مسرحية ‘نوارة الملح’ في اختتام أيام قرطاج المسرحية

بموسيقى يختلط فيها النفس الجنائزي الحزين والنفس التفاؤلي الجميل، تنبلج مسرحية “نوارة الملح” أمثولة للحياة بكل تناقضاتها عبر مركب يمتطيه مجموعة من الشخوص هم جماع أبطال هذا العمل الفني المقتبس عن قصة “إيرينديرا البريئة” للروائي العالمي غابريال غارسيا ماركيز، ومن إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بقفصة والذي قدم في اختتام الدورة 16 من أيام قرطاج المسرحية.

العمل الذي أشرف على حبكته الدرامية وإخراجه المخرج علي اليحياوي، ضم نخبة من خيرة ممثلي جهة قفصة ومركزها الدرامي على غرار لطيفة القفصي وعادل رابح وعمر لغواطي وفوزي عبيدي وحسن ربح وهاجر سعيد وعواطف مبارك وعبد الجواد كلاحشي.

” كانت إيرينديرا تحمم جدتها حين هبت ريح شقائها ” بهذه الجملة الشعرية المكثفة تبتدئ رواية ” إيرينديرا البريئة” لغارسيا ماركيز، وعلى نفس الشاكلة تقريبا تولد “فريدة” في مسرحية “نوارة الملح” زهرة برية بريئة من بين الصخور تبحث عن الأمل والنور والحب والضوء..

تتفتح الأنوثة والحياة على صدرها وتبزغ شمسها مبشرة بالنور النقي البريء ولكن خطأ بسيط منها – والانسان خطاء بطبعه- يجعلها تكتشف الحياة في جانبها المسكوت عنه وفي بعدها المأسأوي وتكتشف جدتها على حقيقتها ومن حولها بقية الذئاب البشرية التي تترصد أية غفلة أو خطأ أو شرود من الحمل البريء عن القطيع لتلتهمه..

فريدة الطفلة المطيعة البريئة تسهو عن إطفاء الشمعة عند نومها فتتسبب في حريق هائل يتلف كل ممتلكات جدتها القاسية الآمرة الناهية.. فتجد الفتاة القاصر نفسها في سوق النخاسة تباع وتشترى ويتزايد ويتضارب عليها تجار الكبت البشري وطالبي المتعة الجنسية كل هذا بالتواطؤ من جدتها.

فجرا من النسمات اللذيذة.. وبركانا من المشاعر الإنسانية المتناقضة هذه هي مسرحية “نوارة الملح”، وقد نجح المخرج علي اليحياوي في هذه التوليفة إلى حد بعيد في هدم الفوارق بين النص الأدبي الأصلي والكتابة الدرامية الركحية التي لها خصوصياتها وتتوسل بوسائل فنية محددة تحترم خشبة الفن الرابع، وهذا التواشج الجميل بين شتى فنون الإبداع قرّب المسافة أكثر بين الأدب والمسرح انصهارا وذوبانا وانسجاما مع بعض نظريات النقد الحديث التي لا تعترف بالفوارق بين الأجناس الإبداعية على اختلافها.

تنجح المسرحية في إيحائها الفني الجميل ويقرأ المتفرج ذلك بين السطور دون الوقوع في الخطاب الإيديولوجي المباشر والفج

“كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة.. وجدنا غريبين يوما” في ثنايا هذه الحياة استحضرت هذا المقطع الشعري لدرويش وأنا أتتبع حبكة خيوط هذه المسرحية وحركة فريدة الفتاة القاصر البريئة فوق الخشبة وتوهانها وحوارها مع جدتها باحثة عن سماء المثل في طيات جبينها الذي غيرته السنين..

في زمن متغير وقاس وخبيث ومناوئ ومناور.. ليتحد زمن القص والحبكة الدرامية بزمن الواقع المتفجر “الآن وهنا” وينفتح على مستقبل مجهول إلا من بعض زخات أمل..

وتنجح المسرحية في إيحائها الفني الجميل ويقرأ المتفرج ذلك بين السطور دون الوقوع في الخطاب الإيديولوجي المباشر والفج..

وقد أضاف علي اليحياوي لهذه التوليفة بعض البهارات الفنية الذكية مثل توظيفه للتكنولوجيا في المشهدية الحائطية السينمائية واستفادته من هذه التقنية – كما لعبة الراوي- في اختصار الأحداث عبر الفلاش باك والسرد السريع، ولا ننسى كذلك أيضا بهارات الغناء والرقص وما يصحبهما من استلهام للمخيال الشعبي وموروث الجنوب التونسي والمغاربي فنستمع إلى أغان حزينة في مجملها تتغنى بالغربة والضياع والجراح وتوحي بغربة الإنسان في الكون وبحثه عن ذاته وسط مغريات وملجمات كثيرة، وهذا كله يخدم العمل في مجمله ويعتبر عامل ترويح وتنفيس على المتفرجين والممثلين على حد السواء.

كانت زخات أمطار ديسمبر الحزين تنهمر خارج فضاء المسرح البلدي.. وكانت دموع “فريدة” تنهمر قهرا وحزنا على مصيرها وحظها التعس فوق خشبة الحياة، وهي تكتشف المنغصات يوما بعد يوم وتأتمر بأوامر جدتها القاسية التي لا تستطيع الفكاك منها، تماما كقدرها تلازمها لتذكّرها بخيباتها وأخطائها وتدفعها إلى الخطيئة والرضوخ إلى نزوات قطاع الطرق والوحوش البشرية الجائعة.

ملاك بريء قد نزل إلى الأرض في صورة طفلة هكذا تحضر شخصية فريدة.. وشيطان في هيئة عجوز هكذا تحضر شخصية الجدة في أغلب ردهات المسرحية ولوحاتها ولكن اللعبة الدرامية لا تنتهي هكذا وليست بكل هذه البساطة..

فللحياة مفاجأتها وللقدر تدخله وللمخرج حبكته الفنية التي تغير الأدوار إمعانا في السخرية السوداء والتلاعب بهذا الكائن البشري المتناقض والمتلون.. فنكتشف فريدة الشريرة التي تتعاون مع حبيبها أنيس على قتل جدتها انتقاما و”تأصيلا لكيان” طبيعتها البشرية، بينما تصرخ الجدة في آخر المسرحية: “إلاهي أعد لي براءتي كي أحس بالحب يغمرني..” صرخة مدوية تصرخ بها بطلة المسرحية الفنانة لطيفة القفصي التي أبدعت في دورها..

هي صرخة الكائن البشري في عبثيته وبوهيميته وازدواجيته و”تأرجحه بين الحيوانية والألوهية” كما يقول كاتبنا الكبير محمود المسعدي.. صرخة تعود بها – الجدة – إلى عالم الإنسانية. صرخة وفاصلة مهمة يمكن أن تلخص الأبعاد القريبة والبعيدة لهذا العمل المسرحي الجاد لأنها صرخة إيجابية تحرض على السؤال والثورة على الشر القابع فينا أبدا والملازم لوجودنا الإنساني وانبناء الإنسان والحياة بشكل أعم على هذه الازدواجية والثنائيات.. صرخة تمكننا من سبر أغوار الشخصيات وتتبع بعدها التراجيدي المأسأوي..

هي جدلية الخير والشر، والطمع والقناعة، والحب والكره، والفرح والحزن، والوعي بهذا التناقض الملازم للوجود البشري، فتعطي لهذا العمل المسرحي أبعاده الفلسفية التأملية الفنية السحرية وتؤصله في بيئة وقاموس النص الأدبي الأول الذي أقتبس منه والعمق الكبير الذي يكتب به ماركيز وحسن تعامله وتوظيفه للمتداول اليومي البسيط والمعتاد.

وفي نفس هذا السياق وهذه الازدواجية الموغلة في الترميز تنبني شخصية الكهنة الملثمين على هذا التناقض ويحضرون ببعدهم الرمزي لا الحقيقي، هم الذين اختطفوا الطفلة فريدة باسم الرب وأجبروها على تحمل نزواتهم وجبروتهم.. يشرّعون لأخطائهم وطريقة حياتهم الغريبة واستبدادهم في الأرض باسم الرب ونكتشف من خلال منطوقهم وحوارهم مع الجدة إسقاطات هذا العمل المسرحي على واقعنا التونسي اليوم ونقرأ بين السطور تلازم هذه الممارسات مع نظرة ورؤية بعض التيارات الدينية المتشددة للمرأة والمجتمع اليوم.

 

عبد المجيد دقنيش

http://www.alarabonline.org

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *