حينما يتكلم الصمت في مسرحية (صمت له كلامه) للدكتور عبد الرحمن بن زيدان

مع بداية الموسم الثقافي 2013 ـ 2014 أصدر الدكتور عبد الرحمن بن زيدان أضمومة مسرحية تحت عنوان (صمت له كلامه)، و هي من الحجم المتوسط، وعدد صفحاتها 70

 

صفحة، ووضعت تصميم الغلاف السينوغراف والفنانة التشكيلية سلوى جانا، وتضم هذه الأضمومة مسرحيتين مكتوبتين في بنية مونودرامية تتحدثان عن معاناة المرأة في المجتمع العربي، وفي تقديم المسرحيتين اعتبر الدكتور بن زيدان أن 🙁 المرأة حياة تحرك الحياة، وتعطيها حيويتها، وتبعث روحا من الطمأنينة في رحم الوجود الذي يصب معناه في دفق النور، والخصب، والنماء، وكلما كانت هذه الحياة تجددا بالولادة، وكانت تغييرا لطبيعة الوجود، وكانت بحثا عن المفقود، وكانت سؤالا عن معنى الحال والمآل، فإن هذه المرأة تبقى الفاعل والمنفعل بالحياة، تأخذ منها أزمنة العمر، وتمنح هي بدورها عمرها للتاريخ لتلوين أشكال وجودها بما تريده أن يكون، وبما ترفضه من خلل لملء الفراغ بنبض الحياة التي تشتهي.)

وفي هذا التمهيد للمسرحتين يستعرض الدور الاجتماعي والحضاري الذي تقوم به المرأة، فيقول: (منذ خُلق الإنسان، والمرأة تمثّل قطب الرحى في العلاقات، فهي المركز الذي تدور حوله المدارات، وهي الدوائر التي تدور حولها الصراعات، وهي جابرة الانكسارات، وهي جامعة المتفرقات، وهي حاضنة الأشواق والملكات، ومالكة المقدورات التي تصنع من المستحيل ممكنا، ومن الغامض واضحا، ومن الملتبس بيانا، ومن المغلق انفتاحا، ومن المحال محتملا، فهي الحل وهي العقد، وهي المفتاح، والزاد، وهي الحنو، والجسد والروح، والبصر، والبصيرة، والقارئة والمقروءة، والموضوع، و موضوع الموضوع).

ويقدم الدكتور بن زيدان المبررات التي جعلته يقدم على هذه التجربة قائلا (لعل ما يبرر الحديث عن هذه المرأة في المطلق ، وتناول رمزيتها بالتركيز على علاماتها المشتركة بينها وبين مرجعيتها، هو إبداع بعض اللحظات التي ولدتها عملية الإصغاء إليها قبل الاستماع إلى المكتوب، ذلك أن كلام المرأة، وكلام المكتوب يثيران دوما دهشة الإصغاء، ويشدان السامع إلى الاستماع إلى الكلمات، والحالات، وأهوال النفس خارج الطمأنينة المفتعلة، وخارج الهدوء الاصطناعي لأن فعل السماع هو الذي يقدح الشرارة الأولى للكتابة، وهو الفعل الذي يتحرر من آفة النسيان ليدخل بما سيكتب من كلمات، وحوارات في زمن التذكر والبقاء على الحياة في الكتابة.)

وبنظرة بانورامية يتحدث عن مكانة المرأة في التجربة المسرحية فيقول (في المسرح احتلت هذه المرأة مكانها المعتبر ليس ـ فقط ـ بآعتبارها موضوعا للكتابة المسرحية، ولكن بآعتبارها أداة فاعلة في بلورة الزمن المسرحي في الزمن الفرجوي الذي لا تريده أن يتخلى عن مهامه الثقافية الحضارية. فهي الكاتبة، وهي الناقدة، وهي المخرجة، والممثلة، وهي السينوغراف،وهي ضامنة بقاء الفعل المسرحي موجودا بوجود الفريق المنسجم.

بهذا الموقع استطاعت المرأة أن تتخطى المعيقات والموانع الاجتماعية المغلقة، وتمكنت من تجاوز كل نظرة ضيقة تريد أن تقدم صورتها كأنثى يجب أن تظل محكومة بأنوثتها كجنس يقابله المجتمع الذكوري برجولية الرجل المهيمن عليها بنواميس وقوانين المجتمع  المسيّر بتمييز المرأة على الرجل حتى يجعلها هذا التمييز من الدرجات السفلى في مجتمعها، وما مشاركتها في الحياة الجديدة، وتحديها لكل حجر، ومنع، إلا تلبية حقيقية لما يريد لها المجتمع المدني أن تكونه وهي تشارك، وتساهم في تثوير الأفكار، وتشارك في ترويج دواعي ومظاهر الحداثة التي لا تتعارض مع أصالة مجتمعها العربي من أجل تنمية المجتمع بما يليق وانخراطها في صيرورة العالم المتقدم.

لا داعي في هذا التقديم إلى الدخول في التفاصيل التي تعرض أسماء المسرحيات العربيات المشاركات في تفعيل وجود المسرح العربي، لكننا نشير ـ فقط ـ إلى أن الدور الذي كان يقوم به الرجل لتشخيص دور المرأة في بدايات المسرح العربي بقناع الأنثى الذي كان يضعه لينوب عن المرأة في لعب الدور المسرحي قد جعل مكانة المرأة تدخل ـ الآن ـ بثقة إلى عالم المسرح خارج هيمنة قناع الأنوثة المزيف الذي كان يخفي حقيقتها، ووجودها فوق الركح. وكان يحول بينها وبين الدخول إلى مدينة الإبداع المسرحي برؤية مدينية.

هذا التوزع بين قناع الأنثى الذي كان يضعه الرجل لإقصاء المرأة من لعب دورها تحت تأثير فتوى التحريم التي كان المجتمع العربي يمارسها على كل امرأة تريد الدخول في مدينة المسرح، وبين إسقاط هذه الأقنعة لتحرير العلاقة بين الرجل والمرأة من كل وصاية تحد من التواصل المتحضر بينهما، أعطى لهذه المرأة فسحة من التعبير، و ظهرت المرأة الممثلة القادرة على التواصل مع ذاتها، والتواصل مع عالمها المثقف بوعي تاريخي وفني، واجتماعي أهّلها كي تمارس فعل التأثير على المتلقي بخطاباتها الآسرة.

طبعا لم يكن هذا الدور سوى مفردة من بين مفردات العرض المسرحي  المعبر السليم على المساواة بين الرجل والمرأة، وكان الإيقونة التي تؤثث باقي الإيقونات المكونة للعملية المسرحية انسجاما مع الفعالية المسرحية للمسرح العربي.

لقد صارت هذه المفردة الراقية موجودة بوجود المرأة العربية كمعطى جمالي يعبر عن فن لا ينظر إليه إلا في بعده الإستتيقي، ولا يُنظر إليه إلا في بعده الأدائي الذي يتكلم بلغة الجسد، ونبرات الصوت، وبلاغة الحركة، وانسجام الإيقاع مع بنية العرض الذي يتحكم  ببلاغة الحضور في المتلقي، وهذا الإنجاز الذي كان وما يزال عسير الولادة، والتحقق صار مدعوما بكفاية كل ممثلة، وغدا محكوما بالدعامات المعرفية والتجريبية التي  تُطور أداءها مع كل تجربة وعرض مسرحيين.

لكن إذا كان الحضور سليما على مستوى الطرح النظري فإنه على مستوى الواقع يجد العديد من التحديات، والمعيقات تحول دون حضور هذه المرأة حضورا حقيقيا دون مضايقات لأن السياق الذي كانت توجد فيه كثيرا ما كان يملي عليها شروطه الظاهرة والخفية، ويريد تعديل هذا الدور، أو إلغاءه حسب ما يريد به أن يحقق المنع والمصادرة.

ومن خلال ما كتبت عنه العديد من الفاعلات في المشهد المسرحي العربي حول تجاربهن ومعاناتهن، وتحملهن أعباء الممارسة المسرحية يظهر للعيان أن كل كتابة تتحدث عن سيرتهن الخاصة ضمن السيرة الجماعية للجماعة يظهر أن وزر الأعباء، وتحمل المشاق، وتراكم الأتعاب، كلها إحباطات تلاحق لحظات ارتباطهن بالممارسة المسرحية، وغالبا ما تكون هذه الكتابة إفصاحا عن مكنون تجاربهن الخاصة التي تسبر أعماق هذا الإحباط، ليستخرجن منه آهات، وصرخات صامتة تلف حزنها على المعاناة، وتدفن صدى الكلمات مع معاني الواقع الذي تعيش فيه النساء بآعتبارهن نساء موزعات بين لحظات المسؤولية الاجتماعية، وأيام المسؤولية الفنية، وامتداد التجربة الإنسانية في معاناتهن.

وهنا أستحضر تجربتين اثنتين أفصحتا عن مكنون التجربة الجمعية دون كتابتها كتابة درامية، الأولى حكاية ممثلة حكت لي عن عنف واقع ذهبت ضحيته مع فرقتها المسرحية، لكنها بالمكابرة وتحدي الصعاب انبعثت من غيبوبتها لتحكي عن تجربتها، وانكسارها، وانجبارها، وهو حكي لم يكن يسير وفق خط معلوم، لكني لملمت بعض المعطيات،وجمعت بعض الإفادات التي اتخذت منها منطلقا للكتابة التي ليست لها علاقة مع المحكي، ولكن صارت لها علاقة بما كتبته ـ فيما بعد ـ عندما غادرت الكلام المباشر، والأحداث المبعثرة أثناء حكي هذه الممثلة لحكاياتها في أزمنة متفرقة.

في الجزائر عندما كنت عضوا في لجنة التحكيم في المهرجان الوطني للمسرح المحترف في دورته السادسة الذي التأم في العاصمة الجزائرية من 24 ماي إلى السابع من يونيو 2011 تكونت لجنة التحكيم في هذه الدورة من جمال دكار، جكاطي عيسى، منور أحمد، وليندة سلام من الجزائر، شذى سالم من العراق، وسامح مهران مصر، و حسن حاسي كوياتي من بوركينافاسو، وفي مدارات الحكي، والنقاش الذي كان يدور حول التجربة المسرحية العربية، و المغاربية، كانت الممثلة ليندة سلام  تحكي عن معاناتها بهدوء مرة ، وبآنفعال تارة أخرى، وكلما تذكرت ما تكبدته الحياة المسرحية الجزائرية من خسائر في الأرواح ذهب ضحيته العديد من المسرحيين ، إلا ويتخذ الحكي بعدا تراجيديا تطوي صفحته كل ما انتهت من الحكي، فأثار حكيها انتباه ذاكرتي، وانفعالي، وأسئلتي، كما أثارت دوافع الكتابة عندي كي أستخلص من المادة المحكية ما يمكنه أن يكون مرجعية أولى لكتابة نص درامي يمزج بين ما أعرفه عن موضوع الحكي، وما سمعته، وقرأت عنه، وهي كتابة  عدلت فيها هذا المحكي ليساير طبيعة وبنية النص الذي سيصير مكتوبا في بنية درامية فيها يحضر التاريخ، والنقد وكل عناصر الفرجة التي تبني خصوصية المحكي على التنوع الدلالي الذي سينكتب به هذا النص الدرامي.

وبدعوة من وزارة التراث والثقافة  بسلطنة عمان حضرت في مهرجان المسرح العماني في دورته الرابعة التي  أقيمت فعالياتها في قاعة الكلية التقنية العليا ـ الخوير  خلال الفترة  الممتدة من 19 إلى 28 ديسمبر 2011. وكنت رئيسا للجنة تحكيم ضمت كلا من الفنان أحمد الهذيل من المملكة العربية السعودية، والسينوغراف شادية زيتون من لبنان، والفنانة فخرية خميس، والدكتور سعيد السيابي من سلطنة عمان، وخلال فترة المهرجان كان النقاش يدور حول الهموم الذاتية، والثقافة، وقضايا المسرح، وسؤال اللقاء بين المسرحيين العرب في ظروف استثنائية تغلب عليها سخونة الأوضاع العالمية، والتوترات، والصراعات، والحروب، وصدام الحضارات.

في هذا المهرجان كنت أصيخ السمع إلى هموم المرأة وهي تحكي يومياتها فوق الركح من خلال العروض المقدمة، وفي الآن نفسه كنت أسمع إلى معنى السؤال، ومعنى المعاناة التي تحملها المرأة في المجتمعات الخليجية، والمرأة في لبنان، فوجدت نقاط التقاء متعددة تجمع حالات المعاناة عند المرأة العربية، وكنت أجد الفرق في تناول السرد العفوي التلقائي الموجود بين مستويات هذه المعاناة، وزوايا النظر إليها.

ومن خلال بعض الأفكار المطروحة، والنقاش، جمعت بعض الأفكار التي كانت تجس نبض الواقع المعيش عند الفنانة فخرية خميس، والسينوغراف شادية زيتون، وقمت بتخزينها، والمحافظة عليها، إلى أن أتى زمن الكتابة التي لا ترتبط بميعاد، ولا توضع في طابور انتظار تلبية المطلوب، وبعد مخاض الأفكار، وبعد ذوبانها في دلالات تطفح بمعاني الدراما أقدمت على كتابة مونودراما تقدم صورة المحكي، وموضوعه المتخيل.

بهذا الاستماع، وبهذا الاهتمام بموضوع حديث المرأة عن المرأة، أو حديث المرأة عن الفنانة، أو حديث هذه المرأة عن سياقات مجتمعها كتبت سيرتين متخيلتين عن فنانتين تنتميان إلى مجتمعين مختلفين، لكني أعدّهما فنانتين ملسوعتين بحب الحياة في المسرح، وحب المسرح في الحياة، عنونت المونودراما الأولى بــ: ( مقامات الجرح) ووسمت الثانية بعنوان: (صمت له كلامه)، وبهذا فإني أقدم هذين العملين التجريبيين كتابة، ومعنى، وتخيّلا، ولغة بلغتي، وأسلوبي فصارا بموضوعيهما ينتميان إلى البنية الدرامية بعد أن دخلا في حوار الذات مع الذات، واتخذتا أثناء كتابة الشخوص المتخيلة موقعهما في مونودراما جعلتهما يقومان بعدة أدوار تؤثث زمن الفرجة وفق ما هو مكتوب باللغة المنطوقة في حوارات، أو وفق ما هو مكتوب بعلامات الفرجة.

في مسرحية (مقامات الجرح) توجد امرأة وحيدة  تريد أن تحكي قصة حياتها، وتقدم معاناتها، وتفصح عن اللحظات التي تؤرقها، وكلما أرادت ترتيب أفكارها، إلا ويجرها الحكي إلى استحضار زمن الطفولة بكل براءته، وشقائه، ويقودها إلى الحديث عن عزلتها في مجتمع ينظر إليها ككائن من الدرجة الوضيعة، لأنها أنثى محاصرة بتقاليد مجتمع مغلق على نفسه، تحكم عليه العلاقات بمنطق الميز بين الرجل والمرأة فيقودها التدرج في الحكي  إلى أن إقناع نفسها بأن الحكي البليغ هو استعادة اللحظات الهاربة من ذاكرتها المجروحة، وترتيب عناصره القوية بالدلالات الذاتية والمجتمعية، امرأة ربت نفسها على تحدي الظروف، والمعيقات، وعوامل الإحباط إلى أن انتزعت اعتراف المجتمع الذكوري بحقوقها، واعترف بها المجتمع كمقامات تربط بين حالاته، وحالاتها بعد أن أصبحت بعد طول معاناة، وسهر، وحرمان ممثلة في فرقة مسرحية تتألق معها يوميا من أجل إسعاد الآخرين وهي تتحدث عن مواجعهم.

عاشت هذه المرأة في حكيها كل الأزمنة الملتهبة التي اكتوى بها مجتمعها، الظلامية، وتصفية المفكرين، واغتيال المسرحيين، وإيقاف حركة المجتمع بالترهيب والترغيب، امرأة تفصح عن حالات الخوف المسيطرة عليها وعلى الناس، إلى أن توقفت عن العطاء الفني بعد أن حكم عليها القدر، والظروف بالتوقف عن العمل الفني بعد أن فقدت من كانوا يشعلون شمعة الحب، والتواصل مع الناس.

في كل حكاياتها تريد أن ينجبر الكسر، ويلتئم الجرح، وفي حب العودة إلى الحياة كانت تذكر من رحل من المجاهدين، والفنانين، والأحبة، لكن المعيق الجسدي الذي يحول بينها وبين الحركة هو الذي عزّز فيها إرادة التحدي، والبقاء، والعودة إلى الحياة للتواصل مع العالم كإنسانة، وكفنانة،وامرأة هي واحد في هذا الكل.

أما في مسرحية (صمت له كلامه) فهناك امرأة عمياء تريد أن تحكي ما بها، وكلما اقتربت من البوح بحالاتها إلا وتداخلت شخصيتها بشخوص أخرى تحمل نفس المعاناة فيتخذ الحكي مسارات أخرى.

النص خال من كل تحديد دلالي للمكان وللزمن، هناك ـ فقط ـ الخلفية التي تتحول بإشارات توحي بآمتداد الآفاق في المطلق وكأن حالات المرأة هي التي ترسم إشاراتها.

الكتابة تجريبية، والإخراج تجريبي، والسينوغرافيا هي الكتابة الممكنة لكل ما يشكل جمالية الصورة، والحركة، والتواصل بكلام هذا النص.المسرحية عبارة عن مونودراما تسبر بكلامها حياة امرأة تكلم عذابها، وحالاتها ، ويبقى مخرج هذه المونودراما هو الكاتب الثاني لهذه الحالات حسب رؤيته لهذه التجربة الكتابية، وإبداعه لها.

مونودراما (مقامات الجرح)، ومونودراما (صمت له كلامه) كتابة منفتحة على قضايا المرأة العربية بطروحات بدأت من العام لتصل إلى ما هو خاص، أي بدأت من المحدد لبلوغ المطلق، فبعد أن وضعت استراتيجية خاصة لكتابة هذين النصين في بنية مونودرامية، فقد كنت أتطلع إلى جعل البعد الإنساني حاضرا في معاناة كل بطلة من بطلات هذه المونودراما مقاومة لكل ضجر يفضل حالة السكوت عن لغة الكلام، وهو ما أضفيت عليه لغة رمزية لها إيحاءاتها الخاصة، ولها أسلوبها الذي يبقيها وثيقة الصلة بالواقع العربي.

 

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *