التجريب المسرح والقراءة المغايرة

لقد عمد مايرخولد لتقديم مسرحية غوغول(المفتش العام) بشكل آخر ، شكل مسرحي مغاير ، هذا الشكل لم يعتد عليه الناقد والمتلقي الروسي ، لهذا قوبل عرضه بهجوم عنيف ، لما فعله بقدسية النص الكلاسيكي، في دراسة له بعنوان (إعادة بناء المسرح) يدافع

مايرخولد عن مسألة تجاهله للتقطيع الكلاسيكي للمسرحيات والمبني على شكل فصول ويقترح بالمقابل تقنية تقسيم النص على شكل سلسلة من اللوحات والمشاهد  التي ميزت المسرح الشكسبيري ، والمسرح الإسباني في عصره الذهبي، وذلك كي يتغلب على ركود الوحدة الكلاسيكية الكاذبة للفعل والزمن. يعتبر مايرخولد مبدع المسرح الرمزي في روسيا.

اعتمد الشكل المسرحي الجديد الذي قدمه بالدرجة الأولى على الحركة الجسدية، مقابل تهميشه للنص الأدبي ، وتأتي أهمية النص بالمستوى الثاني للشكل الذي يريده مايرخولد، بل الحركة هي المستوى الأول.
كتب مايرخولد إلى صديقه تيشخوف بعد عرض مسرحية (عدو الشعب لابسن) من قبل مسرح موسكو الفني (أريد ان أولد روح اللحظة التي أحياها، أريد لجميع هؤلاء الذين ينتمون إلى المسرح ان يدركوا الوعي الخاص برسالتهم السامية، أشعر بالألم تجاه رفاقي لأنهم لا يرغبون بالارتقاء فوق الاهتمامات الضيقة المنغلقة ، تلك التي تعتبر غريبة بالنسبة لاهتمامات المجتمع.نعم ،يستطيع المسرح ان يلعب دورا عظيما في مسألة إعادة بناء المجتمع).

نرى بان هذه قراءة مغايرة للنص المسرحي(الأدبي)، بمعنى قراءة ثانية،رؤية ثانية، مايرخولد تصور شكلا  آخر للنص من خلال هذه القراءة، شكلا مسرحيا مختلفا على ماهو سائد بالساحة المسرحية الروسية في حينه، وقد تكون هناك أيضا قراءات أخرى للنص نفسه ، قد تكون غنائية أو بانتومايم.
إذاً الكل يبحث عن شكل مغاير لعرضه المسرحي ، هذا الشكل الذي يسعى الجميع إليه برؤاهم الخاصة ، يكون أيضا النص هو المحفز الأول لهذه الرؤى ، المادة الأساسية بتفجير العرض بصريا وجماليا، وهذه حرية متاحة للجميع ، ولكن تكون  مشروطة  بالوعي، الوعي هو الذي يقود المخرج لهذه القراءة  التي لابد انه يدرك جيدا  سلبياتها وإيجابياتها.
لقد تمحورت تجارب مايرخولد من عام 1903 وحتى عام 1908 باتجاه ترسيخ مناهج لإخراج المسرحيات الرمزية ، وتميزت إنتاجاته خلال هذه الفترة باستخدامه (للون)، لقد عرف عن مايرخولد بانه أول مخرج استخدم البقع الضوئية المتقابلة في الفضاء المظلم كوسيلة لتقديم سلسلة من الأحداث القصيرة المتلاحقة، وذلك بهدف خلق المزاج العام والدلالة على جوهر الشخصية ، أو الحدث المسرحي ، إضافة لاستخدام الموسيقى بغية تكثيف ، وزيادة حدة الجو المسرحي.
بدا ميرخولد (التجريب) مع الأساليب والأشكال الجديدة عام 1905 ، وفي هذا العام قرر ستانسلافسكي إقامة ورشته الخاصة ، داخل مسرح خاص بالتجريب ، وكان المسرح يشرف عليه ميرخولد، لكن بسبب سوء العلاقة بينهم توقف المشروع بعد عام ولم يقدم أي عرض جماهيري وفق الخطة التي وضعها الاثنان ،لتقديم أشكال وأساليب مسرحية جديدة، هذا المشروع كان اسمه (مسرح الاستديو).
كان الكثير من المخرجين الروس يسعون من خلال أعمالهم ، لتقديم أعمال تكسر المألوف وكل ماهو صادم للمتلقي ، لهذا كان تهميشهم للنص المسرحي(الأدبي) هو احد المرتكزات الذي يبنى عليه العرض المسرحي، إخراج النص من القدسية التي يتمتع بها، والبحث عن عناصر بصرية، أو مرتكزات جمالية  يستند إليها العرض، وهذه الركائز لم تكن سائدة آنذاك ، مثلا إدخال الحركة كعنصر أساسي في العمل المسرحي ، إلغاء الستارة التقليدية للمسرح ، تكثيف الموسيقى داخل العرض، التغير في الإضاءة، الانتقال من الإضاءة الخافتة إلى الإضاءة النيرة.
كان هناك بحث دائم عن شكل عرض مسرحي آخر، شكل مغاير فرضته معطيات المسرح الروسي وما يقدمه من عروض مسرحية ، وهذا أيضا يرجع إلى كون موسكو العاصمة المسرحية الوحيدة في العالم كما يقول بريخت (لا توجد في العالم سوى عاصمة مسرحية واحدة ،ألا وهي موسكو)، وكذلك الأرضية الثقافية التي تتمتع بها موسكو آنذاك، والثقل الثقافي الهائل لمجموعة الشكلانيين الروس ، التي أنشئت أثناء الحرب العالمية الأولى ، وما أحدثته من تأثيرات مهمة في الساحة الفنية والأدبية، والتي كانت الحداثة التقدمية الأوروبية قد تأسست على طروحاتهم.
اجتهد برتولد بريخت عندما أراد القيام  بتقديم أول عمل إخراجي باختياره نص كلاسكي لـ (كرسيتوفر مارلو) وهي مسرحية (إدوارد الثاني ) وقام بإعدادها وصياغتها مع زميله في الكتابة (ليون فيتسوانغر) وحملت عنوانا جديدا( حياة إدوارد الثاني ملك إنكلترا)،أراد بريخت وزميله من هذه الكتابة الجديدة للنص، هو التمرد على التقاليد الشعرية داخل النص المسرحي ، وكذلك رغبته في الكشف عن العنف والتناقض في العلاقات الإنسانية، والأهم من كل ذلك أراد ان يقدم قراءته الخاصة للنص الكلاسيكي، ولهذا تمرد على التقاليد الشعرية للنص الكلاسيكي، وهذا يدعم رأينا بان (التجريب) في المسرح، هو بحث عن شكل آخر داخل النص المسرحي(الأدبي)، وهذه المقومات موجودة داخل النص الكلاسيكي، لأنه يمتلك الأرضية الخصبة التي تعطي مساحة واسعة للمخرج بقراءات متعددة، هو تحدي المخيلة للنص الكلاسيكي ، باعتباره نصا مقدسا ومحكما، التكاملية التي تتوفر داخل النص الكلاسيكي ، ليس من السهولة ان نجدها  داخل نص آخر، وبالتالي ستكون المغامرة معها غير مجدية ، لأنها لا تحمل سمات بقائها .ولو أخذنا نصا لشكسبير مثلا ، هذا الكاتب العظيم ، تجد نصه مقروء ومعروف من قبل الكثيرين ، بمعنى  ان المتلقي يعرف النص جيدا، وحتما سيصدم بما سيراه في العرض المسرحي ، لهذا نجد بان محاولة مايروخلد في تهميش نص (غوغول-المفتش العام) وجعله في المستوى الثاني من الأهمية في العرض المسرحي، أراد بهذه القراءة ، ان يصدم حدس المتلقي الذي يعرف كل تفاصيل مسرحية غوغول ، أراد ان يفاجئه بشكل مسرحي مغاير ، لم يعتد على مشاهدته سابقا، وهذا ما فعله بريخت في مسرحية مارلو كما ذكرنا سابقا، وهذا يحيلنا إلى تأثر بريخت بالتجربة المايرخولدية، وكان بريخت من اشد المهتمين بمسرح مايرخولد ، رغم ان الكثير من الآراء تذكر بان بريخت لم  ير سوى عرض واحد أو عرضين لمايرخولد، وهناك  آراء تؤكد تأثر بريخت في الأسلوب المايرخولدي ، نعم مايرخولد لم يقم بزيارة برلين إلا في عام 1930 ، لكن فرقة (تاييروف )مؤسس مسرح الحجرة ، قد زارت برلين مرتين عام 1923 ، وتاييروف أوجده مايرخولد اصلا.
ولعل ما قاله المخرج الألماني (بيساكتور) وهومعلم بريخت( توجهت أنظارنا إلى روسيا وكنا في شوق لمعرفة ما يجري في الاتحاد السوفيتي، لكن هل علينا ان نكون مقلدين لمايرخولد وتاييروف؟).
نستشف من كل هذا بان (التجريب ) بدأ من خلال التمرد على النص، وإعادة كتابته من جديد، وفق قراءة المخرج الجديدة للنص،رؤيته، روح التحدي والمغامرة التي يتمتع بها النص الكلاسيكي، وما يؤكد كلامنا ما جاء بـ(حوارية شراء النحاس )لبريخت ، على لسان شخصية الدراماتورج ،  التي تمثل شخصية بريخت نفسه، تتحدث هذه الشخصية بإعجاب عن التجريب الفني المدهش في مسرح شكسبير،فـ (التجريب) المسرحي حسب قول الدراماتورج:
يعني تغير وتبديل النص المسرحي ، لا لمرة واحدة ، بل بشكل مستمر ، وهو أمر حيوي للغاية ،وهذا لا يعني تدنيس النص المسرحي، وانتهاك حرمته.
لهذا يتفق بريخت مع مايرخولد بأن الكتّاب المسرحيين يكتبون بشكل عام حسب الأساليب والتقنيات الدرامية  التي كانت سائدة في زمنهم ، ولهذا يكتبون نصوصهم المسرحية بإعلان تحدٍّ  للمخرجين الذين يأتون   بعدهم.
هذه القراءة المغايرة التي تكون مختلفة من جيل إلى آخر، وفق معطيات المرحلة التي تعيشها هذه القراءة ، من الطبيعي كل مرحلة تحمل خصوصيتها في المنتج الثقافي، وتترك هذه المعطيات تأثيرها على نوع القراءة.

 

 

أحمد شرجي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *