القارئ وإنتاج النص الجديد

جواد ديوب:من عادتي أن أحتفظ بقصص الأطفال لأهديها للأطفال، من قناعة لديّ بضرورة أن يتعوّد الطفل على منظر الكتاب في البيت،وعلى ملمس الورق والتفاعل مع ألوان الكتاب وبالتالي الرغبة في قراءته والبحث عمّا يطيب له من رسومات وصور، وما يمكن أن يحرّض خيالاته وأفكاره.‏


فالقراءة هي قوّة إرادة، هي إبداعٌ قد يفوق إبداع النص المكتوب، لأنها فعل محبة مع النص، فعل تواصل يخلق مسافة من شوق للوصول إلى نهاية الحكاية.‏

وقد حدث معي مؤخراً، حيث أسكن في حارة شعبية في مدينة دمشق، أنني أهديت مجلّة أسامة إلى ابن جارنا وسألته، ممازحاً ومشجعاً له، أن يقرأ لي ما هو مكتوب على لوحة الغلاف، فلبث لحظات يحدّق في الصورة، ثم بي، ثم في الصورة ولم يقرأ، شجعته معتقداً أنه خائف أو خجلٌ منّي بكوني أمثل له شخصاً عملاقاً يطلب إليه شيئاً يشبه ما يطلبه الأستاذ في المدرسة من الطلاب الجدد، لكنه مع كل التطمينات له، لم يقدر أن يقرأ أوائل الحروف، تلعثم وقال لي: أنا لا أعرف القراءة، ثم أخذ القصة من يدي وغادرني منكّساً رأسه.‏

لست أعمم قصتي هذه على كل الأطفال، خاصةً أنني أشرت إلى البيئة التي يسكنها والتي لا يمثل الكتاب إلا آخر اهتماماتها، وآخر ما يفكر فيه الأهل المنشغلين بتأمين المستلزمات الضرورية.‏

لكنني رغم ذلك أشدد هنا على فكرة القراءة بحد ذاتها، على فكرة أن يصبح الكتاب من مفردات حياة الطفل، حتى في البيئات شديدة الفقر والتخلف أو عشوائيات المدن، لأن الفقر ما كان يوماً مانعاً لكثير ممن أصبحوا عظماء عالميين. وأن يصبح الكتاب «كائناً» يرافق الطفل عبر مراحل حياته، وأن يقوم الأهل ومعلّمي المدارس وكتّابنا بالاهتمام بجوهر الكتابة/ القراءة عند الطفل لتدريبه على أن متعة القراءة تضاهي متعة مشاهدة وردةٍ تتفتح، وأن آثارها تشبه ارتعاشة جسد الماء حين تهب نسمة، إنها عقلٌ يورق.‏

وبرأيي حتى لو كان النص/القصة/ الرواية/ المسرحية/النشيد سخيفاً أو بشعاً، فإن من يقرأ ويتعلم كيف يقرأ مع التكرار والعادة، سيجد جمالاً حتى في البشاعة، وسيجد إشارةً ما تدلّه إلى طريقٍ ممتع آخر. بل إن ضحالة النص، إذا ترافقت مع تعليم وتوضيح من الأهل أو المدرّسين، ستنمّي عند الطفل قدرته النقدية وعدم الاستكانة لكل ما يقال لمجرّد أنه قيل من شخصٍ يكبره في العمر، ولأن النقد لا يعني قلة الاحترام، لا لشخص الكاتب ولا لجهده، بل هو تحريض للمعرفة في عقل وروح الطفل، تجعله يختصر الكثير من ضياع الوقت وتعب البحث بين ركام التفاهات، ويقلل من جهد الحفر في إسمنت اللغة الإنشائية.‏

إصدارات مترجمة‏

«أنتيفول.. العصفور الذي يعاني من الدوار» هي قصة فرنسية مترجمة للعربية من إصدارات الهيئة السورية للكتاب 2011 «يبدو أن حتى الاسم مقصود باللغة الفرنسية، رغم عدم ذكر العنوان الأصلي للكتاب من قبل المترجمة ياسمين محمود، فقد يكون معناه: «عكس الجماهير» أو «عكس الجموع» بما يحيل إلى معنى الاختلاف والتفرّد» نجد فيها نكهة كوميدية مميزة، فالضحك هو جوهر الطفولة وعالم الأطفال، لأنهم لم يتعلمّوا بعد نفاق الحياة الواقعية، ولم يُلقّنوا كيف يكذبون ويطمرون شخوصهم الحقيقية تحت أقنعةِ المجاملة والتملّق.‏

في هذه القصة نجد الطائر أنتيفول يتفرّد ويتميّز عن بقية أسرته/ مجتمعه بكونه يعاني من إعاقةٍ ما تحرمه القدرة على الطيران. لكن الذكاء في القصة أنها لا تشير صراحة إلى نوع الطائر أبداً، بل إن صفاته والرسوم التوضيحية المرافقة البسيطة الأنيقة، والتي تشبه جداً طريقة الكتابة نفسها، أو طريقة تعبير الطائر عن نفسه، هي ما سيقود الأطفال إلى التعرّف على نوع الطائر، وتحديداً الجملة الذكية المرافقة للرسم الواضح: «أنا سألتصق بالأرض وسأغرز قوائمي في تراب الوطن، بل سأتشبث بجذوري.» والتي تقلب المفهوم الرمزي الشائع أن هذا النوع «النعامة» من الطيور جبانٌ، يهرب من مواجهة الخطر، ويتخلّى عن حلّ مشاكله.‏

وهذه الطريقة البسيطة لكن السهلة الممتنعة، أكسبت النص دلالات متعددة غاية في الأهمية، أحاول هنا تبيانها من خلال جمل القصة القليلة جداً لكن اللمّاحة بامتياز:‏

دلالات نفسية: فمَنْ يكون متفرداً بإبداعه وقدراته يجب عليه التواضع وعدم الغرور هذا من جهته، ثم يجب على المجتمع ألا يقدّس هذا المبدع مهما علا شأنه، ولا أن يضعه في منزلة أكبر بكثير من منزلته الحقيقية أياً يكن.‏

دلالات اجتماعية:1- ضرورة إعادة تعريف الإعاقة، أو المعاق: فهي كلمة نسبية حتى لو كانت جسدية أو نفسية، لأنها قد تحمل مبدعاً جبّاراً في الروح أو في ما تبقى من أعضاء جسده، كما تجب ليس فقط مراعاتها اجتماعياً من قبيل الشفقة، بل إعطائها الأولوية في كل زمان ومكان بشكل حضاري وعقلاني.‏

2- عدم تشبيه الناس الحمقى بالمعاقين، وعدم التقليل من ذكاء وقدرة المعاق ونحن نعلم قول العامية إن عظيم النار من مستصغر الشرر، يقول أنتيفول: «عندما يوصف شخص ما بأنه قليل الذكاء يقال عنه بأن عقله عقل عصفور، وهذا جارحٌ للعصافير. نحن نفكر من دون شك بأن رأساً صغيراً كرأس عصفور لا يحمل أفكاراً كبيرة! وهذا خطأ.»‏

دلالات سياسية/اجتماعية: أي شجاعة قول «لا» حين يتطلب الأمر ذلك، لكن ليس جزافاً ورعونةً، إنما بالاعتماد على الإرادة الحرة والمعرفة، مع التركيز على عدم العيش في أوهام نخبوية كمن «يعيشون في عالمهم الخاص ورأسهم في الغيوم، يرون الجميع من الأعلى، ويمرون مرور الكرام من فوق المشاكل»، بل ضرورة التواصل مع الآخر لفهم معاناته والأهم من كل ذلك التشبث بالهوية الوطنية.‏

دلالات تربوية: شجاعة الاعتراف بالألم أو بالنقص مع عدم إلقاء اللوم أو سبب النقص على الأهل أو على الآخرين. ثم أهمية إيجاد طريقة مناسبة في قول الأشياء، فحتى لو اختار المرء الفكاهة كأسلوب حياة، يجب عليه أن يحذر لأنه يمكن أن «يكون جارحاً جداً».‏

اقتراحات‏

من قراءاتي لأدب الأطفال ومن متابعتي لما يُكتب في الصحف عنه، يبدو أن هناك ملاحظات ضرورية برأيي لمن هم قائمون على سياسة النشر، علّهم يأخذون بيدنا ونأخذ بيد أطفالنا إلى فسحة أمل وعمل جديدة:‏

إقامة ورشات عمل لأدباء الأطفال تحت عناوين من قبيل: «الكتابة الإبداعية للأطفال»، «رسومات الأطفال عموماً والسلاسل المضحكة أو ما يدعى بالإنكليزية comics “.‏

إقامة ورشات عمل مشتركة بين كتاب ورسّامي كتب الطفل من جهة، وبين المعلّمين والمعلمات في المدارس من جهة أخرى، بما يفتح باباً مهماً جداً هو ترسيخ فكرة الإبداع الفنّي عند الطفل بدءاً من الحاضن الأساسي للطفل البيت والمدرسة.‏

إقامة ورشات عمل بين الكتاب والمعلمين من جهة وبين الأطفال من جهة أخرى، بما يجعل المهتمين بالكتابة يسمعون ويرون ويعيشون ما يعيشه وما يتمناه الطفل، وبما يشجع الأطفال أنفسهم على فكرة التواصل والعمل المشترك وتشكيل رسوماتهم وأفكارهم بإشرافٍ هو أقرب إلى اللعب والمرح بدلاً من جمود الكتب والحصص المدرسية.‏

كما أتمنى على هذه الورشات ألا تحصر نفسها بمجموعة محددة من أسماء كتاب ورسامين معروفين ومكرّسين سابقاً على أهميتهم وتقديرنا لهم، بل أن تشجع جيل الشباب من خريجي كلية الفنون ومعهد الفنون التطبيقية وحتى إشراك الشباب المسرحيين في نوع خاص أراه يدخل في صلب أدب الطفل وهو: الحكواتي أو سارد الحكايا.‏

فهؤلاء برأيي سيعملون على إحياء ميزة نادرة في أدب الأطفال وهي توالد وتناسل الأحداث، والتي تجعل الأطفال يسبحون في عوالم سحرية غنية لحكاية داخل حكاية كما في “ألف ليلة وليلة” الكتاب الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا وتاريخنا، بل يعتبر من أهم مؤثرات الحضارة العربية على الحضارة الغربية.‏

عليّ أن أشير بالتأكيد إلى منشورات وزارة الثقافة الموجهة للطفل، فهي للأمانة قد تطورت، وبدا واضحاً أن القائمين عليها يولونها أهمية وجهداً يُقدّران، لولا أن قلة أعداد المطبوعات هي مشكلة حقيقية تجعل من موضوع جمال الكتاب وقيمته النوعية تتلاشى أمام عدم توفره في الأسواق، وعدم وصوله إلا إلى أولاد «نخبة» مثقفة تسارع إلى الحصول عليه قبل أن ينفد من المكتبات، بل تتلقّفه حتى قبل أن يتم توزيعه.‏

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *