«الارتجال المسرحي» الطريق الأسرع إلى النجاح

عندما قدمت ندى قاسم طلبا للعمل في إحدى الشركات الفرنسية التي لها فرع في لبنان، واستدعيت لمقابلتها، لم تكن لتتخيل أن متابعتها لورشات في التمثيل الارتجالي

 

هو أكثر ما لفت النظر في سيرتها الذاتية، بعد شهادة الماجستير في «التسويق» التي نالتها من جامعة كبيرة. وتروي قاسم لـ«الشرق الأوسط» أن آخر ما كانت تتوقعه، لحظة وصلت لمقابلة مدير الشركة، وهي التي قضت شهورا في البحث عن عمل بعد تخرجها، أن ضمن ما سيطلبه منها هو أداء مشهد تمثيلي ارتجالي. وتضيف: «لم أتردد في النهوض من مكاني حين طلب مني ذلك. استجمعت كل طاقاتي وتركيزي لابتكار حكاية سريعة أديتها برباطة جأش، رغم أنني كنت أشعر برهبة شديدة». وتقول ضاحكة: «ما إن انتهيت من التمثيل أمام الشخصين اللذين كانا في الغرفة مع المدير، حتى ابتسم لي هذا الأخير وقال: متى تستطيعين مباشرة العمل؟». وتشرح قاسم التي تابعت هذه الورشات في باريس من باب التسلية والمرح، خلال عامين، وعلى مدى يومين في الأسبوع بعد فراغها من دوامها الجامعي، أن ما كانت تتصوره نوعا من المتعة الذاتية عاد عليها بفائدة لم تكن تتوقعها، وأن هذه الورشات التي حضرتها مع طلاب آتين من بلدان وثقافات مختلفة، أدخلتها تجربة غنية بدلت من رؤيتها لأمور كثيرة، وأوصلتها إلى وظيفة كانت تحلم بها.

يوافق الفنان اللبناني لوسيان بورجيلي، وهو أحد أهم الذين عرفوا في لبنان في السنوات الأخيرة بفن الارتجال، تعليما وتأدية، على أن هذا النوع من المحترفات هو حاجة للجميع. وأن كلا يجد فيه ضالته، سواء كان يريد احتراف الفن، أو تعلم محاورة الآخر، والتواصل كما حسن الإصغاء. وفي رأي بورجيلي أن «هذه الورش التي تجمع أناسا متباينين، أحد أهم ميزاتها هو تعليم المشتركين الإصغاء، ليس فقط للكلام المنطوق، وإنما لكل رفة عين، وإيماءة، من الشخص الذي نتواصل معه. كما أنها تعلم الانتباه لطريقة جلوس الآخر، ولبسه وحركاته. الارتجال التمثيلي هو فن تفاعلي في الأساس. وبالتالي على من يريد أن يتعاطى مع الآخرين بنجاح، أن يفهمهم، ويترك لهم مجالا للتعبير قبل الرد عليهم، بدل الاتكاء على الأفكار المسبقة».

وهنا يلفت بورجيلي إلى «أننا شعوب لا تجيد فن الإصغاء، وكثيرا ما نلتقي بأشخاص يجيبوننا بما يدور في ذهنهم، دون أن يلقوا بالا إلى السؤال الذي نوجهه إليهم، وكأنما كلامنا لا يغير شيئا بالنسبة لهم».

«المسرح الارتجالي يكسر هذه الحلقة التي بات البعض حبيسها وأسيرها. وهو مفيد لتحرير البعض من انطوائيتهم، أو مساعدتهم على تحسين قدراتهم في التعبير عن آرائهم. لكن أهم ما يمكن لفن الارتجال أن يحققه للإنسان، هو إعادته إلى عفويته».

هنا يشرح بورجيلي الذي ينظم في الوقت الراهن ورشة عمل كل شهر في بيروت «أنه مع بلوغ الإنسان سن الرشد، يفقد الكثير من عفويته الأولى نتيجة ضغط المجتمع. فنحن إذا بكينا، يقولون لنا عيب نبكي، وإذا ضحكنا، عيب نضحك، وإذا عبرنا عن مشاعرنا، يلجموننا غالبا، وحين نريد أن نعبر عما يجول في خاطرنا، نجد أنفسنا مضطرين لمسايرات ومهادنات. في ورش الارتجال التمثيلي، نقول للمشاركين هنا بمقدوركم أن تخرجوا كل ما عندكم، ليس هناك ممنوعات ومحظورات، كلنا نتواجد مع بعضنا كي نعود إلى طفولتنا، وإلى ذواتنا، في فضاء آمن، لا نخشى فيه من هجوم أو صد أو كبح». يضيف بورجيلي: «أول ما أقوله للمتدربين اخلعوا الأقنعة، وانزعوا عن أنفسكم الرقابة. وقولوا ما يحلو لكم. فالإنسان العفوي هو الأقرب إلى قلوب الناس، وكلنا يبحث عن شيء من الصدق. وفي الفن غالبا ما نبحث عن الحقيقة أو نسعى لنقترب منها ما أمكننا».

في الدول الغربية بات من يبحث عن أستاذ يتعلم معه هذا الفن، بمقدوره أن يجده في حيه أو في شارعه. أما التقنيات المستخدمة فهي كثيرة ومتنوعة. ويستطيع الراغبون في الالتحاق بهذه الورش الاختيار بين تقنيات عدة أحيانا. في لبنان رغم شيوع هذا النوع من الورش، بعد أن أقامت الفنانة المسرحية عايدة صبرا ورشاتها، والممثلة زينه دكاش ورشات أخرى في السجون، مستخدمة الارتجال وسيلة لمساعدة المحكومين على تجاوز محنتهم، ما يزال اهتمام الجمهور بهذا الصنف من التمارين الفنية في أوله.

يقيم لوسيان بورجيلي ورش عمل للارتجال التمثيلي منذ ست سنوات. وخطر له أن يدعو طلابه للنزول إلى كورنيش المنارة وإقامة عرض ارتجالي هناك، يتقاسمونه مع المارة بدل أن يبقوا حبيسي الجدران. نجاح هذه التجربة شجعه بالتعاون مع طلابه لإقامة مسرحية ارتجالية في مكان مغلق، يشارك في تمثيلها الجمهور، حملت اسم «مثلي مثلك» لقيت نجاحا كبيرا. مع تنامي عدد المتدربين، وبروز موهوبين بينهم، قدم بورجيلي مسرحية ارتجالية أخرى، لكن في لندن وبالإنجليزية هذه المرة، بصحبة بعض طلابه، حملت عنوان «66 دقيقة في دمشق»، عن المساجين السوريين في السجون السورية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في جامعة سان بولو، في البرازيل سيقدم بورجيلي مسرحية ارتجالية أخرى بصحبة طلاب له، ستحمل اسم «خليك سلبه» وهي عن التمييز الذي يعانيه مرضى «السيدا». وهو يحضر حاليا لتقديم مسرحية تفاعلية أخرى في لبنان تحمل اسم «بتقطع… ما بتقطع» ما تزال عالقة بين أيدي الرقابة.

16 ساعة من الدروس المكثفة للورشة الواحدة، ينظمها لوسيان بورجيلي كل شهر، ويعتبرها كافية لمن يملك الحماسة والموهبة، لينطلق في عالم التمثيل. ويقول: «في نهاية التدريبات ننظم عرضا ندعو إليه عائلات المتدربين وأصدقاءهم. التشجيع الذي يلقاه المتدربون يدفع بهم إلى الأمام، كما أنني أزودهم بكل المفاتيح اللازمة لينطلقوا. هناك في لبنان إعلان واحد كل يوم يطلب ممثلين، ويحدد موعدا لـ(كاستينج). المتدربون يزودون بعناوين المواقع والصفحات التي يجدون عليها هذه الإعلانات، كما أنني أحفزهم على المشاركة في التمثيل بأفلام التخرج التي يصورها طلاب أقسام (السمعي البصري) في الجامعات اللبنانية، وهذا غالبا ما يكون مفيدا جدا». ويؤكد بورجيلي أن أحد الذين تدربوا في ورشه تمكن من لعب دور في هوليوود مع أنطونيو بانديراس في فيلم «بلاك غولد».

كيت جونستون، أحد أعلام المسرح الارتجالي في بريطانيا، يعتبر أن أهم عناصر الارتجال هي «رواية حكاية، عدم المبالغة، الفاعلية من قبل المتدرب، الرغبة في المجازفة وعدم الخوف من شح الوحي». ويتوجب علينا بحسب جونستون: «معرفة أن الارتجال هو عكس ما تعلمنا إياه الحياة اليومية، لهذا يتطلب الأمر تحاشي الحسابات والتحليلات، والوقوع في التردد والقلق من الاندفاع». ويرى جونستون أن الارتجال هو لعبة على من يريد أن يلعبها أن يستسلم للانزلاق فيها.

وهنا يشرح لنا بورجيلي أنه يتبع خطوات محددة أثناء التدريب، أولها «أن يعرف المتدرب أنه في عالم مختلف لا حواجز فيه وممنوعات، وأن يميز بين الحكاية التي تصلح لروايتها من تلك التي لا تعني أحدا. ومن ثم يجب الابتعاد عن كل أنواع الكليشيهات، وتحديد ما تريده كل شخصية في الحكاية، وما الذي تبغي الوصول إليه، والدخول في أعماقها. كل هذا يتم بالتفاعل وعبر عمل جماعي، حيث يستوحي كل واحد من المتدربين أفكاره من خلال ما يقوله الآخر».

 

بيروت: سوسن الأبطح

http://www.aawsat.com

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *