زكي طليمات‏..‏ الرائد المسرحي في ذكري الرحيل

قبل رحيله بسبعة أعوام منحه أنور السادات الدكتوراه الفخرية مع عبد الوهاب ويوسف وهبي وتوفيق الحكيم‏,‏ وأثناء الأستراحة وقف السادات في بهو قاعة سيد درويش يتحدث معهم‏,‏ فقال له طليمات‏:(‏ الذي يستحق التكريم سيادتك‏,

 

 

لأنك ممثل أحسن مننا كلنا).. هنا ضحك البعض, وصمت آخرون توجسآ, ولم يعلق الرئيس ليمرر ليلة التكريم بهدوء. فقد كان طليمات يمسك دومآ بجمر النار مضيئآ به الطريق, وهو الجمر الذي كان كثيرآ مايحرقه ويوجعه, رغم إنجازاته التي حققها في مصر والعالم العربي.
كان هذا الموقف فاصلا بين ما مضي من سنوات عمره الثمانية والسبعون بكل ضجيجها وإنجازاتها وصراعاتها وحروبها الشرسة, وبين هدوء السنوات التي تلت هذه الواقعة, حتي رحيله عنا في الثاني والعشرين من ديسمبر عام.1982
عرف طليمات طريقه إلي المسرح عن طريق آل تيمور, وقد عمل سكرتيرا في حديقة الحيوان, مما جعله يبتدع نظرية جديدة في فن التمثيل يربط فيها بين سلوك الحيوان والممثل علي خشبة المسرح, فحركة الأسد وطريقته تلائم الممثل الذي يلعب أدوار الملوك, كما أن حركة القرد البهلوانية, تناسب شخصية المهرج علي خشبة المسرح, وهذا ما ينطبق علي بقية الحيوانات. أوفدته وزارة الأشغال عام1924 إلي باريس لدراسة التمثيل لسنوات أربع, تتلمذ فيها علي يدي’ دني دينس’ و’فيرمان جيمييه’. وفي العام التالي لعودته, افتتح معهدا للتمثيل في نوفمبر عام1930, وهو المعهد الذي قوبل بهجمة شرسة من قبل التيارات الدينية المتشددة, وعلي رأسهم الشيخ محمود أبوالعيون الذي رفض ذهاب الفتيات إلي معهد رسمي يتعلمن فيه الرقص الخليع, وقد أغلق المعهد بعد تسعة أشهر في أغسطس1931 بسبب مخالفته للعادات والتقاليد, حسبما رآت وزارة المعارف آنئذ. وعلي الفور هنأ بعض المتشددين من التيارات الدينية الشيخ أبو العيون, الذي انتصر- من وجهة نظرهم- للأخلاق الإسلامية, وكان بعضهم قد كتب في الصحف عن أخطار ما ينشأ من اختلاط الذكور بالإناث عند الاستحمام في بحر الأسكندرية, وأظهروا مصائب الأخلاق.
وفي مقال له بجريدة الأهرام, كتب الشيخ محمود أبوالعيون عن أعظم النكبات علي المجتمع الإسلامي, والتي تكمن في خروج المرأة للعمل, الذي يفقدها وظيفتها الجنسية, معاندة لطبيعتها البشرية, وكان أبوالعيون لايري في المرأة غير موضوع جنسي. ورغم شراسة الحرب الجاهلة, إلا أن طليمات ظل يمسك بجمر النار, مضيئا الطريق, ومناضلآ ضد هذه القوي الظلامية, حتي أعاد افتتاح المعهد عام1944, ليكون نواة حقيقية لأكاديمية الفنون.
كان الرجل هو أول من أخرج لفرقة المسرح القومي حين أنشئت عام1935, وبعد عامين كان أول من خطط لتأسيس المسرح المدرسي, وكون مسرح الأقاليم الذي أصبح فيما بعد نواة للثقافة الجماهيرية, وبعد عشر سنوات أسس فرقة المسرح الحديث من تلامذته خريجي المعهد, وقد ضم الفرقتين تحت مسمي( الفرقة المصرية الحديثة). وبعد أن قامت ثورة يوليو عام1952 بشهرين تقريبا, يتآمر عليه أثنان من تلامذته من القتلة الجهال الذين قاتلوه, وهم من صنيعته, بكتابة مذكرة ضده إلي مجلس قيادة الثورة, وعلي أثر الصدمة الأخلاقية, يستقيل طليمات من الفرقة التي ضم إليها تلميذيه وهم من خانوه, ويستقيل من عمادة معهد التمثيل, الذي علمهم فيه, وهو الذي ناضل ليؤسسه, ومن المسرح المدرسي, ومن بقية مسئولياته, ثم ينفصل عن زوجته الثانية الممثلة إحسان الشريف- كانت الأولي روزا اليوسف- ويعكف في بيته عامين متصلين, حتي تستدعيه تونس ليقيم نهضتها المسرحية, وبعد سبع سنوات تطلبه الكويت ليعيد التجربة ذاتها, وبعدها يرحل إلي الأمارات.
والحكاية كما يرويها فتوح نشاطي في مذكراته, كان إثنين من الممثلين قدما إلي إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة مفكرة خاصة بالمدير- يقصد زكي طليمات- سرقاها من داره التي كانا يقيمان فيها ويطعمان بوصفهما من تلامذته وأصفيائه, لكنهما خانا الأمانة والصداقة وطعناه في ظهره طعنة دنيئة, وقدما المفكرة إلي المسئولين ليقرأوا مافيها, كما قدما تقريرا مطولا عنه, وذكرا وقائع ضده, وحين وصلت المذكرة إلي إدارة القوات المسلحة, أقالته من إدارة المسرح الحديث وتولي مكانه دريني خشبة.
وفي الواقع يعكس هذا المشهد طبيعة أمراض المشهد الثقافي الإبداعي, خاصة في ظل التحولات الكبري التي يستغلها بعض الانتهازيين خلال الفوضي العارمة التي تحدث إثر الثورات, كما حدث بعد ثورة يوليو1952, وماحدث واضحا وجليا بعد ثورة25 يناير و30 يونيو, وهو مالخصه الراحل لطفي الخولي بـ( مخاطر إغتيال العقول), عبر محاولات تصفية المختلف معه بطرق رخيصة مدفوعة الأجر, وهذا الذي حدث مع طليمات, كان قد تكرر ويتكرر مع رموز الوطن أمثال طه حسين الذي قدمت ضده بلاغات للنائب العام إثر نشر كتابه( في الشعر الجاهلي) عام1926, وكاد نجيب الريحاني يقتل حين أنتج أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش وعزيز عيد, بسبب دعاوي فاسدة, بكونه دسيسة إنجليزية, وقد قطعت رقبة نجيب محفوظ نتيجة لفتاوي تكفيره علي يد بلطجي لم يقرأ روايته, ولقد مات نصر أبوزيد ممرورا بعد أن كفرته قوي الظلام, وهكذا قتل فرج فوده.
وفي دمشق طرد خليل القباني بعد حرق مسرحه, لأن نصيب الشيخ سعيد الغبرا من الأرباح التي كان يوزعها القباني عليه وعلي زملائه, لم تكن ترضيه, فحرض عليه السلطان عبد الحميد, وحرض الصبية لإحراق مسرحه, متخفيا وراء ستار الدين والفضيلة.. إنه الفيروس الخطير الذي ينخر في جسد الوطن بشراسة, مغلبا المصلحة الشخصية مدفوعة الثمن علي المصلحة العامة, حتي لوكان الثمن جثة الوطن, وهو ما يجب كشفه وفضحه ومقاومته.

 

 

د . احمد سخسوخ

د . احمد سخسوخ

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *