العود الأول.. مقال في البدايات لمسرح الحاضر (1-3)

بات واضحا في يقين البصيرة ان كلما جاء قبل المسرح الإغريقي من ظاهراتيات عسيرة الولادة قد تمخض عن كونها فاقدة الدلالة مهما حاول الباحثون اعتمادها في التحقق

 

من أسبقية الشكل الذي بلور لنا معنى احترافيا نعتمده في منهج القياس وفي تكامل الظاهرة ومدى حياتها وديمومة نتاجها . لا يعنينا ما وجده الأولون من علماء الحفريات عن نص حضاري قديم يشير إلى مسرح ولا لطقس سومري أقدم مخروم اللوح ولم يحافظ على تتابع قصته نتيجة عوامل التعرية وعدم صيانته في مكتبات حمورابي أو الحكام الذين توالوا على حضارة وادي الرافدين إذ لم تعد مع جل احترامي وتقديري لما أنتجته حضارتنا القديمة من كشوفات وإبداعات في اللغة وكتابة التاريخ  وقصص وأساطير الخليقة من عمق الإنسان البدئي وعالمه المستفيض جمالا والذي سجله العلماء الغربيون لنا على طبق المعرفة الجاهز. فهذا كله يلقى عميق التقدير والاحترام. أما ما يخص المسرح فيبقى ظاهرة موسمية  دينية كرنفالية ناقصة ولو أنها حملت عين البدايات الإغريقية ولكن الفرق هنا وبتقدم الزمن والمكان لكلا الحضارتين , استطاع اليونانيون ( الإغريق) أن يؤسسوا احترافية بعد جل التجارب والتجريب في الوصول إلى عود المسرح الأول  وما بنيت عليه حضارات بعد الميلاد أسس نظرياتها المسرحية .
لقد مرت الظاهرة المسرحية اليونانية بغربلة عجيبة حتى وصلت لنموذجية القياس الذي تربع عليه المبدعون الأوائل أمثال أسخيلوس, سوفوكليس , يوربيديس  و أرستوفانيس. إن المحيط الذي نشأ فيه هؤلاء الأوائل من احتفالات ديونيسيوس والبذاءات الطقسية لمعنى الخصب وفوضى الفرح إلى ملاحم هوميروس وحروبهم وتمجيد أبطالهم وتعدد وثنية آلهتهم إلى ظهور ممثلهم الأول و مهرجاناتهم ومسابقاتهم المسرحية قادت المعلم الأول أرسطو أن يدرس ويبحث ويحلل وينتقد بعلمية استقصائية لزمكانية الحدث , سواء شاهد أو قرأ نصوصها وهو الفيلسوف الشامل الذي اكتملت عنده صورة الجمال ومعنى الفن الدرامي وما استدعاه لخروجه عن  مدرسة أستاذه أفلاطون , من كل هذا طلع علينا بقواعد أسست لنظرية جديدة لم يعرفها العالم من قبل اسمها ( نظرية الدراما), التي تقوم على سياقات ومعايير معرفية قاسمها المشترك الأعظم هو الفعل أي ( الحدث Action) أي العمل  أي (Drama ) ,حتى استطاع أن يبلور النقاط الست التي التقطها من نصوص الذين سبقوه أو عاصروه مع تقسيماته بطرز الشعر والأشعار التي استخدمت في النص المسرحي تراجيديا كان أم كوميديا, والذي يريد أن يتعمق فيما نقول ننصحه بالعودة لكتاب ( أرسطوطاليس في الشعر ) الذي حققه وترجمه الدكتور شكري محمد عياد أو باللغة الإنكليزية ( ARISTOTLE’S Theory of Poetry and Fine Art )المصدر المهم في عمق ملاحظاته النقدية (S.H. BUTCHER) واستنباطاته الغنية و المعتمدة في العديد من الجامعات والأقسام المسرحية الأمريكية و العالمية.
لقد اشتغل فلاسفة العرب والإسلام شرحا وترجمة وتفسيرا وتلخيصا لكتاب فن الشعر لأرسطو وأجادوا في الشرح والتحليل محاولين تطبيق ما جاء فيه من نظرية الشعر التي أرادوا أن يسقطوها على الشعر العربي الذي هو أساسه( مديح وهجاء), حيث أدخلوا التسميات التي وضعها أرسطو على أنواع المسرحيات التي كتبت شعرا  والتي صنفها بين التراجيديا والكوميديا   والتي أخذت التصنيف نفسه عندهم على اساس الإبداع في صنعة الشعر العربي مثلما هو الإبداع في صنعة شعر الدراما, لذلك لجأوا إلى تعريب التسمية نصا حين نقلها ابو بشر متى بن يونس القنائي من السريانية الى العربية حتى استعمل ابن سينا  لفظة ( قرموذيا ) ويعني بها الكوميديا ولفظ ( طراغوذيا ) وتعني التراجيديا . من هنا كان للعرب والمسلمين أن يفتحوا لنا آفاقا في النص المسرحي كمولود وطراز جديد يتزامن مع الشعر العربي الذي اشتغل عليه الفلاسفة العرب والمسلمون والذين أرادوا له أن يتخذ لباسا أرسطويا في بناء القصيدة مدحا أو هجاءً. وتلك هي كانت حاجتهم في البحث النقدي والتحليلي للمحاكاة . ولكن لم يدر بخلدهم التوسع في مغادرة القصيدة الشعرية أو تأوليها بل وتفكيكها وصولا لبناء الشخصيات التي تنطلق من أهمية الحدث الذي تتبناه حتى تنتقل القصيدة الشعرية إلى المسرحية الشعرية , وهذا ليس نقدا أو مثلبة عليهم والسبب في ذلك أن كل أمة وحضارة تنتج نسيجا معرفيا مرتبطا بالحس الثقافي الجمعي الذي ينتمي أهله إليه , لذا فنحن نقول أن الشعر شفرة المجتمع العربي الدالة جاهلية كانت أم توحيدية بينما شفرة الشعر الجمعي في المجتمع الثقافي اليوناني والتي بنى عليها أرسطو منهجه كانت دالتها الدراما ، والدراما كلمة يونانية تعني فعل  , ولذا يصح لنا في ضوء ما تقدم أن نقول اصطلاحا أن العرب تنفسوا شعرا وأبدعوا فيه , بينما اليونانيون تنفسوا مسرحا وأجادوا في التنظير له. وهكذا يكون القياس الأساسي لنظرية الدراما هو يوناني إغريقي إن أردت القول والحاضنة أو المعمل الأول الذي صدّر بضاعته وأصبح الجميع مستوردا لبضاعة المعرفة والفن والجمال  الدرامي المسرحي, ولذا فالعود الأول بحق يعود لهم في تغيير منهجهم  وفي التنويع الذي قدموه عن طريق محاكاة مجتمعهم بطريقة فنية جمالية وهذا الفعل الجمالي يعتبره كأعظم فن لأن عنصر التغيير فيه فاعل لا محال وإلا كيف ظلت نظرية أرسطو حتى الآن قائمة في منهجيتها بغض النظر عن الوحدات الثلاثة التي لابد من تجاوزها في حكم حركة التطور في الكون , ومثالا على ذلك العجلة او ( الويل) الذي اكتشفه السومريون والذي أخذ تعبيرية خارج حدود زمكانيته فهو في السيارة والقطار والطيارة ..كما أنه في المركبة الفضائية و أساور النساء وحتى في التنور وبرميل النفط ثم في كروية الأرض الخ . من هنا نأتي الى القول طالما ان الفن  المسرحي أو الفنون كافة هي اكتشاف فيها  من التصرف والاجتهاد ثم الاستنباط الدال على معنى ما في  عقل المبدع .. أو في خلق تجربة اكتشافية جديدة.. أو مدرسة فنية متطورة ,فلا أحد يرفضه ولكنني لا أتعاطف مع المستنسخ  منه الذي لم  يحقق إحاطة  بعلم ومعرفة بما فعله الأولون في العود الأول ثم  يريك تجربة عرجاء منقولة لم يحسن التعبير عنها  ومع ذلك يمنح لنفسه جواز مرور ليقف في خانة الحداثوية  متصورا أنها موضة من موضات الملابس أو الشعر أو الماكياج عند النساء.

 

بقلم: د. عبدالمطلب السنيد

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *