مسرحية “تسونامي” لفاضل الجعايبي .. صرخة شعب يريد الحياة

“ليس هذا طريقي إلى أرض حُريَّتي .. ليس هذا طريقي إلى جَسَدي”

محمود درويش

وأنا أشاهد مسرحية الثنائي التونسي فاضل الجعايبي وجليلة بكار “تسونامي” التي عرضت مؤخرا بمسرح “شايّو” الوطني في العاصمة الفرنسية باريس، انتابتني –  من حيث حمولة النص الفكرية – حالة من التوجس والتفكير المشوب بالتساؤلات حول وضعية وطننا العربي، وكذا  حول ميسم المرحلة القادمة  من تاريخينا المعاصر، والأفق الذي ترسم معالمه حكومات (ما بعد ربيعية) تلك التي أفرزتها صناديق اقتراع انتُزعت من مخالب ديناصورات الأنظمة المنهارة. المسرحية تعطي الكلمة للشباب وتمنحهم الحق في الشعور بالخوف على ربيع الوطن وعلى خريفه بل وبقية فصوله، وعلى “الثورة” والمسرح والفن وعلى الحياة برمتها.

 

 

تُستهل المسرحية بنص لرجل دين من قرطاج ما بعد 200 ميلادية بسنوات معدودات، يحارب فيه الممارسات الفنية وتوعد المسيحيين بنار جهنم إن هم تعاطوا مع “الفن، هذا الدنس”. النص يتلوه صوت ذكوري خارجي، مما يشي أن محاربة الفنون ليست ظاهرة جديدة، بل لها جذور في التاريخ البشري، وما تزال تضرب بأطنابها في بعض عقول عصرنا هذا ونحن جلوس نشاهد مسرحية في قلب باريس.

العرض المسرحي يتناول حالة ما بعد الحراك السياسي الذي اصطلح على كامل اطواره بالربيع العربي. الآن، والثورة سيدة وهذا الصخب عالٍ، هل ستُفصل السُّلط في هذا الفصل..؟ هل ستزداد اتصالا والتصاقا؟ هل سيورق ربيع الديمقراطية وتتفتح أزهار الكرامة وأقحوان العدالة..؟ أم أن خريفا آخر يدنو من الأبواب..؟ هل سيكتمل حلم الثورة وثورة الحلم بعد اسقاط الطغاة ويكتمل بزوغ فجر انتظره شباب الوطن وناسه ممن ضحوا بأبنائهم ودمائهم وأرواحهم..؟ أم ستسرق الثورة وتدجن في الظلام بعيدا عن آمالهم..؟ هل مرحلة ما بعد (الربيع العربي) مازالت نيئة.. أم انفلت الزمن منا وبالتالي في طريقها إلى الإحتراق في فرن السياسة.. وعلى من انتبه دق ناقوس الخطر.

نص تسونامي الذي كتبته جليلة بكار، وفي تداخله مع الحلول الإخراجية والمعادِلات البصرية الموازية المقترحة من طرف المخرج فاضل الجعايبي وكذا تشخيص الممثلين الإحدى عشر الحِرفي والحُر الأداء، هو بمثابة بلاغ تحذيري ومدّ لأيادي أجساد مسرحية تدق نواقيس خطر تسونامي تتقدمه موجة سوداء ونعيق غربان لا تحلق في علياءٍ لها، بل تهرول على أرضية الخشبة أمامنا كأننا في كابوس.. تتوعد وتهدد حياة – وللكلمة الاخيرة وقع خاص داخل مفردات وشخصيات العمل المسرحي – الفرد التونسي والعربي عامة، وتزيد من ثقل مسيرته نحو التحرر والكرامة والإنعتاق التام من أغلال الخضوع والتحكم.. كيف نمنع الإنحدار باتجاه تغيير طغاة بآخرين.. !!

الثورة تحتاج إلى ثورة. أو ربما خرجنا من ثورة صغرى (سياسية) إلى ثورة كبرى (ثقافية واجتماعية). خاصة عندما تنتصب أمام الجمهور في واحد من المشاهد وفي مقدمة الخشبة جهة اليمين شخصية تريد هدايتنا إلى فهمها للدين وطريقه القويم، بملابس حائرة بين عصرين، تلك الشهيرة بالتدرج الذي تمليه ضرورتيْ التشبه بلبوس السلف وإغراء تطعيمها بجاكتات الماركات الغربية،  لتقرأ بيانا قادما من المستقبل القريب (مؤرخ بيوم وشهر من عام 2015 ) لكن مضمونه ينتمي إلى حقبة نص راهب قرطاج. هنا تقفز بنا المسرحية من زمن الحاضر إلى زمن بنود البيان المهددة المتوعدة لغداة غدنا : – إغلاق المقاهي والملاهي – رفع الحريات الفردية – إقفال المتاحف والمسارح ودور السينما…الى غيره مما يكبل وينكل بالحقوق الفردية الخاصة والجماعية المدنية. ليُختم البيان بالذكر الحكيم والصلاة على خير المرسلين. لكن ما يبعث على الأمل ويلعثم الشؤم  والوعيد ويشوش عقل المكفر ويدعوه إلى التفكيرهو الآيات القرآنية التي ترثلها الفتاة في عمق الخشبة {وقاتلوا في سَبيل الله الذينَ يقاتلونكُمْ ولا تَعتدُوا إنّ الله لا يُحبُّ المُعتدين } لتتوالى ترجيعات “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.. لايحب المعتدين .. لا يحب المعتدين” في ارجاء الخشبة والصالة. هنا يتجلى صراع درامي على معنيين.. واحد يقدم قراءة تحتفي بالقتال والتكفير (البيان) وآخر بالحياة والتفكير (القرآن).

وللقرآن حضور درامي / رمزي يدعم موقف شخصية “حياة” المناضلة السابقة من أجل حقوق الإنسان والمثقفة العقلانية المدافعة عن الحريات. وذلك من خلال مشهد مسرحي معبر ينتزع فيه – أحد مريدي عم الفتاة “درّة” تاجر السلاح وأحد مجندي الشباب “لنصرة الدين” – المصحف من حضن حياة صارخا في وجهها، إنك مدنسة ولا يحق لك لمس المصحف.. علما ان المصحف هذا، توضح حياة، جاء به جدها في ستينيات القرن المنصرم من مكة وأهداها إياه. قيمة المصحف مزدوجة. الإرتباط  بكلام الله يرافقه الإرتباط بذكرى جد فقيد. هنا رمز مكثف لما يحدث داخل المجتمع من اختطاف كلام الله من بين ايدينا وجعل معناه أو تفسيره مقتصرا على فئة دون أخرى.. على الرغم من علمنا جميعا انه موجه للناس كافة ويخاطبنا أفرادا وشعوبا.

هيمنت العتمة على فضاء المسرحية كاختيار سينوغرافي ذو بعد تراجيدي، عززته الشاشة الضخمة في عمق الركح لحكي بصري رمزي كابوسي.. لعبت فيه الالوان والاشكال ابعادا موازية لما يجري على الخشبة كتخضيب بياض الشاشة بالاحمر أوتشابك الاشكال وتقاطعها، وسيلانٌ كأنه مداد مراق…الخ. اعتمد فاضل الجعايبي في إخراجه على ثنائية الضوء والعتمة.. الإنارة تجاوزت مهمتها الوظيفية لترقى إلى غاية جمالية رمزية فمفردات تصارع الدرامي وتجاذب أطراف الحوار المشحون بين الشخصيات أفرادا وجماعات تحكمه هذه الثنائية بشكل استطيقي ملفت.. فنساء البرقع و المتطرفون يهرلون في الظلمة، في حين تبدوا لنا الشخصيتين “أمين” و”درّة” الهاربين منهم تُرسم لهم مسارات من الضوء تنير لهما الطريق. كما أن الفايسبوك كنور حداثي تواصلي وهبته الانترنيت لشباب الثورة  (وساهم في اسقاط الطغاة) توظفه درّة في ممارسة حريتها  والتعبير عن آرائها وتهديد عمها الذي يريد معاقبتها وتزويجها غصبا. في خطوة جريئة هددت حياتها، كتبت على صفحتها في الفايسبوك رسالة تعلن أنها بمحض حريتها خلعت الحجاب وقررت أن تنتمي إلى لباسها الطبيعي. نسجل هنا ان الرسالة التي تلاها صوت درة الخارجي كان فيها من المباشرة والتقريرية ما يمكن الإستغناء عنه وتعويضه بخطاب أكثر تلميحا وشاعرية شأن الخطاب الاخير في نهاية المسرحية (حوار الجدة مع الحفيدة) والذي نقل المعنى المتوخى بأسلوب أنيق ولغة شفافة حالمة تعلق بالذهن وتحفز على التفكير والتأمل.. كذلك كان اختيار قصيدة محمود درويش “كان ينقصنا حاضر” كخلفية لمشهد لقاء العاشقين وتحاورهما الجسدي، موفقا جدا لدفع مشاهدي المسرحية إلى منطقة الشعر “لِنَذْهَبَ كما نَحْنُ.. سيِّدةً حُرَّةً .. وصديقاً وفيّاً .. لنذهبْ معاً في طريقَيْنِ مُخْتَلِفَيْن .. لنذهَبْ كما نحنُ مُتَّحِدَيْن .. ومُنْفَصِلَيْن.. ولا شيءَ يُوجِعُنا”.

أمام المد الهائل من الاحداث والمعلومات بعد انهيار النظام التونسي والأنطمة المجاورة والمشابهة ليس للمبدع إلا الشعر والكثافة ملاذا للتعبير عن مكنونات الذات وما يختلج بالنفس ولو بعد حين. وهاهو فاضل الجعايبي نفسه يصرح أنه بعد انفجار علبة البندورة الذي أحدثته الثورة التونسية لم يعرف كيف يعبر إبداعيا عما يحدث .. وابتعد عن قول “التفاهات الرائجة” وصمت مسرحيا عن الموضوع ما يناهز سنتين. والكتابة استمرت شهورا.. فمنظومة القيم التي على أساسها نشجب أو نبارك تحتاج إلى صفاء معرفي وتحكيم عقلاني.. فالمبدع ينتابه تردد كتردد هاملت بإزاء الوقائع. ينتظر جلاء الرؤية والرؤيا. المسرح – يقول بتير بروك – “يتيح رؤية ما إذا كانت  (القيم) مفروضة من الخارج، أم أنها حقا صادرة عن اقتناعات الفرد الحقيقية” وفي تسونامي يخرج فاضل الجعايبي من ضبابية الرؤية لتتضح له جليا حقيقة ضبابية الحالة الراهنة.. وأن هناك قناعات غريبة على الأفراد والمجتمع.. وما يحدث يدفعنا إلى الخوف على المستقبل.

على مستوى التركيب المشهدي اعتمد الإخراج على متواليات بصرية سلسة لا يعوق حركيتها شيء: مساحة فارغة / اكسسوارات معدودة / كرسيين بلاستيكيين اسودين بين حين وآخر/ ملابس تعوض الديكور في تحديد هل الفضاء داخلي ام خارجي / عمق الخشبة شاشة ضخمة تتحرك أمامها الجموع للتدليل على أحداث هي وعاء للحكاية الأساسية. وسط الخشبة ومقدمتها تُرك لتشخيص الحكاية الاساسية ولعبت الإنارة دورا وظيفيا وجماليا ساعد بشكل كبير على خلق اجواء الخوف والترقب والتوجس.

أما على مستوى التشخيص فقد استطاع الممثلون حمل النص في ارواحهم وحناجرهم وتعبيراتهم الجسدية. تبدو الحكايته بسيطة لكن الحوار مشحون بهم الوطن / التضحية / الحب / التهديد / التردد / الهروب / المواجهة / الثورة / الحلم / التوجس / الخوف على المستقبل. كما أنه مشحون أيضا بأحاسيس وأفكار الإنسان البسيط الذي يحب الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا.  أيضا الاداء التمثيلي للمجموعة والحس باتجاه المعالجة الإخراجية صعد بحكاية تسونامي إلى مصاف الحكايات القلقة المقلقة. فالوعي الشقي لدرّة واستنجادها بأمين الذي بحث عن الامان والملاذ بجوار المناضلة حياة يضع الشخصيات الثلاث في بؤرة جحيم صراع درامي لا يبقي ولا يدر والذي يشكل طرفه الآخر عم درة وجماعته. كل الصراعات تتشعب عن صراع المسرحية الأساس بين البنت وعمها.. نحن في زمن ما بعد انتهاء الصراع مع الطاغية السياسي، وبعد ما صرخنا في وجه جبروته “ارحل” فأسقطناه. الآن، الصراع داخل العائلة التونسية.. وبين أطراف المجتمع ومتطرفي الدين. كيف نقبل الآخر ونتحاور معه؟ كيف نطيح بالطاغية الذي يسكننا؟ هل بعد ان حققنا ما حققناه يتهددنا الانزلاق والانحدار؟ وما مهمة المبدعين والمثقفين وصناع الحياة أمثال حياة ؟

عرض تسونامي يصف الحاضر التونسي  العابر إلى مستقبل غير واضح المعالم. الصراع بين شخوص تسونامي صراع على الماضي والحاضر و المستقبل. إنها معركة تدور رحاها بين أشباح السياسية والثقافة والإديولوجيا وبين شعب يريد الحياة.

————————————————————————

– مسرحية (تسونامي) من انتاج فاميليا والمسرح الوطني الفرنسي “شايّو” وبدعم من ووزارة الثقافة التونسية/ نص جليلة بكار/ إخراج فاضل الجعايبي/ سينوغرافيا وموسيقى قيس رستم/ تمثيل: جليلة بكار، فاطمة بن سعيدان، رمزي عزيز، محمد علي قلعي، نور الهدى بالحاج حومة، اسامة الجمعي، تماضر الزرلي، بسام العلوي، علي بن سعيد، اميمة البحري، لبنى قنوني.

 

 

عبد الجبار خمران

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *