المسرح متمرداً على التراجيديا التقليدية

شكلت مسرحية “النورس”، للأديب والطبيب الروسي أنطون تشيخوف (1860 1904)، منعطفاً بارزاً أو ثورة في مفاهيم المسرح الحديث ومبادئه، سواء في روسيا أو في الغرب، خلال القرن التاسع عشر. وتمثلت هذه الثورة في حجب التراجيديا التقليدية عن خشبة المسرح، المتمثلة في الفعل وردة الفعل، لتبقى ضمنية، ولتأخذ الكلمة دوراً حركياً في أبعاد معانيها.

 

 

تتضمن “النورس”، الكثير من الأدب والقليل من الحركة، وعلاقات حب شائكة ومركبة بين شخصيات المسرحية، التي تضم أربع نساء وستة رجال، ضمن خمسة محاور.

كما تتالى مشاهد فصولها الأربعة في إحدى العزب الريفية الروسية، على ضفاف بحيرة. ويتكشف للقارئ أو المشاهد، من خلال تلك العلاقات، أبعاد الشخصيات والصراع فيما بينها، من جهة. وبين طموحاتها ونزعاتها، من جهة أخرى.

أسرة العمل

ولفهم أبعاد المسرحية ودوافع اعتبارها من الأدب الإنساني الكلاسيكي، نستعين بدراسة وتحليل الناقد صبري حافظ، الذي لخص المحاور الخمسة لعلاقات الحب الشائكة بين شخصيات العمل: السيدة آركادينا شقيقة صاحب العزبة سورين (وهي الممثلة الشهيرة التي بدأت خطوط الزمن تظهر على محيّاها وفي تصرفاتها).

ولدها الكاتب المسرحي تربيلوف، صديقها أو عشيقها كاتب القصص تريغورين، نينا ابنة العزبة المجاورة التي تحلم في أن تصبح ممثلة، العائلة التي تضم الشابة الكئيبة ماشا ابنة السيدة النرجسية بولينا وزوجها شامراييف مدير العزبة، صديق العائلة الطبيب دورن العاشق للأدب، المدرس ميدفيدنكوف.

محاور الحب

لخص حافظ محاور الحب تلك في خمسة مثلثات: الأول بين أركادينا وتريغورين وتربيلوف، والذي يختصر العلاقة التي تجمع الحب والكراهية بين الأم وابنها، والمتمثلة في عدم اعتبار الأم لموهبة ابنها وقدراته، وغيرتها الكامنة، من قدراته. وتوق الابن للاستئثار بحب والدته واعترافها بموهبته، وغيرته عليها من تريغورين، وحالة السأم بين تريغورين وأركادينا.

أما المثلث الثاني فيجمع بين نينا وتربيلوف وتريغورين. وفي هذا المثلث، يدمر تريغورين، بدافع شعوره بالملل، علاقة الحب بين الشابين، نينا وتربيلوف، المتشابهين في طموحاتهما، لتقع نينا في غرامه من منظور الانبهار بفكره وحديثه، بينما تتحطم آمال تربيلوف الذي يفقد ثقته بنفسه كإنسان ومبدع، ما يزيد من حنقه على تريغورين الذي يستلهم قصصه ممن حوله، من دون أي جهد.

ويجمع المثلث الثالث، بين ماشا وتربيلوف والمدرس ميدفيدنكوف. إذ تُغرم ماشا بتربيلوف، وتعد حبها له وسيلة الخلاص من الحياة الباهتة التي تعيشها، بينما يجد المدرس العاشق لماشا، أن تربيلوف هو غريمه. ويعزو فشله في كسب ودها، إلى مكانته ودخله المتواضع.

وحين تيأس ماشا من تربيلوف تتزوج من المدرس لتعيش حياة باهتة، وليتحمل ميدفيدنكوف كافة مسؤوليات الزواج والابنة. وبذا تكرر ماشا حياة والدتها بولينا.

في المثلث الرابع، تحاول بولينا الأم استعادة علاقة العشق السابقة مع الطبيب دورن، الذي يرفض محاولاتها، بينما يتحمل شامراييف الأب كافة مسؤوليات الأسرة، بلا أية مشاركة من زوجته بولينا. وأخيراً، يشمل المثلث الخامس: نينا وتريغورين وأركادينا.

كوامن ونزعات

يتجلى من هذه المحاور، الألم الدرامي الذي تعيشه كافة الشخصيات، من كتاب وفنانين ومبدعين وأفراد من مجالات وفئات متنوعة، جراء الحب. ونتعرف من خلال الحوارات بين الشخصيات، على كوامن ونزعات كل شخصية عبر تفاعلها ضمن أجواء مجتمع أعلى من شأن الادعاء والتشدق والعبثية.

فالبراءة تُسلب بدافع الهرب من خواء الروح، والغيرة تحطم الموهبة، والحب غاية في حد ذاته لتتحول الحياة إلى العدم بفقدانه، والشهرة المعيار الوحيد للنجاح. وهناك الغرور الذي يطغى على الطموحات ويحد من تألق مواهب أصحابها.

غياب الوعي

يفترق الجميع بعد تلك الزيارة، ليمضي عامان قبل لقائهما مجدداً، ويدرك القارئ أو المشاهد أنه خلال هذين العامين لم يستطع تربيلوف نسيان نينا، على الرغم من نشره لعدد من أعماله، بينما لم تتمكن نينا من تحقيق أحلامها في الشهرة لتصبح ممثلة مغمورة في بعض الفرق المسرحية الجوالة، إلى جانب تخلي تريغورين عنها في موسكو بعد أن اتخذها عشيقة له، إلى حين.

تتسلل نينا إلى العزبة لتلقى تربيلوف بمفرده في مكتبه، ويتجلى من الحوار بينهما ما حققه كلاهما خلال فترة الغياب. وهنا يتكشف إدراك الذات عند نينا وغياب الوعي لدى تربيلوف.

فنينا تستعرض أمامه رحلتها الفنية، لتربط مجدداً بين حياتها وبين طائر النورس، الذي كانت تُشبه نفسها به فيما مضى لدى زيارتها البحيرة في عزبة سورين، كتعبير عن الشعور بالحرية، إلا أنها بعد عودتها تشبه نفسها بالنورس الذي لا وجهة له في الحياة، حيث أدركت أن مضمون الحياة يكمن في تحمل تقلباتها والتطلع إلى المستقبل، من خلال قيمة السعي والمثابرة، اللذين لا يحملان بالضرورة، الشهرة.

وهنا يتجلى فارق الوعي بين الطرفين، إذ لا يزال تربيلوف عالقاً بإرادته في حلقة الحب المفقود، التي لا يرغب في الخروج منها ذلك غاية رؤية الحياة من حوله. وليبقى بهذا، أسير حلقة التعاسة هذه…….. العديد من الشخصيات المكبلة بنوازعها الذاتية، والتي لا تدرك أن أوهامها حالت دون فرص السعادة التي يمكن أن تمنحها الحياة لها في كل لحظة وحالة.

رمزية النورس

وفي حين تعاملت نينا مع النورس كرمز للحياة، منذ البداية وحتى النهاية، فإن تربيلوف تعامل معه كرمز للموت. إذ اصطاد هذا الطائر وقدمه إلى نينا في بداية علاقتهما، كتعبير عن حبه لها واستعداده لقتل نفسه لأجلها، ليقوم بعد عودة نينا، بقتل نفسه لإدراكه استحالة العودة بسبب اختلاف تطلعاتهما بين السعي المستمر كغاية في حد ذاتها، وبين الشهرة والحب كهدف مطلق.

سيرة

أنطون تشيخوف (1860 1904). كاتب مسرحي روسي. وهو، قبل ذلك، طبيب وكاتب قصة قصيرة. يعد عراب المسرح العبثي في القرن التاسع عشر، وشكسبير المسرح الروسي. كما أنه رائد المدرسة الواقعية إلى أواخر القرن 19.

واشتهرت، على صعيد المسرح، أعماله الأربعة، التي لا تزال تعرض في أهم مسارح العالم: «النورس»- (1896)، «العم فانيا»- (1900)، «الشقيقات الثلاث»- (1901)، «بستان الكرز»- (1904).

وأعماله الخالدة ترتكز على الجانب الإنساني في الحياة، وفق أسلوب الكوميديا السوداء. وتناول فيها الموت والمرض. ونجد أن معظم أبطاله يعانون من مصير تراجيدي أو موت مفاجئ. والمرض عنده ناتج عن معاناة وصراع داخلي، من دون رثاء النفس. ويتبدى بمثابة رمز لتداعي المجتمع وصراعاته. ومعظم شخوصه مدفوعة دوماً، بقوى تفوق قوة إرادتها.

 

المصدر:

  • رشا المالح

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *