“الوحوش الزجاجية”..على مسرح برودوَي من جديد

يمكن القول إن المسرحيات الأميركية العظيمة الثلاث، التي عُرضت للمرة الأولى في برودوَي في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ــ قدوم بائع الثلج The Iceman

 

Cometh  ( 1946 )، عربة اسمها الرغبة ( 1984 )، و موت بائع متجول ( 1949 ) ــ تشترك في موضوعات التباين بين الحقيقة و الوهم، بين تعريف الذات و القوى التي تتضافر على إنكارها. كما أنها تُقر بالعلاقة الوثيقة بين العنف، و الجنس، و الموت بينما هي تقوّض و تسند بشكل متزامن مفاهيم الجماعة و الأسرة. فجريمة القتل في ” قدوم بائع الثلج “، و الاغتصاب في ” عربة اسمها الرغبة “، و الزنا في ” موت بائع متجول “، هذه الموضوعات في مسرحيات أونيل، و وليامز، و ميلر، لا تتمخض عن تسوية بين هذه القوى، أو عن راحة؛ فهي تفتقر إلى الخواتم الملائمة و عدالة الميلودراما، تاركةً مسارحها في هدوء قلِق. و لو لم تكن هذه المسرحيات تراجيديات، لصوِّرت بوعيٍ شهواني، مأساوي يشكّل بقلقٍ أساس تلهفاتها الأكثـر ميلودراميةً و رومانسية. 

و توفر مسرحية تينيسي وليامز ” الوحوش الزجاجية ” عام 1944 استهلالاً سيّئ النوع لهذه المسرحيات. فهي باعتبارها ” مسرحية ذكريات ” معدّة عام 1939، قبل دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، مثال على استكشاف الوعي الأميركي القَبلي prelapsarian . ( في المشهد 5، يقرأ توم صحيفةً بعنوان ” هائل ” يقول ” فرانكو ينتصر “، مثبّتاً المسرحية في ذلك العام. ) كما أنها حكاية الرومانسيات المتبارزة ــ رومانسيات أماندا ونغفيلد، القائمة في ذاكرة شابة من دلتا المسيسيبي ( اضافة إلى تحيزاتها الاجتماعية؛ فهي تبدي إشارات إلى السود و الزنوج بصيغة إزدرائية في المشهد الأول بالذات من المسرحية )، و رومانسيات ابنها توم الذي يبحث عن ملاذ له في فنتازيات هوليود. و يتذكر توم، و هو كاتب في مخزن، ثلاثينات القرن العشرين باعتبارها الزمن الذي ” كانت فيه الطبقة المتوسطة الأميركية الهائلة تُقبل في مدرسة للعميان. و قد خذلتهم عيونهم، أو أنهم خذلوا عيونهم، و هكذا راحت أصابعهم تُضغط قسراً على حروف أبجدية بريل اقتصاد متفسخ. “
و يتعامل الكثير من المسرحية مع محاولات أماندا، و توم الأكثر تردداً، لجر أخته لورا إلى علاقة رومانسية تقليدية. لكن لورا غير متوافقة، و غير مكتملة، بطريقةٍ ما، و لديها إعاقة بعد مرض في الطفولة تركها بساقٍ أقصر من الأخرى قليلاً. و تُجر لورا إلى رومانسية جنوبية تحاول فيها أماندا أن تجتذبهما معاً، لكنها رومانسية غريبة، وليدة إغراء و دعابة. و هي تُقر بنوع تلاعبي من إغراء المرأة إضافةً لطابعه المغامر، و الإذعاني، و البهيج، المميز ” لكل فتاة لطيفة ” باعتبارها ” فخاً، فخاً لطيفاً، و هو ما يتوقعه الرجال منهن “؛ و كذلك، رغم كرهها لكلمة ” عرجاء ” لوصف لورا، تعترف بصحة هذا التميز إضافةً لوضعها الخاص كضحية مهمَّشة للهجر، و تقول لتوم في نهاية المسرحية : ” لا تفكر بنا، أم هُجرت، و أخت غير متزوجة عرجاء و من دون عمل! ”  
و بمعنى واحد في الأقل، فإن أماندا أقل رومانسيةً بكثير من ابنها توم، الذي يصف الحرب الوشيكة بأنها ” مغامرة ” : ” مغامرة و تغيير كانا متأصلين في هذا العام ( 1939 )، يقول لجمهور المشاهدين. ” كانوا ينتظرون عند الزاوية كل هؤلاء الأولاد. معلّقون في الضباب فوق بيريشتسغادن (1)، مأسورون في طيّات مظلة تشامبرلين (2). و في إسبانيا، كانت هناك غورنيكا! (3)… العالم كله كان ينتظر القصف بالقنابل. “
عدا ربما أن أماندا و لورا كانتا تنتظران فقط طالب اليد الجنتلمان الذي كان يرتّب أمره توم ــ و هو زميل له كاتب في مخزن و رياضي سابق في المدرسة الثانوية، جيم أوكونور، الذي كانت لورا مولعة به لسنوات كثيرة. و بينما كانت رومانسية أماندا بالنسبة لتوم وهماً، فإن هذه الرومانسية و تكهن أماندا الدقيق بالقوى الديناميكية للسايكولوجيا الذكرية و الأنثوية لها فعلها في الواقع، إذ ينجذب جيم و لورا إلى مغازلة جنسية عميقة. 
أما في عام 1944، فإن الواقعية الدراماتيكية و الطبيعية الأميركية كما أنتجها ديفيد بيلاسكو و كلايد فيتش قد هُجرت لجيل مضى تقريبا؛ و بصرف النظر عن تجريب أونيل بالأقنعة في ” براون الإله العظيم The Great God Brown ” و مونولوج تيار الوعي في ” فاصل غريب “، كان هناك أيضاً مثال 1938 ” بلدتنا Our Town “، الذي تنحني له ” الوحوش الزجاجية ” في تطرفها المسرحي. ففي النص الأصلي للمسرحية، وصف وليامز ” استخدام شاشة سُلِّطت عليها سلايدات مصباح سحري تحمل صوراً أو عناوين، و أنا غير آسف على حذف هذه الأداة من إنتاج برودوَي الأصلي … لبعض القراء لرؤية كيف كانت هذه الأداة تُصوَّر … و الشاشة هي لإعطاء طابع لقيَم معينة في كل مشهد. … فالأسطورة أو الصورة على الشاشة سوف تقوِّي تأثير ما هو مجرد إشارة في الكتابة و تسمح بجعل النقطة الأولية على نحوٍ أكثر بساطة و سهولة مما لو كانت المسؤولية كلها على السطور المنطوقة. … و في الواقع، فإن إمكانيات الأداة تبدو لي أكبر كثيراً مما يمكن لمثال هذه المسرحية أن يستخدمه على وجه الإمكان. “
و أخيراً، فإن مسرحية ” الوحوش الزجاجية ” تتكون من سبعة مشاهد. و قد عُرضت للمرة الأولى في شيكاغو يوم 26 كانون الأول 1944، و في نيو يورك يوم 31 آذار 1945. و كانت من إنتاج و إخراج أيدي داولنغ مع آخرين، و مثّلت فيها لوريت تايلر بدور أماندا، و أيدي داولنغ بدور توم، و جولي هَيدين بدور لورا، و أنثوني روس بدور جيم.
أما الإنتاج الحالي لهذه المسرحية، فمن إخراج جون تيفاني، و تمثيل سيليا كينان ــ بولجر بدور لورا، و شيري جونز بدور أماندا، و زاكاري كوينتو بدور توم.

(1)  بيريشتسغادن : بلدية في بافاريا بألمانيا آنذاك.
(2)  آرثر تشامبرلين ( 1869 ــ 1940 ) : رئيس وزراء بريطانيا في الفترة 1937 ــ 1940.
(3) غورنيكا : بلدة إسبانية قصفتها طائرات حربية ألمانية و إيطالية مساندة لقوات فرانكو بشكل وحشي. و قد خلّدها الرسام بيكاسو بجدارية مشهورة بهذا الاسم.
n عن: The Theatre Bar

 

ترجمة: عادل العامل

www.almadapaper.ne

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *