مسرحية المهابهارتا لبيتر بروك نموذجاً

مخرج مسرحي انكليزي، يعد من اقطاب المسرح التجريبي في النصف الثاني من القرن العشرين، اظهرت اعماله انتقائية عالية لأساليب التجريب، ومحاولات بناء شكل

العرض، الا انها في النهاية كانت البحث عن لغة مسرحية عالمية مشتركة عابرة للثقافات، حيث يتجه نحو كشف السري الحقيقي المحتجب خلف الاعتياد والمألوفية، وهو ما أسماه باللامرئي المقدس، واللاعياني المغيب خلف العياني المادي، وبواسطة (خلق الحالة الشعرية، اي تجربة حياتية مجاوزة ومفارقة، وذلك من خلال مؤثرات صادمة، وصرخات، ورقية سحرية، وأقنعة، ودمى، وملابس طقسية”2 وهو ما يطابق الى حد بعيد تجربة آرتو في مسرح القسوة، وهو ينطلق في ذلك من اننا (نحتاج الى مسرحية حقيقية، لطقوس حقيقية، طقوس تمد المسرح بالحركة وبالتجربة التي تغذي حياتنا) والتي لا تتحقق الا من خلال تدمير المعنى الذهني، وتهشيم عقلانية اللغة، والاشتغال على جوهر المعنى، والاعتماد على قوة التعبيرات البدائية، المحفوظة في اللاوعي الجمعي لعموم الجنس البشري، لتكون تلك التعبيرات البدائية هي اللغة العالمية العابرة للمحدد الثقافي، ويصف بحثه في ذلك بأنه (اعادة اكتشاف الفزع والرعب الكامنين في المسرح الأصلي ذي الطابع شبه الديني).
تستند التجربة المسرحية عند بروك الى إعادة انتاج الاسطورة وتشكيل ابعادها الميثيولوجية عصرياً، بهدف اطلاق فيض الطاقة في الطقس الأصلي، المرتبط بالنشوء الكوني وتشكل الوعي الميتافيزيقي به.
ان تجربة بروك في انتاج العرض المسرحي بالقراءة الاسطورية وبناء الشكل ميثيولوجيا تقوم على فروض علمية تملك مفاتيحها المفاهيمية، وتحديداتها الاصطلاحية، حيث تقوم تجربته الجمالية على اعادة انتاج وتشكيل العرض المسرحي انطلاقاً من مبدأ انعدام الزمن، فالاسطورة بوصفها مركبا ثقافياً جوهره الطاقة، وهي القوة التي تهندس الوعي بالمكان، وتحقق الزمان، هي مفاهيمياً تتقدم على مبدأ الزمان الرياضي، كونها علة الوجود والنشوء الكوني، التي طرحها العقل الميتافيزيقي.
ان الاسطورة وفق المقاربة الكوانتمية، هي مركب ثقافي المعادل الكوانتمي الاول فيه هو الطاقة، التي هي ارادة التصميم الهندسي للوعي، وهي قوة الفكر، وكل مكون في المركب الثقافي/ الاسطورة، له زمنه الخاص به وتاريخ عملياته الخاص به، وخارج ذلك المكون هو الفراغ، وهو الزمن الصفري.
وفي المركب الثقافي/ الاسطورة فان ارادة التصميم وقوة الفكر فيها هي تحقق زمنها وتاريخ عملياتها الداخلية، وخارج هذا المركب/ الاسطورة هو الفراغ، واللازمن الذي تسبح فيه ما لا نهاية من المركبات/ الاساطير.
ان عرض ملحمة المهابهارتا كما اعاد انتاجها مسرحياً بيتر بروك، من خلال الانبثاق الكوني للطاقة، التي هي ارادة التصميم، وقوة الفكر التي تهندس الوعي، عابراً المسافات الزمنية للزمن الرياضي، حيث كان الزمن في تجربة المهابهارتا زمناً صفرياً قابلاً لما لانهاية من الاحتمالات، وان تلك المتوالية الهندسية غير المتناهية الاحتمالات فيها، تسقط التراتبية الرياضية للعقل، ازاء الانبعاث المعاصر للعقل الميتافيزيقي، وتجربة الانغمار في وعيه الكوني الشامل الذي رافق هندسة الكون وانبثاق الحضارة.
ان صراعات التيتان الاولى، وانبثاق الهيولي وعالم مالا عين رأيت ومالا اذن سمعت ومالا يخطر على بال أحد، وصراعات كريشنا وشيفا وفيداس، وقرار المعاناة الكونية الاولى لفجر الخليقة، وانشطار الارض عن السماء، وانبثاق الوجود الاول، والفزع الاول، ان تلك المكونات بما تحمل في ذاتها من قوتها وطاقتها، وجدل عمليات التحول في مستويات الطاقة فيها، ذلك يطلق فيض الطاقة التي هي ارادة التصميم وقوة الفكر.
ان فيض الطاقة الذي ينطلق نتيجة جدل عمليات التحول في مستويات الطاقة لمكونات المركب الثقافي/ الاسطورة، ينطلق في حزم من الفوتونات، التي تعبر الفراغ لتشحن ذلك الفراغ بالطاقة، وذلك الانبعاث هو المعادل الكوانتمي الثاني وهو الموجة، التي هي قراءة التحليل، وهي علاقات تداخل حقول الطاقة لمكونات المركب الواحد.
ان المعادل الكوانتمي الثاني وهو الموجة، في المركب الثقافي/ الاسطورة، بوصفها (الموجة) قراءة التحليل تحقق المركب الثقافي بلاستيكا تشكيلية من خلال هندسة العقل الذي يعي الاسطورة، لينطلق من بعده الرياضي المتناهي، الى البعد الميتافيزيقي اللامتناهي، الذي يستحضر تجربة المقدس اللامرئي ويجعله واقعا مرئياً بواسطة فيض الطاقة التي تغمر الطقس في عرضها المهابهارتا.
ان تقاطع حقول الطاقة المنبعثة من المركب الثفافي/ الاسطورة في الفراغ مع حقول الطاقة للمركبات الاساطير الاخرى، يحقق المعادل الكوانتمي الثالث وهو التردد، وهو المعيار النقدي للانشاء والاصول المرجعية، وهو نتيجة تراكم قراءات التحليل، فالتردد قراءة نقدية هي معيار الانشاء الذي يستند الى ارادة التصميم من جانب، والتحقق من جانب آخر، حيث يتحدد المركب الثقافي/ الاسطورة، بلاستيكا تشكيلية، ووجود يمكن الوعي به كخطاب تأثري انفعالي جمالي، هو طقس العرش مهابهارتا.
ان التوظيف الميثيولوجي في عرض المهابهارتا لبروك هو استعادة واستحضار لطاقة المركب الثقافي/ الاسطورة المهابهارتا الهندية، ومن ثم الدخول في حركية استحضارات وانبثاقات تلك الطاقة بما يخرج الاسطورة من مفهوم تراتبها الزمن الرياضي بوصفها الماضي المقدس المستحيل، الى مفهوم الزمن الحاضر المستمر الذي لا ينتهي، فيكون فيه الماضي، ولا يسكن فيكون له مستقبل.
ان بروك تعامل مع الاسطورة خارج بديهية جدل التاريخ، والتعاقب، ومبدأ التحقيب للزمن، والانقطاعات ما بين الحقب الزمنية، والتاريخية، والحضارية. فهو يرى ان الاسطورة كمركب ثقافي جوهره طاقة، هي متحركة تسبح أزلياً في فراغ في الزمن الصفري، لذا هو يستعيد الاسطورة باستحضار الطاقة التي هي جوهر الاسطورة، وعبر فضاء الطقس، وبذلك ينفي عند بروك في التوظيف الميثولوجي في عرض المهابهارتا مبدأ الزمن، ومبدأ المكان، وهو بذلك يعبر الى ما وراء البعد الفيزيائي الطبيعي، نحو عالم كريشنا وشيفا وفيداس وراما، وصراع الآلهة، لينبثق من فضاء الطقس نتيجة استحضار طاقة الطقس الاصلي فيه، عالم الاسطورة والمقدس اللامرئي الذي يستحيل الى مقدس مرئي وتجربة عيشه.
مما تقدم يتعامل بروك في تجربة المهابهارتا مع المبدأ التاريخي بوصفه حركة ارتدادات لا متناهية، وبعيداً عن المفهوم التقليدي للتاريخ القائم على التحقيب الزمن: الماضي/ الحاضر/ المستقبل. فالزمن عند بروك مطلق فيزيائي، وهو الفراغات ما بين الاساطير، بوصف الاخيرة مركبات ثقافية ذات معادلات كوانتمية.
فالزمن هو فراغ صفري فاصل ما بين المركب الثقافي/ اسطورة المهابهارتا، وبين ما لانهاية من المركبات الثقافية/ الاساطير، ممن أدركها الوعي البشري، او لم يدركها، من ملاحم التيتان الاولى، ملاحم الخلق البابلي، اسفار التكوين التوارتية، اسفار بوذا، زراديشت، وما لانهاية من الاساطير، في علل الخلق التي هندس من خلالها العقل الميتافيزيقي عالمه وانشأ كينونته.

 

 

أ.د. صلاح القصب

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *