“عائد إلى حيفا” رواية غسان كنفاني على “مسرح بابل” المخرجة لينا أبيض استقت مسرحاً حياً للذاكرة

عشرون عاماً من ذلك الصباح المظلم في 21 نيسان 1948، يوم انكسفت شمس الانسان الفلسطيني، وعمّ فوق رأس المنفيين عن أرضهم وبيوتهم ليل دامس، إلى العام 1968، زمن رهيب صوّره غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا”. هو زمنٌ صوّره الكاتب، لا حرباً، لا

قتلاً، لا دماء، ولا ثأراً، بل جعل ذلك كله متغلغلاً في حنايا الانسان المغدور ببيته، بأرضه، المهجّر قسرا تحت بندقية المحتل، بقلم منفي عن بلده، واجداً في الكتابة خلاصه، لا نسيانه. فإذا بالصور القوية، الحادة، تفور على ورقته، وتتلقاها لينا أبيض رسالة كاتب إلى سيدة مسرح أدركت مذ قرأت نيات غسان كنفاني، في “عائد إلى حيفا”، أن لنص كنفاني رسالة لا لتذوي بين دفتي كتاب بل لتتأنسن وتتروحن على خشبة مسرح، حيث  تغدو الرموز التي تشق مغازيها من مسار القصة، قضية مسرح وإخراج يبسّطان رؤى غسان كنفاني وأبعاده الايديولوجية، ويقدمان إلى الجمهور حوارات إنسانية، موجعة. على خلفية جامدة كالصور التي تعلَّق على الجدران، متحرّكة في زمن واقف، ناسه هم الذاكرة، الفتية آنذاك، الشاهدون على أبشع جريمة اقتُرفت في تلك الحقبة، تواطؤ صهيوني إنكليزي، يسلب فلسطين هويتها وإسمها، والفلسطينيين ديارهم.
بعد تقديمها “عائد إلى حيفا” في العام 2010، عادت لينا أبيض إليها من جديد، كهاجس يوسوس في بالها، أو كأمور أصبحت اليوم أكثر نضجاً، او بعداً، في إعادتها قراءة نص غسان كنفاني وفي ضوئه نصها المسرحي يملي عليها انغماسا أعمق في طبائع شخصيات الرواية، فتزوّدها إضاءات تتوضّح فيها التعابير الصامتة، في تعادلها مع الحوارات. كأن بين الأمس واليوم، يتبلور النص في قراءته الثانية جاعلاً الإعداد المسرحي أكثر نتوءا من اختباره الأول، من دون أن يفقد  قيمته الزمنية على خشبة ضمّت زمنين في آن واحد. يتلقى المشاهد أكثر من المسرحية، وجع اكتشاف ما اقترفته النكبة من تراجيديات مخفية، ستبقى متجذرة في ذاكرة الإنسان على مدى الدهور.
على جانب المسرح، سيارة يقودها سعيد وإلى جانبه زوجته صفيّة، مواطنان شرّدتهما الحرب من حيفا منذ عشرين عاماً، وها هما عائدان بعد انتهائها ليتفقدا البيت. بغصة السؤال، السؤال المزنّر بألف “تابو” عن خلدون الطفل الرضيع الذي ظل في هذا البيت، فيما الوالدان في لحظة ضياع أصبحا مع الالوف المجروفين تحت وابل الرصاص إلى الميناء حيث الزوارق الجاهزة للإبحار بهم إلى الشتات.
على المسرح ثماني شخصيات من اختيار لينا أبيض، فلسطينيون حافظوا على لكنتهم الفلسطينية. غنّام غنّام في دور سعيد، رائدة طه في دور صفيّة، عليّة الخالدي في دور مريام كوشن، حسين نخّال في دور دوف كوشن، هاني الهندي في دور الولد، سميرة الأسير العروس، عزّام مصطفى العريس، وساندي شمعون المغنّية.
“هذه هي حيفا إذاً بعد عشرين عاما”. طوال الطريق مذ غادر رام الله، كان سعيد يحدث زوجته عن كل شيء، الحرب، الهزيمة وعن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات ونهب الجنود الأثاث، وحين وصلا إلى مدخل حيفا صمتا معا واكتشفا أنهما لم يتحدثا عن الأمر الذي جاءا من أجله.
سعيد هو الشخصية الأساسية في رواية غسان كنفاني، والكلام، أكثر الكلام له في سيناريو لينا أبيض. فيما زوجته تكفكف دموع القهر إزاء ما فقدته، من ابنها خلدون إلى البيت و… الستائر التي اشتغلتها بيديها. هو يسعى إلى درب حوار مع الشاب دوف المجنّد الذي فوجئ بوجود هذين الغريبين، إلى أن تقول له أمه مريام كوشن بالعبرية “أريد أن أقدم لك والديك الأصليين”. وقف يحدق فيهما قائلاً: “أنا لا أعرف أماً غيرك أما أبي فقد قتل في سيناء ولا أعرف سواكما”.
أدخلت لينا أبيض اللغة العبرية كعنصر طبيعي بين دوف وأمه، والانكليزية في مواجهة دوف وسعيد. فيما ظلّت صفية تبكي بصوت خافت.
في ظل المسرح غناء جارح من ذاكرة الهوية التي كانا يحملانها. 
الحوار بينهما يكشف ثغراً كبيرة: “ماذا تريد سيدي؟”. سعيد بات يفهم أن الولد الذي جاء يسأل عنه هو رديف حيفا التي باتت بلا ذاكرة. يسأله: “أنت في الجيش؟ من تحارب؟”. يسمعه يقول: “إنني في قوات الاحتياط لم يقدّر لي خوض معركة مباشرة. إنني أنتمي إلى هنا، وهذه السيدة هي أمي وأنتما لا أعرفكما”.
بان لسعيد أنه حفظ درساً طويلاً وليس بيده أن يتعادل مع هذا الشاب سوى بقوله له: “لا حاجة لتصف لي شعورك في ما بعد، فقد تكون معركتك الأولى مع فدائي اسمه خالد هو ابني. لاحظ أني لم أقل إنه أخوك، فالإنسان كم قلت منذ هنيهة، قضية”.
ما هو الوطن؟ سأل نفسه. أهو المقعدان الباقيان منذ عشرين سنة؟ الطاولة؟ صورة القدس على الجدار؟ شجرة البلوط؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ 
كأن هذا الشاب بقسوته وتحليله ما حدث، هو ضميره: عشرون سنة ماذا فعلت كي تسترد ابنك؟ عاجزون، مقيّدون بتلك السلاسل الثقيلة. لا تقل إنك أمضيت كل هذه السنين تبكي”.
كان سعيد وصفيّة يفتشان عن شيء تحت غبار الذاكرة: “دوف هو عارنا فيما خالد هو شرفنا الباقي”.

 

may.menassa@annahar.com.lb

مي منسى

http://newspaper2.annahar.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *