فـي ذكرى رحيله الرابعة سـالم الحتّـاوي.. كاتبٌ للمسـرح وللحياة.. التي تركها بمحبة

سالم الحتاوي.. بابتسامته المعهودة التي تتحرك مع خطواته، وكثيراً ما تتقدم دخوله جمعية المسرحيين بحقيبته السوداء التي تحوي ذلك اللابتوب، رفيقه وربيبه أينما حلّ وارتحل، وهو يبحث في الجمعية بهدوئه، مقتنصاً أي غرفة «فاضية» يجلس فيها ويفرغ ما في رأسه من أفكار أو يكمل ما بدأه من

نصوص للمسرح أو للتلفزيون أو حتى للإذاعة.. خاصة حين يقترب موعد أيام الشارقة المسرحية، حيث يعتكف ليكتب كل جميل وجليل، كما كان عليه هو.. بخلقه العالي الذي يسبق كلماته.. وهاتفه النقال الذي يرنّ على الدوام بتلك الرنّات الخفيفة والسريعة حيث باتت من سماته التي ألفناها منه رحمه الله.. و«الموبايل» ذو الرنّات، بسماعته التي تتدلى منه، والمشبوكة في أعلى «كندورته»، فتراه تارة يبتسم وتارة يمتلئ وجهه بالاستغراب، ثم بعدها يكمل حديثه الذي يناقش فيه زملاءه حول ما قدمه من أعمال، ويتحدث معهم كذلك عن المشاريع الفنية القادمة.. كان شعلة من النشاط، ومثالاً يحتذى به لكل من أراد أن يتصدى للكتابة بكافة أشكالها.

 

لم يكن الحتّاوي كاتب مسرح وإذاعة وتلفزيون فقط، بل هو كاتب للحياة.. وموثقٌ رصد بطروحاته وأفكاره أهم الظواهر التي واكبت التغيرات والتحولات التي طرأت على المجتمع الإماراتي والخليجي، والقضايا والمشاكل التي يعاني منها الإنسان وسط ما يحيط به من تحديات تكاد تعصف بكل ملامحه الإنسانية وهويته الثقافية والاجتماعية. مستمداً أفكاره من الحكايات الشعبية والتراثية والأساطير وطقوس الغرائب التي عشق الكتابة عنها وتميز فيها وسبق الجميع في فترة زمنية قياسية.. فاعتبره النقاد أحد ركائز المسرح الإماراتي، ومن أوائل الكتّاب الذين سدوا الفراغ الذي كان يعاني منه العمل المسرحي الإماراتي.

دمث الخلق، طيّب النفس، قلبه أخذ الكثير من لون «كندورته» البيضاء، يحبّ الجلوس إليه وسماع حديثه كل من يلقاه ويكلّمه حتى من أول مرة.. تواضعه الكبير رفعه في قلب محبيه، وقلوب قرّائه ومن هم قريبون منه.. تشعر حين تجلس معه بأنك تعرفه منذ زمن، وأنه يعرفك هو الآخر، فتشعر بالارتياح لجلسته، وتود لو أنها تطول.. غير أن الزمن حين يتحدث تصمت جميع الأفواه ولا تنتظر منه الكثير من الوفاء.. والدنيا كما يعلم جميعنا، أداة للتفريق.. ومنطقة يصعب البقاء فيها أو التواجد بين جنباتها أكثر من الفترة المحددة مسبقاً.

أحلامه بدأت مع مسعود في عام 1994، حين كتب أولى مسرحياته، أحلام الحتّاوي هذه وخطاه الراسخة والواثقة التي بدأ فيها، لم تكن لتتوقف أبداً!.. فكان يسابق الزمن في الكتابة، وكان الناتج غزيراً.. وكمّاً من النصوص للمسرح والتلفزيون، وكأنه كان يشعر بأنه لن يبقى على وجه الأرض فترة طويلة، فتركها واختار أمكنة أخرى أكثر دفئاً وأماناً، لتبقى كتاباته التي تركها حيّة تنبض في قلوب كل محبيه من عشاق المسرح وأصدقاء الإبداع، وتحيا بها خشبات المسارح، وتزدان رفوف المكتبات بتلك النصوص التي كتب حروفها مبدع حقيقي وإنسان يرى ما لا يراه الآخرون..!

لقد أحدث الحتّاوي طفرة في الكتابة المسرحية في الإمارات، وحالة من التغيير في أساليب الكتابة والطرح والمعالجة الدرامية لمشاكل وهموم المجتمع، حينما انطلق بقوة في التسعينات من القرن المنصرم، تفوّق بما كتبه على نفسه أولاً وعلى أقرانه، وأصبح ظاهرة مميزة في الكتابة المسرحية، عرفه المسرحيون وتعلّقوا بنصوصه، كما عرفته منصات التتويج مرة بعد مرة بعد مرة.. ليصبح ربيبها وقريبها الذي يزورها باستمرار في كل سنة، وأحياناً وحين يهزه الشوق ويتعبه الحنين .. يتدارك نفسه ليزورها مرتين متتاليتين في سنة واحدة، كصلة للرحم، وتوطيد لأواصر المحبة التي لم تنقطع برحيله، فالخشبة حتى الخشبة، سألت عنه ووارت حزنها على فراقه.. حينما اختفى عنها على غير موعد وهو في قمة العنفوان والعطاء.

لم تبعده عن المسرح أو تشغله عنه، دراسته في الولايات المتحدة ونيله الدبلوم العالي في الهندسة الإلكترونية، فعاد من هناك ليكتب النصوص ويتألق وتشرق شمسه ويعلو شأنه، وكأنه عاد من أمريكا وقد درس المسرح في أكاديمية «مسرحية» متخصصة. وكذلك، لم يغفل الحتاوي عن الإذاعة، فبدأ الخير مع «جدتي أم الخير»، واستمرّ في الكتابة الإذاعية حتى خطفه منها التلفزيون بمغرياته العديدة التي لا يتمكّن أيّ فنان أو كاتب إلا أن يرضخ لها ويحلّق بأجنحتها.. فكانت بنت الشمار، وبقايا حلم، والكفن، العمل الذي التصق بذاكرة المشاهدين، وتعلّقوا به، وكانت نقطة تحول في مسيرة الحتاوي التلفزيونية، ليكتب بعدها العديد من المسلسلات.. آخرها «غلطة عمر».. ونصوصاً تلفزيونية أخرى كتبها قبل وفاته بأشهر قليلة.

لقد وقف الحتاوي على منصات التتويج في حياته مؤلفاً، ووقف مكرّماً بعد وفاته، في أكثر من مناسبة وهذا أضعف الإيمان بالنسبة لمحبيه وأصدقائه المسرحيين الذين حاولوا بكل ما أوتوا من جهد تدارك ما فاتهم وتكريم هذا الرجل المبدع، الذي لم يسعفهم الزمن وتقلّباته المستمرة للاحتفاء به وتكريمه في حياته رحمه الله. فكُرّم الحتاوي في مهرجان دبي لمسرح الشباب في دورته الثالثة 2009م، وكذلك كُرّم في مهرجان الإمارات لمسرح الطفل في دورته الخامسة 2010م، كما أنه كُرّم في أكثر من مناسبة من قبل مسرح رأس الخيمة الوطني، ومسرح دبي الشعبي الذي ينتمي إليه رحمه الله، وجمعية المسرحيين التي هو عضو مؤسس فيها، والعديد من الجهات الثقافية والمسرحية في الإمارات العربية المتحدة.

ثمانية عشر عاماً من الإبداع، ثمانية عشر عاماً من الألق.. إضاءات عديدة.. ومشاركات كثيرة محلية وعربية، جوائز وتكريمات وإشراقات أخرى لم تتطبّع بطبائع الشمس التي ما إن نطمئن لدفئها حتى تغيب، بل أعماله سطعت بشعاع من ذهب.. ورأت النور الذي لن تفارقه حتى لو غاب ذلك القلم.. فهو قد خطّ لنا مسرحاً رصينا وجادا وملتصقا بالمجتمع.. ونصوصا درامية حيّة ومتميزة.. حبره تستقي منه الأجيال.. وتتعبّق برائحته المكتبات برفوفها.. ننسخ عنها صورا كثيرة لذكرى من نحبّ.. ولماضٍ سيعود بما تركه الحتاوي وراءه من إرث كتابيّ لا يقدر بثمن.

اعتبره النقاد من أغزر كتاب المسرح في الإمارات وأكثرهم إنتاجاً وتنويعاً في مواضيعه المسرحية والدرامية التي أثمرت عن حصاد لامع من التقديرات والحافلة بالجوائز والإشادات والتنويهات النقدية والاحتفائية. وجاءت بداية مشواره في المسرح مع العام 1994 في الدورة السادسة لأيام الشارقة المسرحية مسرحية «أحلام مسعود»، حيث أفصح الحتاوي عن موهبته المبكرة وقدراته التخيلية في صياغة حالة مسرحية تمزج بين النقد الاجتماعي وجماليات الحوار المسرحي والبناء الدرامي، وكان فوز مسرحية (أحلام مسعود) بجائزة أفضل نص مسرحي في تلك الدورة بمثابة المفاجأة المدهشة التي دفعت الحتاوي إلى تطوير آليات الكتابة لديه والافتتان بهاجس التأليف المسرحي، حيث استمر هذا الهاجس في التوسع والتشعب والإيغال نحو الموروث الشعبي والحكايات الإنسانية البعيدة والحافلة بالألوان والظلال التي يمكن أن تنعكس على الحاضر وتحاور إشكالياته وتعقيداته الراهنة.

كتب الحتاوي أكثر من ثلاثين نصّاً مسرحيّاً، ما بين مسرح الكبار ومسرح الأطفال، وحصل على العديد من الجوائز في التأليف المسرحي بين مسابقات للنصوص ومهرجانات للعروض. ففي مسرح الطفل، كتب: «أرض الخير»، «زهور والمنظرة المسحورة»، «الأميرة والساحرة العجوز»، «مملكة السلام»، «ياسمين والمارد الشرير»، اعتمد من خلالها على خزين ذاكرته وحكايات الجدات وبعضٍ من الأدب العالمي. وفي مسرح الكبار توزع إنتاج الحتاوي ما بين نصوص مسرحية اعتمدت في موضوعاتها على السرح «مواويل»، «صمت القبور»، «جوهرة»، «عرج السواحل»، «الياثوم»، وبين نصوص أخرى اعتمدت المسرح الجماهيري وتوجهاته في مواضيعها مثل المسرحيات: «جنون البشر»، «دور فيها يالشمالي»، «هود يا أهل البيت»، «جنة ياقوت»، «كل الناس يدرون»، كذلك كتب الحتاوي في التجريب والعبث ونصوصا أخرى اتسمت بقالب الرمزية كما في المسرحيات: «إنها زجاجة فارغة»، «زمزمية»، «حكاية رأس وجسد»، «النخاس» وغيرها. إذ تعددت مواضيع الأعمال المسرحية والدرامية التي قدمها الحتاوي بين الهموم الاجتماعية والقضايا العامة والمشاغل الإنسانية المتعانقة مع أسئلة الهوية والوجود بأبعادها النفسية والفلسفية، وساهمت هذه الأعمال في إضفاء نوع من الحراك والدافعية الكتابية المشحونة بحس المغامرة وتنويع الرؤى والأفكار والتلمسات والحوارات الصادمة بين الذات والآخر، وبين الذات وأسئلتها المقلقة والمسكوت عنها، حيث لاقت هذه الأعمال صدى مميزاً في المشهد المسرحي المحلي والخليجي والعربي أيضا. والحتاوي الذي كتب الكثير من المسرحيات قياساً بالفترة الزمنية التي ولج خلالها إلى المسرح وهي خمسة عشرة عاماً، قد يظن البعض أنه قد قال كل ما عنده في هذه السنوات القليلة، ولكن من يقرأ نصوصه يكتشف أن الحتاوي ما زال في عقله وقلبه ما لم يقله، لو أن الوقت أمهله!

لقد صرح الحتاوي عن موهبته بقوة في مجال الكتابة للمسرح عندما شارك في الدورة التالية لأيام الشارقة المسرحية في عام 1996 بأربع مسرحيات دفعة واحدة، وهي: «ليلة زفاف» و«صمت القبور» و«الملة» و«إنها زجاجة فارغة»، واعتبرت هذه المشاركة الغزيرة في دورة واحدة سابقة أولى ومفرحة في أيام الشارقة، قبل عودة الكاتب الإماراتي إسماعيل عبد الله إلى الساحة المسرحية، وخاصة مهرجان أيام الشارقة المسرحية، كما أن دورة 1996 كتبت شهادة ميلاد كاتب مسرحي مبدع ومتوهج في حقلي الكتابة بالفصحى والعامية على السواء، ففي تلك الدورة فازت مسرحيته (ليلة زفاف) بجائزة أفضل نص مسرحي وحازت الأعمال الثلاثة الأخرى جوائز عدة في مجال التمثيل والإخراج والعمل المتكامل. 
واهتم الحتاوي في سبر نصوصه الإبداعية بتفاصيل المكان، إذ أنه كان بمثابة مفتاح أساسي، ليس فقط كتمهيد للدخول في أجواء العمل، وإنما هو عنوان عريض للثيمات التي يعتمد عليها العمل نفسه، بل هو مدخل لطبيعة القراءة المفترضة من قبل المتلقي للعمل، وقبل كل ذلك هو دليل للمخرج الذي يمكن أن يتصدى لإخراج العمل، كذلك عرفت أعمال الحتاوي استنادها إلى طقوس السحر، وهي ما يندرج تحت مفهوم العجيب والغريب في المسرح، حيث تشكل طقوس السحر مناخاً متكاملاً، تقوم في إطاره العملية المسرحية، وتمكن المؤلف من التعاطي مع مقولات كثيرة من الماضي والحاضر، وتسمح له بنقد الكثير من المقولات والقيم والأفكار التي لا تمثل فقط جزءاً من الموروث الثقافي بوصفه فولكلوراً، وإنما أيضاً، جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الثقافية المستمرة وإن بأشكال مختلفة. من جهة أخرى فإن لغة الحتاوي في أعماله تنوعت بين الفصحى والعامية، بالتالي لم تكن اللغة عائقاً أمام إيصال مقولات أعماله، والتعبير عنها في المناخ الطقوسي الذي اختاره لها، هي لغة مكثفة لا تعمد إلى الاسترسال، كما أنها لا تقوم على التداعي، فإنه يوظف اللغة في سياق الحكاية، وفي سياق الشخوص التي تقوم عليها، وهو ما يبرز من الحوارات التي تأتي فيها الجمل قصيرة، كما أنها تمزج بين الواقع والتعبير الرمزي.
كما كتب للإذاعة: «جدتي أم الخير» و«سرور وجمعان» و«سرور» و«مساكم الله بالخير» و«يوميات رمضانية»، لعدد من الإذاعات الإماراتية المختلفة. وكتب الحتاوي للتلفزيون العديد من المسلسلات التلفزيونية: «بنت الشمار»، «بقايا حلم»، «الكفن»، «آخر أيام العمر»، «غلطة عمر»، وغيرها من الأعمال التي لاقت قبولاً جماهيرياً واسعاً وصنعت من قلم الحتاوي كاتباً تلفزيونياً أخذ مكانته الحقيقية في الأوساط الدرامية المحلية والخليجية.

وإثر وعكة صحية ألمت به ودفعت إلى إدخاله المستشفى، فتفاقمت عنده حالة القلب ثم زاد عليها الفشل الكلوي الذي كان من الصعب السيطرة عليه، فارقت الروح مساء يوم الاثنين 29 أبريل 2009م، جسد الكاتب الإماراتي المغفور له بإذن الله سالم الحتاوي، عن عمر ناهز 48 سنة. وفي تشييع مهيب، دفن المغفور له بإذن الله في مقبرة القوز بدبي، ذاهبا إلى مثواه الأخير، تاركا إرثاً ورقياً عظيماً استفاد منه ويستفيد مسرحيو الإمارات حتى لحظتنا هذه، والذين إلى الآن.. لم يستوعبوا رحيله.. الذي كان مثار صدمة ما يزال أثرها في النفوس حتى هذه اللحظة!

 

أحمد الماجد

http://www.arrafid.ae/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *