُسْرَى!».

المسْرَحُ إِنصاتٌ وصَمْتٌ وتَأَمُّلٌ وسكينَة. فضاءٌ للأَمل، وحتَّى حين يَيْأَس المسرحُ يكونُ يَأْسُه خلاَّقاً ومُدْهِشاً وحيّاً، وليس عَدَميّاً أو سلبياً.

المسْرَحُ ثقافة واستثمار ثقافي، خيالٌ وتقْنية وصناعة حضارية وإِنسانية.

المسرحُ هندسةٌ للأرواح الجديدة.”

تكررت جملة (المسرح ابو الفنون) في اكثر من رسالة سابقة, لكنها هناك جاءت الجملة حاملة معها مسوغاتها وكما جاءت بالنص: “المَسْرَحُ أبو الفنون، كائنٌ حيٌّ ينْتَبِهُ إِلى التناقُضات فَيَقُولُها، وإِلى التَّوازُنَاتِ فَيُضيؤُها، وإلى الاعْوِجَاجَاتِ فَيُعرِّيها، وإلى الهزائم فَيُسَمِّيها.” .. ولماذا المسرح هو فن الحقيقة بامتياز؟ لان: “لا خُدَع سينمائية في المسرح يمكنُها أَنْ تُمجِّدَ الحرُوبَ، وتُضَخِّمَ البُطُولاتِ الكاذِبَة. على العكس، يَعْتني المسرح بمَعْطُوبي الحروب، وبالمهزومين والمظلومين والمَكْلُومين. ويُعطِي الصوتَ لِمَنْ لا صَوْتَ له، وينْتَصرُ للجنون الذي يَقُولُ الحِكْمةَ وينْطِقُ بالمَوْعظةِ الحَسنَة.”

ولان ظاهرة مسرح المناسبات الدينية او السياسية قد استشرت في اكثر من دولة عربية, نفت جبران استحالة استمرار هذه الظاهرة ونواياها المؤقتة التي تعمل ضد خطاب المسرح ورسالته الانسانية ونصت بالقول: “.. فلا مجال لمسْرَح المناسبات والمواسم. لقد كان مسرحُنا العَرَبي الحقيقي ثورياً قبل الثوراتِ العَرَبية الجديدة. ولا شَكَّ أنه كان مصدراً من مصادر وَعْيِها، فَسَبقَ الثَّوْرةَ إِلى فِكْرَتِها.”

وبمقابل ان المسرح هو فن الحقائق بامتياز دائما, تشير جبران الى انه هو فن الشك ايضا .. لانه يعبر ايضا عن الشك بامتياز ايضا, لا الشك العابر .. بل الشك الذي يوقظ الوعي ويوقظ السؤال.

 

 

بقلم: د. محمد حسين حبيب

http://www.middle-east-online.com/

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *