«فن الكتابة»: الموهبة وحدها لا تكفي

يرتجف الورق بين يديها، تتذرّع بتوضيب خصل شعرها لتتدارك تلعثمها. يطلع صوتها متكئاً على هواجس الحوار في النصّ، صوتها الذي ننصت إليه كلّنا. تقرأ على المجموعة

 

الملتفّة حولها السيناريو الأول الذي كتبته، وتعتذر في البداية من أنه طويل بعض الشيء، مؤكدة أنه حقيقي جداً ويشبهها كثيراً. تجلس الشابّة بين مجموعة يلتفّون حول طاولة صغيرة في مسرح «بابل»، يضع كل شخص منهم دفتراً وقلماً ويدوّن بعض الملاحظات التي تشبهه وتلفته، وذلك ضمن ورشة عمل في «فن الكتابة للمسرح والسينما والتلفزيون»، مع الكاتب السوري غسان زكريا.
الورشة التي أعلن «بابل» عن انطلاقها في الأول من أيلول والممتدة إلى بضعة أسابيع، تهدف إلى النهوض بهذا الفنّ، والتذكير بأن الكتابة ليست بالفطرة أو الموهبة وحدهما، ولا هي حالات نفسيّة فقط، ولا أوراق تحت آلات طبع لا تهدأ، بل هي عمل ممنهج. تعدّ هذه التجربة بمثابة تحدٍّ للمنتسبين، للتركيز على نقاط الضعف والقوّة، بعد الالتصاق برائحة ذلك المطبخ.
سبق زكريا في التجربة العديد من الكتّاب الحريصون على مستوى فنّ الكتابة، أبرزهم الأديبة اللبنانية نجوى بركات، حين أسست محترف «كيف تكتب رواية؟»، قائلة في زاوية الموقع الإلكتروني المخصص للمحترف: «قليلٌ من سخاء الأدب وسعته، لكي ننقذ البذور الشابة الواعدة من هلاكها، لكي نهيّئ لها موعداً وتربةً ومناخاً لأنها ولا بدّ ستنمو، على أمل أن تينع وتثمر من ثمّ وحدها، عاماً بعد عامٍ بعد عام».
وفي وقت لا ينتظر مبدعوه أن تتخمّر نتاجاتهم امتثالاً لرغبات الناس السريعة، «يأتي المحترف ليعتّق مفهوم الفنّ الكتابي ويبلوره، ولينتقي المواهب ويوجّهها ويصقلها»، بحسب الكاتب غسان زكريا. ويضيف أن كل المنتسبين إلى ورشة التدريب مهتمّون بشكل كبير بالكتابة وحريصون عليها، منهم من لديه مشاريع أدبيّة ومنهم من يحبّ الكتابة. وفي وقت صار لقب الكاتب يطلق برحابة على «كلّ من تعفّف عن الكلام بالأدب، من دون أي نقد واضح لنتاجاته»، يعتبر زكريا أن هناك نقص كبير في حرفية الفن الكتابي، ولا ينفي وجود الكثير من الأفكار والشغف للكتابة، «لكنهما لا يكفيان. الموهبة شرط لازم، لكنها لا تكفي كذلك». من أجل ذلك، يؤكد زكريا أهميّة المحترف، داعياً إلى أن يصير حاجة فعليّة في الوسط الأدبي والثقافي، بهدف «التخفيف من انفلات الأعمال الركيكة، لأن ذلك لم يعد مقبولاً. وهناك مشكلة أكبر في الكتابة الدرامية، بسبب التنافس الكبير عليها، لأن نتاجات التراث الإنساني في المسرح والسينما هائلة».
أما الخطوات الأساسية التي يعتمدها زكريا في التدريب فتقوم أولاً على «تصويب الأفكار وتوجيهها لتنتقل بانسيابية نحو النص، والغوص في ما يكتنفهما من تفاصيل صغيرة، خاصة في السيناريو». من ثم اختيار فرضية واحدة مشتركة يُطلب من المنتسبين كتابة مشهد تلفزيوني يتمحور حولها، «حتى نصل إلى وقت تصبح الأفكار طليقة وغير مقيّدة، يترك حرية اختيارها لهم. ليصبح بمقدورهم كتابة مشهد كامل بمفردهم، وربطه بالسياق الدرامي».
تبتعد إحدى المشاركات بعد نهاية الدرس عن طاولة الاجتماع. تجد نفسها مشدوهة بجمال ما يحتويها من أفكار، وتعلق: «هذا المحترف ضروري جداً، أولاً، الكاتب الذي يدربنا مثقف جداً، وثانياً، يجعلنا المحترف نطرح على أنفسنا الكثير من الأسئلة، منها: هل الكتابة عالم آخر غير الذي نمشي به كل يوم؟ متى تصير واقعيّة ومتى تحتاج إلى الابتعاد؟ كيف نبدأ؟ وماذا نقول؟ وكذلك وضع كلّ منّا أمام السؤال الأهم: ماذا نريد من الكتابة؟». يحتدّ النقاش الداخليّ بين المشاركين، بمعنى انفعال الهواجس وتذبذبها في المحيط المشترك بينهم، وكانت الملاحظات الموجهة إلى المشاركين مهمّة جداً، وأهميتها في تباينها. «كل شخص قرأ أمامنا المشهد الذي كتبه، ودارت حلقة نقاش حولها، فكانت التعليقات جميلة وعميقة، تمتّن من ثقل ما كُتب وتثير الجدل حوله وترفع بالوعي الجماعي»، يقول زكريا.
ويشرح زكريا التحدّي الكبير الذي مرّ به المشاركون، وهو «التفكير بمنطق الآخرين، والكتابة عنهم بلغة ذاتية وإسقاطات داخلية. هذه المسافة التي يبتعدها الإنسان عن نفسه، ليتخيّل حياته في مكان آخر ومع أشخاص مختلفين، وطريقة تفكير لا تشبهه، تولد الكاتب الحقيقي».
ومن ضمن البرنامج المخطط له في الورشة إعداد مسودة مشاهد أخرى، يرسلها المشاركون إلى بريد الكاتب ليضع ملاحظاته، نبذة تاريخية عن السينما والمسرح والتلفزيون مرافقة في كافة الدروس، مناقشة أفلام متعددة، تفصيل وتعريف المصطلحات المسرحية والسينمائية.
لا يمكن أن تبقى الكتابة فنّ الرغبة بالحياة والوجه المجمّل لها من دون سعي محترف لنشرها، وإلا صار كتّاب المستقبل يتّكئون على «السليقة»، وما هبّ في أعماقهم من نوازع. لذلك، يتمنى زكريا أن يستمرّ المحترف، وأن ينشأ مثله في كلّ مكان، «لأنه مفيد جداً وممتع، لكنه يعتمد على إقبال الناس». وفي وقت يطلع كلّ شيء إلى الضوء قبل أن يدفأ، تحتاج الكتابة إلى انكفاء، كي نرفع من شأن ذاكرتنا الجماعيّة، ولنعرف تماماً كيف يقرأ الناس من بعدنا معنى هذه الجلبة التي تدعى الحياة.

 

غفران مصطفى

http://shabab.assafir.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *