لبنان بلا متاريس..

قد تكون مسرحية «بيروت.. الطريق الجديدة» هي المسرحية الأولى من نوعها التي تعرض لتاريخ منطقة من لبنان في كل أطوارها وتحولاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية

منذ بداية الخمسينات وحتى لحظتها الراهنة. لم يغفل كاتب المسرحية ومخرجها الشاعر والمسرحي يحيى جابر أي مظهر في حياة قاطني الطريق الجديدة، فنقل الى المسرح عاداتهم وتقاليدهم وتبدلاتهم السياسية واهواءهم، داخلا الى كل شوارعها وأحيائها من الفاكهاني الى حمد الى السبيل وصبرا والجامعة العربية.

 

«بيروت.. الطريق الجديدة» هي باختصار حياة اهلها وحكاياتهم. العلني منها والمعروف بالنسبة لسائر ابناء الوطن، والمنسي والمهمل الذي نبشه جابر. يخرج مشاهد المسرحية بانطباع أنه لو تفاعل اللبنانيون مع أحداث هذه المسرحية على ارض الواقع كما حدث في المسرح، لما احتاجوا الى بناء متاريس ورسم خطوط تماس فيما بينهم. ساعتان من الضحك المتواصل كانت خاتمتهما دمعة حنين إلى زمن كان كل شيء فيه بريئا حتى النزاعات والخلافات.

إضافة نوعية

«بيروت.. الطريق الجديدة» اضافة نوعية الى نتاج يحيى جابر المسرحي، وهو سبق ان كتب وأدى عدة مسرحيات مثل «ابتسم انت لبناني» و«يللي خلق علق».

في مسرحيته الحالية يعتمد جابر على توثيق الحدث الاجتماعي والسياسي والتاريخي، بالاضافة الى العادات والتقاليد من خلال سير شخصيات عادية، كأنه يعيد الحق في كتابة التاريخ الى الناس. هذا النوع من الكتابة يتطلب جهداً يفوق جهد التأليف، كون الكاتب لا يترك مجالاً للتأويل لأنه ينقل الحقيقة عارية كما هي. اخراجياً لم نلحظ استخدام اي تقنيات معقدة، لان الاعتماد كله على النص والاداء، فلا مؤثرات بل مجرد تنويعات صوتية أداها طارق بشاشة ويمنى مروة، فالرهان كل الرهان كان على الذاكرة والخيال الخاص بها في مواجهة اللعب التكنولوجي الذي ساد مؤخرا في المسرح. هي مسرحية جسد ممثل يرسم تاريخاً ويرويه.

تنقلنا المسرحية في فصلها الأول الى حيّ من أحياء الطريق الجديدة متجولة بين عائلاتها الأصلية والوافدة (آل عيتاني وفروخ وسنو وطبارة والداعوق)، بأفراحها واحزانها، بعلاقاتها المتشابكة والمتداخلة اجتماعياً وطوائفياً، سنة وشيعة ومسيحيين ودروز، بتفاصيل يومياتهم العادية وبتفاعلهم مع قضاياهم الوطنية والعربية التي كانت تطبع حياتهم بصيغها المتنوعة. من مشهد الى آخر، نتابع طقوس اهل بيروت وشعائرهم في يومياتهم الرمضانية والموالد الدينية والاعراس والمآتم، نستعرض صبحيات النساء التي هي أشبه بـ «مراكز المخابرات»، حيث لا يفوتهم اي تفصيل في المنطقة، وقصص الحب والغزل بين صبايا وشبان المنطقة بحفلاتهم والعابهم..

بطل بكل الوجوه

شخصيات المسرحية التي أداها كلها زياد عيتاني، هي أبناء الطريق الجديدة الذين ينتمون الى تلك المنطقة والذين قد نصادفهم في اي لحظة. «ابو العبد» هو الذي يروي تاريخ المنطقة. «جميلة الداعوق» ابنة اولى العائلات البيروتية التي ترفع عبارتها الشهيرة في وجه «ام علي» كلما سنحت لها الفرصة «انتي بالذات ما تتدخلي يا أم علي»، الشيخ اللبابيدي امام جامع الحوري الذي أراد تحرير فلسطين بسيفه. «الترك» هو الشخصية الاكثر التصاقا بالشارع والناقم على أوضاعه الحياتية متسلحاً بجملته الشهيرة أمام كل أزمة تعترضه «ما الله بس عالفقراء».

في الفصل الثاني من المسرحية يحاول جابر رسم الخريطة السياسية راوياً تاريخ المنطقة السياسي من أيام صائب سلام وجمال عبدالناصر الذي افتتن به أهل الطريق الجديدة، ومشوا في جنازة رمزية يوم وفاته، إلى «ابو عمار» الذي قدمت الطريق الجديدة تحت ظله اول شهيد لبناني للقضية الفلسطينية، وهي التي احتضنت المقاومة الفلسطينية في الثمانينات. الى ابراهيم قليلات وحركة «المرابطون»، وصولاً الى رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، الذي أولى المنطقة اهتماماً معتبراً، فصارت معقلا لتيار المستقبل ولحظة اغتياله نزلت بأمها وابيها في تشييعه..

«النجمة» و«الأنصار»

الطريق الجديدة كانت تسلك كل مرة مع احدى الزعامات السياسية الوطنية والعربية درباً جديداً الى التنميط، وتضع نفسها في اصطفاف واضح لا لبس فيه في تأييدها تياراً سياسياً، شأنها في ذلك شأن مناطق مختلفة من لبنان كالضاحية الجنوبية لبيروت او الجنوب اللبناني. تمايز أهل الطريق الجديدة تدرج صعوداً قبل بروز التيارات السياسية. لكنه كان يتمظهر من خلال فريقي كرة القدم «النجمة» و«الانصار» اللذين خصهما جابر باسكتش مميز لم يخل من الانتقادات الساخرة التي طالت الفريقين ومن وراءهما.

أدى المسرحية ابن الطريق الجديدة زياد عيتاني في أولى تجاربه. عيتاني، الذي شكل اداؤه مفاجأة للجمهور، كما وعد يحيى جابر، كان ينتقل بخفة ورشاقة على المسرح كانتقاله من شخصية الى اخرى. على مدى ساعتين هي مدة عرض المسرحية، احتفظ عيتاني بقدرته على الاستحضار البصري وعلى خلق مشاهد كاملة، انطلاقا من حضوره على المسرح، كأنه لا يمثل بل يدفع بنا في اتجاه مشهد ما وكأنه دليل سياحي.

التجربة الأولى

لا ينكر زياد عيتاني أن عاملي الانتماء والمعرفة بالمنطقة ساهما كثيراً في دفعه الى خوض أول تجربة له على خشبة المسرح، «لكنهما غير كافيين». فهناك عوامل أخرى قادته الى مثل هذه المغامرة، وهي مغامرة ناجحة بطبيعة الحال، حيث ان أسباب النجاح الاساسية تعود في نظره إلى الرسالة والنص المحبوك الذي أبدع فيه يحيى جابر، حيث أعاد صياغة روايات سكان المنطقة التي قصدها برفقته وجال في أحيائها سيرا على الاقدام عدة مرات.

شخصيات المسرحية شاهدها وتحدث اليها عيتاني منذ تفتح وعيه في تلك المنطقة، هم اهله وجيرانه وسكان منطقته مما سهّل عليه اداءها نوعاً ما، ولكن هناك شخصيات مركبة مثل «ابو العبد» الذي جمع يحيى جابر تاريخ المنطقة وسيرتها في شخصيته و«هذا الامر يحتاج لابتداع شخصية لم اعايشها وهنا كان الجانب التثميلي والمشهد الاخير هو مشهد صعب ايضا احتاج لاداء لا لعملية تقليد».

 

انديرا مطر- بيروت

http://www.alqabas.com.kw

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *