أي تاريخ للكاتب في المسرح العربي؟

يمكن القول، بكثير من الثقة، إن أهم اللحظات في تاريخ الحركة المسرحية العربية ارتبطت بكتّاب أكثر من ارتباطها بممثلين أو مخرجين أو نقاد؟! فمع توفيق الحكيم في مصر

(رحل 1987) تحسس المسرح العربي للمرة الأولى إمكانية اقتراح قالب يشبه سياقه وظروفه وجمهوره، وذلك عبر دعوة الحكيم إلى “قالبنا المسرحي”، ومع كاتب مثل يوسف إدريس (مايو 1927ـ أغسطس 1991) حصل ذلك التحول الذي أفضى إلى تساؤلات حول إمكانية استلهام أشكال التراث المحلي لإضفاء خصوصية عربية على المسرح، إذ كتب إدريس مقدمة نظرية لا زالت محل نقاش عنوانها “نحو مسرح عربي”، وفي هذا الإطار ثمة الكاتب السوري سعد الله ونوس (رحل مايو 1997) ودعوته إلى “مسرح عربي جديد”، وهناك الكاتب المغربي عبد الكريم برشيد ومشروعه في “المسرح الاحتفالي”، وفي السودان كان للجهد النظري الذي قدمه يوسف عيدابي في سلسلة من المقالات نشرت تحت عنوان “نحو مسرح للعموم/ العامة” في ستينات القرن الماضي، تأثيره الواسع في تزكية الخطاب الثقافي المنادي بالمزواجة بين الثقافتين “العربية والأفريقية” في فضاء المدينة السودانية!

إذن، أبرز اللحظات والمحطات الفارقة في سيرة المسرح العربي ارتبطت بجهود بذلها كتّاب أكثر من أي شيء آخر، وحين نمضي في هذا الخط نجد أن الجدل الذي زاد مؤخراً حول “الريادة المسرحية” في الوطن العربي يتمحور حول نص مسرحي أكثر من تمحوره حول “رؤية إخراجية”، مثلا، فثمة من يقول: إن نص “البخيل” الذي استعاره مارون النقاش (1817ـ 1855) عن نص بالعنوان نفسه لموليير، هو الأول في المكتبة العربية، وهناك من يرى أن النص الأول هو “نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة ترياق في العراق” لإبراهيم دنينوس، والذي يعود إلى القرن التاسع عشر ونشر سنة 1847؟

وحين تنظر إلى الأبحاث والدراسات التي تنجز في المعاهد وكليات الدراسات العليا، كيفما كانت مناهجها، تجد أنها في الغالب تستدل على تحولات وانزياحات المسرح العربي بمقتطفات من نصوص مسرحية أو بشهادات لكتّاب مسرحيين وليس من كراسات أو سيناريوهات مخرجين أو تصاوير لأداءات تمثيلية.

وعندما نعود إلى التاريخ، نجد أننا وقبل معرفتنا لكتّاب مثل شكسبير وموليير وسواهما من كتّاب المسرح في العالم ثمة كتّاب مثل سوفوكليس ويوربيديس وأسخليوس وأرسطو فانيس وسواهم من مسرحيي الإغريق الذين أرسوا الدعائم الأولى لهذا الفن العريق!

بجملة، يمكن القول: إن تاريخ المسرح في العالم هو في جوهره يعتمد على ما أنجزه الكتّاب؟

الموقع العربي

لكن، مع كل ذلك، نجد أن موقع الكاتب، وخصوصاً في الوطن العربي، يبدو هامشياً قياساً إلى غيره من المشتغلين بالمسرح، بخاصة “المخرج”، و”الممثل”، و”الناقد”، وللتثبت من ذلك يمكن النظر إلى القوانين واللوائح الإدارية والنظامية التي تعتمدها العديد من المسارح “القومية” أو “العمومية” أو “الوطنية” في العديد من العواصم العربية؛ فهي توشك أن تكون خالية من أي التزامات تجاه الكتّاب!؟ فثمة مسارح حكومية تتيح فرصاً لتوظيف المخرجين والممثلين ومهندسي الديكور وسواهم، ولكنها لا تفتح مجالها للكتّاب، حتى الفرق المسرحية العربية هي بلا كتّاب في معظمها وتضم وتُعرف في العالمين بممثلين ومخرجين وتقنيين فقط؟ وفي المهرجانات المسرحية، على طابعها الاحتفالي والتكريمي، نجد أنهم لا يدرجون جوائز للكتّاب إلا نادراً ولا تتكلم عن مقاربات وقراءات النقاد، فهي دائما موجهة للعناية بالمخرجين وحسب!

تلك الرؤى وغيرها جرى طرحها في النقاشات التي شهدها ملتقى الشارقة لكتّاب المسرح الذي نظمته إدارة المسرح بدائرة الثقافة والإعلام في الشارقة أخيراً، تحت رعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، جاء الملتقى تحت سؤال “تاريخ الكاتب في المسرح العربي؟”.

أما ورقة نقاش الملتقى فجاءت متكلمة عن أن الطريق لم يكن سهلاً وسالكاً دائماً أمام الكاتب المسرحي العربي، فهناك العديد من الصعوبات والإشكاليات كان عليه أن يقاومها ويتخطاها، حتى يمكنه أن يدفع بتجربته إلى سبيل التقدم والتطور والتأثير، وتابعت الورقة: النظرة الاجتماعية السلبية والظروف المادية الضارية، وإشكاليات النشر، الرقابة، والتمييز الأيديولوجي والطبقي.. كل تلك المشاكل نهضت أمام طموحات الكاتب المسرحي العربي على مر السنين وهو ظل حاضراً لكن بين خفوت وسطوع.

على أن أكثر ما تحفظه ذاكرتنا حول السيرة الشقية لتلك البدايات لا زال شفهياً ومتفرقاً بين الألسن والمقالات الصحفية في معظمه. ويمكن القول، بسهولة، إنه لم يسجل، سواء ورقياً أو إلكترونياً، بالصورة التي يمكن أن تساعد أجيال المستقبل في استعادته أو قراءته ومقاربته وفحصه.. إلخ.

إلى ذلك، ثمة تجارب مهمة وثرية في الكتابة المسرحية العربية عرفتها ستينيات القرن الماضي، مشرقا ومغرباً، وهي حققت أصداء نقدية وإعلامية استمرت إلى عقود تالية، لكن حين نسأل: كيف كسبت نصوص تلك المرحلة كل ذلك الوهج؟ يصعب العثور على إجابات دقيقة وواضحة ويمكن الاعتداد بها!

ولمناسبة الحديث عن النص المسرحي في علاقته بالنقد وبالنظر إلى عناوين الإصدارات الحديثة نسبياً في المكتبة المسرحية العربية؛ يمكن القول: إن ثمة حاجة لا زالت قائمة للإجابة على أسئلة مثل: هل أفلح الناقد المسرحي العربي في توصيف وتحليل تجارب مميزة في الكتابة المسرحية العربية، إلى أي درجة كان في مقدور هذا الناقد الفرز بين تيارات وحساسيات الكتابة المسرحية العربية في علاقتها بمفاهيم ومصطلحات مثل “الأصالة” و”المعاصرة” و”الحداثة” وسواها، وهل بمقدورنا الحديث عن نماذج نقدية مهمة في هذا السبيل؟

في السياق ذاته، كيف يمكن النظر الآن إلى تلك النصوص المسرحية التي كُتبت في إطار التزام أو عقد فني أو جمالي أم فكري محدد ولصالح اتجاهات مسرحية مثل “الحكواتي” و”السامر”، الاحتفالية”..، ما موقعها في اللوحة العامة للكتابة المسرحية العربية وإلى أي مدى يمكن اعتبارها مؤثرة ومهمة سواء في إطار التزامها الفني أو في صلتها بالمشهد المسرحي العام؟

وعلى مدار يومي (30 و31 أكتوبر) استقبلت قاعة المؤتمرات في قصر الثقافة بالشارقة العديد من المداخلات حول تلك المحاور، ولا يمكن حصرها هنا، ولذلك سوف نتطرق إلى أبرز الأفكار.

مسرح السرد

عن تجربة عبدالقادر علولة (1939ـ 1994) تحدث الكاتب الجزائري أحسن ثليلاني في مداخلته التي قدمت في الجلسة الأولى للملتقى في يومه الأول تحت عنوان “الكتابة المسرحية العربية وعروض الأداء الشعبي”، ولفت ثليلاني إلى التوجه المبدع لعلولة في استلهام المحكيات والأشكال الشعبية للقطع مع نموذج المسرح الأوروبي السائد، فالأخير لا يؤثر على عامة الشعب، وهو محصور في فضاء ضيق “العلبة الإيطالية” ولا يشبه في شيء الفرجة الشعبية التي ابتكرتها الذاكرة المحلية وتوراثتها الأجيال. ورقة ثليلاني ركزت في معظمها على تجارب علولة التي جمع فيها بين الاشتغال على النصوص والعروض، مبرزاً الرابطة التي تشد شكل ومضمون العمل المسرحي المستلهم للذاكرة الشعبية.

ويقول ثليلاني: إن المنظور المسرحي الذي قدمه عبد القادر علولة في مسرحية (الأجواد) وقبلها في مسرحية (الأقوال) وبعدها في (اللثام)، لم يكن وليد مختبرات تنظيرية مسرحية، بل جاء استجابة لردود أفعال المتفرجين إزاء العروض المسرحية التي كان يقدمها لهم.

وأشار الكاتب الجزائري إلى أن علولة الذي جمع بين الكتابة والإخراج والتمثيل يعد من أولئك المسرحيين العرب الرواد الذين انخرطوا في مسار التأسيس لمسرح عربي يستمد حيويته وحضوره من استلهام التراث، ولكن تجربته المهمة لم تحظ بما تستحق من اهتمام نقدي في المجال المسرحي العربي العام، وإن كانت استلفتت العديد من الأبحاث والدراسات على مستوى الجامعات الجزائرية.

وفي ما يتعلق بالجانب الفني لنصوص علولة ذكر ثليلاني أن بعض النقاد أخذ على نصوص الكاتب الجزائري الراحل ارتكازها على السرد وازدحامها بالمشاهد والوقائع من دون تلخيص واختزال، ملمحاً إلى أن إخراجها قد يكون صعباً على غير علولة نفسه.

مسارات إماراتية

من جانبه، استعرض الكاتب الإماراتي مرعي الحليان المسارات التي اتخذتها الكتابة المسرحية في الإمارات منذ البدايات، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، واستهل الحليان حديثه بالكلام عن الانتقالة التي أحدثها مهرجان أيام الشارقة المسرحية في نوعية النصوص الإماراتية وتطرق في هذا الجانب إلى الإشكاليات التي نتجت عن ضعف التوثيق والتاريخ، خصوصاً في المرحلة الأولى لتجربة المسرح الإماراتي، إذ غابت العديد من النصوص وبقيت عناوينها فقط وهو ما يستدعي، بحسب الحليان، وقفة متأنية للمراجعة التدقيق.

وتحدث الحليان عن بدايات حركة الكتابة المسرحية الإماراتية مشيراً إلى أن هذه الكتابة عرفت أشكالا مختلفة من التواصل مع سواها من كتابات مسرحية عربية وهي مرت بتلك المراحل التقليدية التي عرفتها تجربة الكتابة المسرحية العربية كالأعداد والترجمة والخلجنة، كما أنها تشاركت مع سواها من كتابات عربية في التعبير عن الهموم الوحدوية والقومية في الستينات.

مسرح التاريخ

وتوقف الحليان عند مساهمة صاحب السمو حاكم الشارقة، لافتاً إلى فرادتها وعنايتها الخاصة بالتاريخ، وربط الحليان بين بعض نصوص سموه ولحظات تاريخية مفصلية عرفها المشهد السياسي العربي.

وتكلم الكاتب الإماراتي أيضا عن تجارب كتابية جديدة بدأت مع سالم الحتاوي وإسماعيل عبد الله وجمال مطر وناجي الحاي وغيرهم كثر وقال: إن هذه النصوص الجديدة اختلفت في مصادرها وفي طرق معالجتها، ولكنها اشتركت في تعبيرها عن الهموم المحلية وفي هذا السياق تساءل الحليان عن موجة كتابية مسرحية عمدت دائماً إلى استلهام التراث، وذلك في قطع مباشر مع الواقع الجديد لمجتمع الإمارات الذي تقدم باتجاه الحداثة والعصرية وهو رجح أن تكون هذه العودة إلى التراث بسبب الحنين أو بداعي مغالبة الواقع الراهن.

وصحبة ورقته قدم الحليان إحصائية بنحو 37 مسرحية من نصوص البدايات أي من النصف الثاني للخمسينات إلى مطلع التسعينات، كما قدم إحصائية أخرى تضم نحو 120 نصاً حديثاً صدرت في العقد الأخير عبر المسابقات خصوصاً، وهو ذكر أن هذه النسبة تبرز المكانة التي احتلتها الكتابة المسرحية في الإمارات بخاصة في السنوات الأخيرة، موضحاً أن العديد من المسارح العربية بدأت تستعين بمكتبة المسرح الإماراتي أخيراً، وفي ذلك دلالة على حضور نوعي للكاتب الإماراتي.

في اليوم التالي للملتقى وبجلسته الأولى التي أدارها وقدمها الكاتب الإماراتي عبد الله مسعود وشارك بها الكاتب السعودي عباس الحايك بورقة عنوانها “النص المسرحي: حكايات عدة وأزمنة شتى” قدم خلالها صورة بانورامية للتحولات التي طرأت على جماليات النص المسرحي نتيجة تأثره بمتغيرات زمنية، إذ إن لكل نص زمنه كما لكل زمن نصه..” على ما قال مقدم الورقة. وتطرق الحايك إلى الأسئلة التي كان على كتّاب المسرح العربي طرحها في الستينات وقال: إنها كانت مستلهمة من الأجواء السياسية والشواغل الاجتماعية للمرحلة، بيد أن علاقة التأثر والتأثير بين كتّاب المسرح والمجتمع لم تكن على الوتيرة ذاتها ولا بالحساسية نفسها في كل مرحلة؛ فمن التعاطي المباشر والساخن في أغلب نصوص المراحل السابقة صار الكاتب المسرحي يتفاعل على نحو معقد مع ما يحصل حوله من تغييرات اجتماعية في الوقت الراهن، وصارت النصوص أقلّ مباشرة ووضوحاً في تماسها مع خارجها وذلك، بحسب الحايك، يتناغم مع حساسية العصر الحالي وتطلعاته.

الحايك الذي يعتبر من أبرز كتّاب المسرح في الوقت الحالي في السعودية استحضر أيضا تجربة التأصيل للمسرح العربي مشيرا إلى أنها تعبر عن زمن سؤال الهوية الثقافية، ولكنه أظهر انحيازاً إلى فكرة التفاعل الحضاري والانفتاح بدلاً من الانغلاق والانكفاء.

وفي ورقته الموسومة “أي ريادة في مشهد الكتابة المسرحية العربية” تناول الكاتب الجزائري رشيد بوشعير، الذي تغيب عن منصة الملتقى لظرف صحي وقرأ ورقته الممثل السوداني الرشيد أحمد، تناول التحديات التي واجهت راود الكتابة المسرحية العربية وفي هذا الباب تحدث عن ضعف التكوين والافتقار للأدوات الأساسية وقال: إن الكاتب المسرحي العربي في البدايات عانى على مستويات عدة: من المجتمع ومن رقابة المؤسسة الاستعمارية، إضافة إلى إشكاليات أخرى تتعلق بقدرته الذاتية ومهاراته الفنية.

وذكرت ورقة بوشعير أن هناك ريادة مسرحية عربية مزدوجة ذات شقين كانت سنة 1847، أحد هذين الشقين على مستوى العرض المسرحي يتمثل في عرض مسرحية “البخيل” لموليير من قبل مارون النقاش، وكان مشفوعاً بخطبة له بين فيها غايات المسرح، شارحاً رسالته كما يراها، والآخر نصي يتمثل في مسرحية “إبراهام دنينوس” الموسومة بـ “نزاهة المشتاق وغصة العشاق وهي المسرحية التي اكتشفت مؤخراً بمكتبة المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس وقد طبعت بالجزائر سنة 1847.

توصيات

وأذاع الملتقى ورقة توصيات وجه خلالها المشاركون تحية تقدير وإكبار إلى صاحب السمو حاكم الشارقة وأوصوا بالدعوة إلى الاستمرار في عقد مثل هذه الندوات المتخصصة، لما لها من دور في بناء حوار بين النخب العربية المختصة في مجال المسرح حول أهم قضايا المسرح العربي، وإيلاء الكاتب المسرحي العربي المكانة المستحقة في مختلف المهرجانات واللقاءات المسرحية، والتأكيد على مواصلة الجهود الهادفة إلى تأصيل المسرح العربي وبناء هويته كما أوصى المشاركون بمتابعة تجربة الشارقة في تأسيس مكتبة للنصوص المسرحية العربية الرائدة والحديثة وإيلاء الأهمية المستحقة لتوثيق مسيرة المسرح العربي منذ نشأته، ودعوا إلى تكريم كاتب مسرحي عربي في كل دورة من هذا الملتقى واختتموا التوصيات بالدعوة إلى تخصيص الدورة الرابعة من هذا الملتقى لمناقشة محور الكتابة المسرحية العربية ومتغيرات الواقع المعاصر.

 

عصام أبو القاسم

http://www.alittihad.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *