الفرقة القومية للتمثيل.. مسرحنا الوطني العراقي

عزيز خيون كان الواقع الموضوعي، والبوادر التي هيأت وأرست فكرة ودواعي تأسيس (الفرقة القومية للتمثيل)، وساعدت على تسارع انطلاقتها إبان دهاليز ذلك الممر التاريخي الذي عاشه الوطن، تقول: إنها حاجة ملحة، وإنها ضرورة وطنية واجتماعية، فنية

 

وثقافية، وذلك بفعل حذلقة المتغيرات السياسية المتلاحقة، وانعدام الحريات والحقوق، ما أنتج واقعاً مجتمعياً خانقاً، سيطر فيه حكم العسكر واللون الواحد، وغابت نعمة الأمان وإشراقة هلال المستقبل، وهبط المؤشر الاقتصادي للوطن والفرد وبشكل مريع، لدرجة أضحى الرغيف قمراً… وتفاقمت حيرة المواطن في العراق، ولزومية بحثه عن كوة للأمل، عن تكوينات سياسية تنتشله مما هو فيه، ومنظمات مدنية، تدافع عن وجوده، تُحرر له الطريق ، وتُسهم في نجدات التوعية والتنوير من أجل أن ينال مطاليبه وحريته، ويفوز بعشبة الحرية والعدالة ، عيد الاستقرار والعيش الكريم… لذلك هب من يشغله أمرها وتحرك… فنانون مسرحيون، يقودهم عراقي، استحوذ فن المسرح على شبكة تفكيره ووجدانه، تولع به، بات قضيته الأولى، فلا غرابة أن يصبح رائده وعميده ومُعلمه في العراق، ذاك هو الفنان، المخرج والممثل، الأستاذ والمُربي “حقي الشبلي”، الذي دعا إلى إطلاق فكرتها وتصميم هيكلها الأساس ونظامها، فرقة قومية للتمثيل، أو كما يطيب لي ويحلو أن أناديها: “المسرح الوطني العراقي”، فكم أودّ أن تتوج الآن بهذا العنوان.
وبطبيعة الحال هذا لا يعني أنني لا أوافق التسمية التي عُرفت بها “الفرقة القومية للتمثيل”، أبداً، إنما أراني أميلُ إلى التسمية التي أدعو إليها، لأنني أجد فيها لمعاناً وبريقاً يليق بمضمون وأبهة هذا التكوين الفني الوطني، مسرحاً للوطن، مسرحاً لهذا العراق.
هذه الفرقة التي مرت قبل أيام ذكرى تأسيسها الـ 45، خجلة منطوية وصامتة، بعد أن كانت هذه الذكرى قصائد غزل وموسيقى فرح للاحتفاء والاحتفال بما خططت وأثمرت، ومعاودة العزم ثانية لإعلاء صرحها، وتكملة المشاريع التي أعاق غراب الطوارئ تبليغ رسائلها الجمالية، ومن ثم التفرغ لمناطق الحلم، مناسبة لتجمع أعضائها وتقوية الروابط وتسخين التوادد، والإصرار على سقايتها ودعمها بكل ما هو حديث يتجوهر ، لكي تحجز هذه الفرقة عرش تميزها في الزمن الحاضر، ومهما أجهدت قند روحها بالتجارب وقدمت طاقات، وبرغم الذي أصاب الق مزاجها من سهام السنوات… تظل شابة تعيش في الآن واللحظة، من اجل ان تكون أجراس هذه الذكرى أملاً ربيعياً لتجديد العهد بأن يكرس هذا الفضاء المسرحي فضاء لأفكار الحرية والعدل والتوحد والديمقراطية والاستقلال والسيادة، يبعث رسائل فنية وجمالية للمتعة البيضاء، للتجمهر والإتحاد ،  للتصالح والتسامح، رسائل للتعليم والتثقيف ، لقيامة الوعي الباني… والتذكير بالتلاحم الأزلي بين أطياف هذا الوطن، التذكير بنعمة التنوع، بصلابة ومتانة رابط المكونات المبدعة للوحة الفسيفساء المدهشة لهذا الشعب الخلاق، بالذي يجمع بينها، وبخطورة تفرقها، رسائل بقيمة ووحدة هذا الوطن، وشرف الدفاع عنه كُلاً متماسكاً أنى كان شكل العدوان والخطوب… لأنه بعزة هذا العراق عزة للجميع، وبضعفه – لا قدر الله – ضياع لهذا الجميع بالتأكيد.
وفور نحت وتكامل الصورة الأولى لهيكلها، انطلقت هذه الفرقة التمثيلية ومن لحظة نشأتها عام 1968 تقدم أسماء فنية، كتاباً ومخرجين، ممثلين ومصممين وتقنيين من عاصمتنا العزيزة بغداد ، ومن بقية أهلنا في محافظاتنا الأخرى، أي أنها مدت بأجنحتها السحرية المثيرة على كافة جهات القلب، جهات الوطن، جهات هذا العراق، وبفترة قصيرة صار اسمها شغل ألسنة من يُعنى بفن المسرح، تجسيداً وتنظيراً وكتابة وتنظيماً وإنجازاً تقنياً… ولأهميتها التي صاغتها وبرزتها فعاليتها الواضحة على المستوى المحلي والعربي، أصبحت هذه الفرقة – المؤسسة النواة، تشكل عامل جذب واستقطاب وحلم لكل فناني المسرح في العراق، لدرجة صار الطموح دافعاً  لكل فنان ومسرحي أن يُسعد بنيل شرف عضويتها، والانتساب لصرحها البهي، بحيث ومع تتابع مواسمها والسنين أمست بيتاً للمسرحيين في العراق، عنواناً للتباهي، ومنبتاً لأحلامهم الفنية في العمل والإشهار والتجربة، فمنحوها اخضرار وشبابية روحهم، أراقوا بين يديها سلة سنوات عمرهم، جرياً في التدريب واكتساب المعلومة والخبرة والمران، فوزاً بالحضور القائل المثير، وإعمار طاولة الحوار اتفاقاً واختلافاً في منظورات الجمال، من أجل ابتكار طرائق وتقنيات، أفكار وموضوعات، مشاريع ولُقى فنية تليق بعنوان هيبتها، وجواز مرور للحراك المبدع فوق مسرحها لاصطياد وتقديم تجارب مسرحية لافتة صفق لها الجمهور في العراق وعلى المستوى العربي والعالمي، حققوا لها وللوطن الانجازات الأهم والجوائز الأنجح وفي كل محفل… حتى أنه لم يكن هناك أي ملتقى فني تبتسم أضواؤه في هذا المهرجان وذاك البلد، إلا وكان لهذه الفرقة العنيدة الشامخة – عناد وشموخ الوطن- .. الحضور البهي.. أينما حلت كان النجاح وصيفتها، وطيور الأخبار المفرحة تحلق من بين كفيها.. والأقلام تجري سعيدة وهي تعزف لها أنغام الثناء والمديح مالا تستطيع هذه السطور أن تحيط بحجمه الوافر.. فلا يمكن أن تغمض عيون المهرجانات التي تنتصب هنا وهناك، عن مشاركتها الحدث:… قرطاج الدولي في تونس ، والعديد من مهرجاناتها، في مهرجان دمشق للفنون المسرحية، أو مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ومهرجانها للمسرح العربي، أو مهرجانات المسرح في المغرب: مهرجان المسرح العربي المتنقل، ومهرجان المسرح والموسيقى والغناء، ومهرجانات مسرح الطفل… ولا تكتمل بهجة أي أسبوع ثقافي عراقي يُقام في هذا البلد العربي أو ذاك إلا وتكون هذه الفرقة واسطة عقده، حاضرة في البنود الأولى لوحدات برنامجه.. هي حاضرة في دمشق، في الكويت وقطر، في الإمارات العربية المتحدة، في تونس والمغرب وفي قاهرة المعز.
وكأية حياة ، وكأية تجربة لفضاء إبداعي، عصفت بهذه الفرقة الأُم، أيام وأيام، حالات وحالات، تاريخ وتاريخ… فطالما كانت هذه الفرقة مرتبطة بالوطن، لذا فقد أصابها ما أصاب الوطن من شرور وفوضى وفساد، من أحزان وهموم، ومن نكبات ومحن… فعندما تهب نسائم عذبة على هذا الوطن –  قليل هبوبها – يُقدر لهذه الفرقة المسرحية أن تفوز بمنظومة فنية، بإدارة مبدعة تنجح في أن تتكفل لها بمهمة التخطيط السليم والبرمجة المتميزة، بياض الكف، نبل المقصد، ووضوح الرؤية ، وتنفيذ أحلام مبدعيها ، حقهم في العمل والتوزيع العادل للفرص، وتدمير نصب البطالة المقنعة، وسلطة الحسب والحزب والنسب، والاحتكام لسلطة الإبداع والوطن  وتحقيق مطاليب جمهورها بالعروض المسؤولة الحديثة والمتنوعة ، وإعلاء مرتبة الجمال في العلاقات، في الموضوع والأداء… فإنها تقفز باتجاه الأمام لحدود مثيرة وعلى كافة الصُعد.. وخير مثال يحضرني فيما ذهبت إليه الإدارة الموفقة لهذه الفرقة بقيادة الفنان “محسن العزاوي”، الذي يُعتبر أهم من أدارها وفَعلها نوعاً وكماً في المستويين المحلي والعربي… وبعكس هذا فإن شوك الخمول وأشنات القناعة والكسل تقيم في إدارتها، تحت طاولاتها، في غرفها وقاعات تدريبها وأروقتها، جميع فضاءاتها وكامل صرحها… ويتسرب من حضنها عشاقها ، يفر ابناؤها البررة، وتعشعش البطالة ، الأمية والجهالة، يعشعش الفساد الإداري والخراب في النفوس والبرامج والخطط، بمعنى آخر.. تشيخ هذه الفرقة وتهرم. الفرقة القومية للتمثيل أو (المسرح الوطني العراقي) – في حالة الموافقة على هذه التسمية- يتطلع الآن لزمن آخر، لفرصة وإطلالة جديدة ، أتمنى كمواطن ومسرحي عراقي أن يتحقق له ما حُرم منه، ما يدور بمخيلة أعضائه وجمهوره، بمخيلة المسرحيين في العراق كافة، من رعاية استثنائية تغدقها الدولة والحكومة، من اهتمام مسؤول بمواسم هذا المسرح، بأعماله وتطوير إمكانية أعضائه الفنية من خلال المحاضرات والورش في الداخل والخارج، ومتابعة جدية لأوضاعهم المادية والصحية، وتجديد فاعلية طاقمه بدماء شابة ، ومن كلا الجنسين، وبجميع التخصصات، والاهتمام بكل ما يشغله مقره الخاص من غرف لمخرجيه، كتابه وممثليه ومصمميه، بخبرائه ومستشاريه، والعناية الفائقة بقاعات التدريب.. مفاقس الأفكار والرؤى وإنبات التجارب الحداثوية، الاهتمام بأناقة وجماليات هذا المسرح، بهيبته، ركيزة هامة للمسرح بالعراق، وكتشكيل فني يعتبر الإطار والتكوين المسرحي الأول، فهو مسرح الشعب والوطن، وما نتمناه لهذا المسرح من تطور وبهاء ورفعة ورعاية وتميز فلأنه كذلك… ولهذا ننادي بتسمية جديدة له هي (المسرح الوطني العراقي) نحتاً ووقعاً، مستبعدين تسمية (فرقة)، بل شرفناه بالتزامه فهو (وطني) ، وبخصوصيته فهو (عراقي)، مسرح ميزه وشرفه هذا الوطن بأن خلع عليه عباءته العراقية، مُمثلاً له وعنواناً للجمال، لذلك هو تجاوز اسم ومحدودية (الفرقة)، واختار هذا المسرح التحليق الأبعد والتعبير الاشمل، برلماناً لكل العراقيين، متجاوزاً الأُطر والعناوين والتكوينات الفنية والمسرحية المعروفة في وطننا، ليغدو لائقاُ بهذا العراق.
ولكونه كذلك، يتعملق الحلم مجنِحاً باتجاه أن يكون هذا التكوين المسرحي مسرحاً وطنياً، وعراقياً بحق، ينطق بإرث وعقل وعمق حضارة العراق، لا تشوه جبين صرحه إنتاجات تصرخ بالأمية والسذاجة والتسطيح، مسرحاً متميزاً ومن كافة الوجوه، صرحاً وإدارة وكوادر فنية من الصف الأول وبتخصصات متنوعة، مسرحاً يليق بمجتمع متوحد ومتحضر، ولوطن حر ومبدع اسمه العراق.

 

عزيز خيون

http://www.alrafidayn.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *