المسرح ما بعد التغيير.. أزمة وطموح (2-2)

يعد الحاضر واقعا لا يسعف في تقييم منتجه المسرحي بعد التغيير وذلك تبعا لمعطياته التي لم تخلق لنا نماذج إبداعية للقياس والبرهان على انبثاق بنية

 

تحية جديدة تنقل المسرح لعالم رحب فيه من الحرية والديمقراطية التي تنشدها الثقافة عموما و مسرح ما بعد التغيير خصوصا. لأن الربيع العربي المفترض مازال يفور فيه التنور ربيعا دمويا . لقد كان متوقعا في بلدان مثل مصر وسوريا وتونس ,تلك البلدان التي كان نمو وتطور المسرح فيها لافتا للنظر في نشاطاته ومهرجاناته وتجريب مسرحه من الدايناميكية المحركة لبقية البلدان العربية. ولكن ربيع تلك البلدان جعل من السيوف الجديدة ساحات موت وخراب قد يعيدها لعصر الظلام ولذا فلن يعود المسرح فيها قريبا, ولكنه لن يموت وبذلك يحتاج إلى معاناة حقيقية لإزاحة القبح الذي تحدثت عنه وصولا إلى الرشد الثقافي الجمالي الآتي. 
من هنا بات واضحا أن النشاطات المسرحية التي تقوم بها بعض دول الخليج العربي متمثلة بدولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان ,و الكويت يضاف إلى الأردن الذي بدأت نشاطاته ومهرجاناته المسرحية بالتميز نظرا لمنظومة المدنية الحضارية التي أعطت بنيتها التحتية حالة الاستقرار و وصولا للعراق الذي كان من المتوقع لمسرحه أن يؤسس لدائرة معارف مسرحية في ظل التغيير أو ما بعده ويبني حاضرا مسرحيا اعتمادا على مخزون الإبداع الذي كان محبوسا لسنين عجاف عند مبدعيه الرواد والشباب , ولكنهم لم يستطيعوا بناء حاضر جديد لمسرح ما بعد التغيير بالرغم من أن المسرح العراقي ومنذ بداية السبعينات كان سباقا في التجريب أيضا. والسبب هو أنهم كانوا يمشون على كومة من الرمال المتحركة ويعيشون فوضى الدهشة التي سلكها المجتمع في اللاإنتقائية غير الخلاقة : فمن دهشة الموبايل وتحديثاته إلى الفضائيات والمسلسلات التركية إلى موضات الأزياء النسائية والشبابية وصولا إلى الكم الهائل من أنواع الموديلات من السيارات التي ستخصص لها يوما حرية السير على الأرصفة نظرا لما ضاقت بها الشوارع ذرعا. أما الأكثر حزنا هو كثرة الانفجارات والقتل المجاني الذي حصد آلاف الأبرياء وغياب البنية التحية التي تؤسس للمجتمع الجديد .كل هذا وأكثر منه جعل حاضر المسرح مضببا لا تنفعه مضادات أو مسكنات أو أية عقاقير ينتهي مفعولها بانقطاع التيار الكهربائي وطنيا كان أم محولة .
إن التجارب القلقة التي قام بها منتدى شباب المسرح التجريبي والتي تؤشر لأفق جديد لما فيها من الحرية والاستفزاز الفني والتي اعتمدت على النص المكتوب قبل التغيير بمعالجات جديدة وبعض عروض المسرح الوطني يضاف لما تقدمه المحافظات من عروض مسرحية فقيرة الإنتاج ومهمشة من العاصمة التي لا يحظى مسرحها الوحيد بمنهاج مسرحي سنوي كل هذا وغيره من المثبطات لا يدلل على أن حاضر المسرح الذي غاب عنه جمهوره المرعوب بهاجس الأمن يستطيع أن يؤشر لقيام مستقبل زاهر والقياس يحمل مغالطة إذ لا يوجد ما يؤهله من برهان ولكنه يحمل قياسا فلسفيا بكون: إذا كان الحاضر غائبا ..والمسرح غائبا.. إذن مستقبل المسرح غائب.
يقين القول هو أننا قبل كل شيء إن أردنا بناء مستقبل للمسرح العراقي , فإن الحاضر قلق في حيثياته المعروضة على واقع مضبب وغير مستقر . واقع لم يستطع حاضره أن يؤسس لتقاليد مسرحية ناجحة يواظب المتفرج فيها على حضوره المسرح كعادة ثقافية اجتماعية جمالية فنية فيها من المتعة والدهشة والإثارة والتذكر والتفكر, وسببه الأول هو غياب منظومة الثقافة والفن التي تعد منهجا تقليديا احترافيا رصينا لا يتأثر بعوامل التعرية السياسية , لا في دوائر المسرح الحكومية وأقصد التي تملكها الدولة وهو واحد مع الأسف, ولا في الجامعات والمعاهد التي يفترض بها أن تقدم منهجا ونظاما ( اليبرتوار) لسير العملية المسرحية المتكاملة التي تهيئ المتخرجين المتميزين المبدعين لعالم الاحترافية والتي تقودهم قيادة فنية مركزية كأن يكون مركز دراسيا ميدانيا للفنون المسرحية العلمي يمكن أن نطلق عليه ( مرجعية المسرح العليا) الذي يقرر نهجا ونظاما لسير وتطور العملية المسرحية العراقية ومنجزها الفني والجمالي ذو المستوى المتطور والذي يحاكي مستجدات المدنية وحضارة الثقافات الحديثة في العالم ويتميز بالتنوع كما حصل في تنوع مسرحيات( برودواي وخارج برودواي) في نيويورك .ولذا فإن الحاضر لابد له من تكوين تلك المرجعية كي تعتمد قراراتها في تأسيس حاضر متين. إذن هناك أزمة و صراع والمسرح قائم بجملته على صراع الأزمات التي تسود حاضر الوطن بعمومه , أما المسرح العراقي وحتى العربي وبعد هذا التغيير النوعي المسكون بصراعات السلطة ومحاولة تقسيمه وللأسف لم ينتقل إلى الواحات الفسيحة في إثبات جنسيته التي نبحث عنها إلا حينما يغادر صحراويته المجدبة حاليا وذلك بمساعدة الدولة التي تريد أن تبني البنى التحتية المنهارة ولابد أن يكون هاجسها هو بناء منظومة فكرية وعملية للنهوض بواقع المسرح المتصحر كما تفكر في بناء منظومة الكهرباء والتعليم وبناء مدنية وحضارة جديدة لسعادة العراقي. إننا وعلى جميع الأصعدة نعيش حالة تصحر وعراك سياسي لا يسمح للدولة أن تلتفت فيه لتأسيس نظام مجتمعي جديد ولذا نجد المسرح العراقي وبما قدم من إنجازات تذكر في تاريخه الطويل أصبح هو الآخر يعاني من هذا العراك بالرغم من مساحة الحرية التي فتحت أبوابها مشرعة على التجريب وغيره من الاستنساخات التي سميت خطأ بالتجريب الذي ليس له علاقة بالاستكشاف الفني والمسرحي المنشود بقدر ما هو استنساخ رديء غيبت فيه معالم المجتمع العراقي وأصالته .والسبب يعود لفقدان المرجعية الفنية شبابية كانت أم روادية أم مؤسسات حكومية .
السؤال هو : هل استفادت المؤسسة الثقافية من البحوث التي قدمت خلال الفترة ما بعد التغيير وحتى الآن في عمل ورشات ومناقشات دراسية تخرج بها بورقة عمل تشكل خارطة طريق لحاضر المسرح العراقي ؟
أم هل رممت بعض البنايات المهملة والمتروكة في بغداد أو المحافظات لتستخدم في العروض المسرحية لتسهم في تفعيل وتنشيط الحركة المسرحية الحاضرة ؟
أما على صعيد القطاع الخاص : هل فكر أحد من أصحاب رؤوس الأموال أن يشيد مسرحا كالذي يشاهده في زياراته لدول الخليج العربي وليس لأوروبا ؟
الجواب على جميع الأسئلة كلا .. لماذا ؟؟ والسبب هو : لا ضمانات لمثل هكذا مشاريع في الوقت الحاضر . وسبيلنا هو أن نقترح سبلا لنجاح مسرحنا ما بعد التغيير وأن تتحمل المسؤولية النخب المحترفة مع الدولة من أجل ينمو الغصن أخضر في صحراء المسرح الحاضر لينشر خضاره ربيعا ثقافيا ومسرحيا في العراق.

مقترحات الحاضر والمستقبل لمسرح ما بعد التغيير
لكي نعيد لمسرحنا العراقي عافيته ونهضته الجديدة في ظل الحرية والديمقراطية المنضبطة كنظام حياتي واعد فاعل في العراق الجديد علينا جميعا مسؤولية مشتركة في تحقيق نهضة إبداعية في الثقافة والفنون والعلوم وكل عناصر ومنظومات المعرفة لخدمة مدنية المجتمع عموما وكل من اختصاصه ومن خلال تأسيس بنى تحتية قادرة على التفاعل مع شعبها وجماهيرها وصولا للمجتمع المدني الواعد .لذا نقترح بعضا من المقترحات العملية التي تفيد الحاضر لنبني له مستقبلا رصينا يحمل جنسيته الوطنية وينفتح على تجارب العالم في أصدق حوار للحضارات الحقيقي وليس عن طريق المقابلات التلفزيونية الدعائية التي لم نحصد منها موسما مسرحيا بعد.
1- أن ترصد الدولة في ميزانيتها بناء مسارح عالية الجودة والكفاءة في بغداد والمحافظات ولا تحجب أو تتمنع عن بذل ما يستحقه مسرح المحافظات وأهله من المبدعين والمتلقين حيث يصبح العمل المسرحي الإبداعي في العاصمة والمحافظات متساويا وحسب طبيعة كل محافظة ونشاطها الإبداعي .وهذا ما شاهدناه مثلا في الولايات المتحدة الأمريكية فبالرغم من أن واشنطن هي العاصمة ومركز القرار السياسي ولكن مراكز الإبداع الفني المثيرة والمستفزة تتركز في لوس أنجلوس وشيكاغو ونيويورك وغيرها من الولايات .
2- من أجل تحقيق البند الأول نقترح تأسيس ورشة عمل وزارات مشاركة في بناء المسارح تتوزع على وزارة الثقافة , وزارة التعليم العالي , ووزارة الشباب والرياضة وذلك لدورهم المميز في دعم الشباب ورفع ذائقة المتلقي العراقي بإبداع منظم ملتزم بضوابط الفن العالي الصنعة والاحترافي الممنهج طالما أنها وزارات لها تماس مع الجماهير وبمختلف الأصعدة والمعايير.
3- تأسيس برلمان مسرحي أو مجلس أعلى للمسرح يقوم على صياغة مرجعية تؤسس لجنسية المسرح العراقي المميزة في المنجز المسرحي التقليدي والتجريبي من خلال تشجيع المؤلف المسرحي الجديد في تناول المواضيع العراقية التي يزخر بها العراق حيث يتعرف المتلقي على المسرحية أو هوية المسرح العراقي مثلما هو في المسرح الألماني والروسي والفرنسي والإنكليزي والأمريكي ويبقى الباب مفتوحا في تناول بعض جنسيات المسرح المذكورة من أجل تحقيق جسر متواصل في الإبداع. يعمل المجلس أربع سنوات ثم يصار لانتخاب مجلس جديد يضيف على ما أنجز ولا يلغي الحاضر بحجة أن المجلس الجديد سيبدأ من الصفر.
4- العمل جديا على إعادة درس الخطابة والتربية الفنية والمسرح في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية لما له من أهمية في تنمية القدرات العقلية الإبداعية ومنح الثقة بالنفس في الحديث ومناقشة الآراء والإصغاء وتقبل الرأي الآخر والتعويد عليه منذ الصغر لصقل الذائقة الفنية والثقافية والعلمية ويسهم في بناء شخصية الفرد العراقي. وهذا جزء من بناء بنية للإنسان العراقي الجديد.
5- تفعيل نظام الريبرتوار الجامعي حيث تقدم الجامعة كل عام موسمها المسرحي في كل محافظة توجد فيها كلية للفنون الجميلة وذلك لترغيب الجمهور بارتياد المسرح لتحقيق التفاعل مع الجمهور وتنشيط ذائقته الفنية والمعرفية من خلال العروض الكلاسيكية والتجريبية مع فسح المجال لولادة الممثل المبدع والمخرج المبدع الذي سيقود بالمحصلة في بناء مستقبل المسرح في زمن التغيير. شرط عدم تزامنه في نفس الوقت الذي يقوم فيه المسرح الوطني بتقديم برنامجه المسرحي المحترف.
6- إرسال مبعوثين في مجال السينوغرافيا والتكنيك المسرحي ( إنارة, ديكور, موسيقى, ماكياج) بدورات قصيرة الأمد خارج العراق لصقل قدراتهم وتطويرها والاطلاع على جديد التكنلوجيا في عالم المسرح وتجاربه المتطورة. مع رفد الحركة المسرحية في تخصيص زمالات أو بعثات فقط بالنقد المسرحي المنهجي الاحترافي لا النقد المسرحي الصحفي وذلك لتأسيس وتصحيح حركة النقد الموضوعية والتي تساعد على تطوير أدوات المبدعين على المسرح أكاديميا إلى جانب ما تقدمه النقود الصحفية التي لا يستهان بقدراتها الإبداعية.
7- إقامة مهرجانين مسرحيين الأول للمسرح العراقي الكلاسيكي والتجريبي والثاني للمسرح العربي حيث يضيّف المسرح الوطني بعض أعمال المسرحيين العرب مع عقد ورش عمل وبحوث دراسية تمنح فيه جوائز مجزية للفائزين حيث يعد هذا المهرجان عملا إبداعيا تسويقيا إعلاميا للتعريف بالمسرح العراقي بعد التغيير و مدى تطوره. 
8- إقامة مؤتمر سنوي لمؤلفي المسرح العراقي ومناقشة طموحات النص الجديد مع تقييم نصوص المؤتمر بجوائز مجزية وإحالة النصوص الفائزة لمخرجين المسرح الوطني أو كليات الفنون الجميلة لإنتاجها ثم تتولى وزارة الثقافة طبع النصوص المسرحية بكتاب سنوي يخصص 50% من ريع المبيعات للمؤلف و50% للوزارة ويسوق في معرض الكتاب داخل وخارج العراق.
9- على الوزارات المعنية ترجمة الأطروحات المهمة والمتميزة في علميتها وموضوعها من حملة الدكتوراه الذين درسوا خارج العراق شريطة أن تواكب زمن التغيير للاستفادة منها ككتب دراسية أكاديمية تتعلق بالإخراج والنقد الفني وما تحمله من قيم إبداعية مع تقديم مكافآت مالية مجزية لصاحب الأطروحة المميزة ولقيمتها العلمية والفنية .
10 – العمل جديا على تحديث البرنامج أو المنهج الدراسي للمرحلة الأولى من كليات الفنون الجميلة في درس التمثيل والبدء بالطراز الواقعي القريب من ذهنية الطالب المبتدئ ليحاكي واقعه وواقع الفن التمثيلي أداءً ولا يتقولب في الطراز الكلاسيكي الإغريقي . كما نقترح أن يكون هذا الطراز هو في مرحلة متقدمة لأن تعويده على الأصعب يشكل عرجا في ثقافة الممثل المبتدئ .
11- لا قيمة للبحوث والدراسات المقدمة من قبل الباحثين إن لم تترجم عمليا ونرى مردودها الفعلي في مسرح ما بعد التغيير.

الخاتمة:
لقد تطرقنا في هذا البحث المتواضع وبمزيد من الاختزال لحركات أو ثورات الربيع العربي التي كان لابد لها من أن تسهم في تنشيط وتثوير إبداعات الإنسان الذي كسر حواجز الصمت والقمع والاضطهاد الخريفي الذي طال أمده كي ننتقل لربيع الأمل والحرية والازدهار , ولكن الربيع العربي سرق وتحول لربيع دموي دفعت ثمنه الشعوب العربية التي تقطعت فيه سدى ولحمة الإنسان والثقافة والمسرح . وضربنا أمثلة على انكسارات وإنحسارات المسرح ولكننا عرفنا من التاريخ أن المسرح عاد ثانية بجواز مرور جماهيري لأنه يمثل حاجة المجتمعات المتطورة والمدنية .كما اختصرنا حاضر المسرح العراقي الفقير المبني على عدم استقرار البلاد وعدم المباشرة في إعادة البنى التحتية لمجتمع مستقر. حيث إن استقر المجتمع بجميع منظوماته يكون التوق والمطالبة والإقبال على المسرح حاجة كحاجة الفرد للعيش الحر الكريم .الذي أراه أن مسرحنا الواعد إن تحمل الجميع شرف وصدق بناء الوطن والولاء التام له سيكون المسرح حاضرا ومستقبلا يستقبل مبدعيه روادا وشبابا لأن النقطة الأهم في المسرح والعاملين الفاعلين المبدعين المفكرين الناشطين فيه أن يخرج المسرح من أزمته ليحقق طموحه في أن تكون له هوية عراقية كينونة وكيانا . ولعلنا نعلنها وبالرغم مما تحفنا من أزمات لكن مسرحنا أصيلا ولن تجد فيه مكانا طائفيا أو قبليا قط وتلك هي سمة المسرح العراقي سواء الحاضر منه أو المستقبلي, الذي يفتح أبوابه على تجارب المسرح العربي والعالمي بروح المعرفة والجمال الإنساني.

 

د. عبدالمطلب السنيد 

2-2

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *