“كركوز” و”عيواظ”

مع ظهور المسرح ذي الشخصيات الحقيقية من الفنانين والفنانات أصبح مسرح “خيال الظل” وحيدا بعيدا عن الجمهور، لا يظهر إلا في الاحتفالات التراثية أو الثقافية، رغم أنني أرى بطليه يتجسدان يوميا على مسرح الحياة إن أول من قدم المسرح هم كهنة المعابد في العصور الأولى من التاريخ، بما أنهم كانوا يستخدمونه لعرض قصص آلهتهم وطقوسهم على العامة في الاحتفالات والمناسبات الدينية. ولقد مر المسرح بمراحل عدة بعد أن انتقل إلى الغرب وتطور، رغم أن

انطلاقته كانت من الشرق، وعلى الأخص من أوغاريت، حيث وجدت آثار أقدم مسرح في التاريخ. ولم يعد إلينا هذا النوع من الفن مرة أخرى إلاّ في القرنين الماضيين. ولكن المسرح الذي سأتحدث عنه اليوم هو مسرح “خيال الظل” الذي يعتبر نوعا من أنواع الفنون الشعبية، تماما كمسرح العرائس والحكواتي وصندوق الفرجة، والذي ساهم في انتشاره عدم تواجد المسرح في البلدان العربية والإسلامية لأسباب دينية واجتماعية.
والمقصود بتسمية “خيال الظل” هو الطريقة التي يعرض من خلالها؛ فعرائس هذه المسرحيات تصنع من جلود البقر، وترسم عليها صور العرائس المختلفة الأشكال ثم تقطع وتلون وتجفف، وبعدها تربط بعصي تحرك من خلالها. ويتم العرض من خلف ستار من القماش الأبيض المسلط عليه الضوء، بحيث يجعل الظاهر للمتفرجين هو ظل العرائس، ومن يحركها يسمى “محرك الشخوص” أو “المخايلي” أو “الأركوزاتي” في بلاد الشام. ويُرَد الاسم أيضا لما تتركه الشخصيات من أثر في خيال المتفرجين، لاقترابها من واقعهم وتلقائيتها في معالجة الأمور الاجتماعية وبعض المظاهر السلبية، من خلال تمرير بعض الحكم والمواعظ، والانتقادات الهادفة لرجال الحكم آنذاك، وأحياناً كانت وطنية لدرجة أنها ضايقت الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لدرجة أنه مُنع فن “خيال الظل” في المدن، فانتقل إلى القرى والجبال.. المهم هنا أن نذكر أن تعلق المتفرجين به لأنه كان يقدم في إطار ترفيهي كثيرا ما كان يشارك المتفرجون بالحوارات من خلال توجيه أسئلة لهم أو الطلب منهم تشجيع أو تنبيه إحدى الشخصيات، مما كان يعطي الموقف حركة وحيوية، وبالتالي متعة أكبر بالنسبة للمتفرجين.
وخيال الظل فن شعبي اختلفت المصادر حول مكان نشأته، فهناك من ذكر أنه نشأ في جاوة، ثم انتشر في سيلان وسيام. وهناك من ذكر أنه نشأ في الصين منذ ألفي عام قبل الميلاد، ثم انتقل إلى العالم الإسلامي عن طريق بلاد “فارس”. وفي روايات أخرى انتقل من الصين عن طريق التتار إلى الدولة العباسية، حيث تلقفه الأديب العربي شمس الدين محمد بن دانيال بن يوسف الخزاعي، من سكان الموصل، والذي لقب فيما بعد دانيال الموصلي، ونقله إلى مصر بحلّة تتناسب مع الفكر، والتاريخ، والعادات والتقاليد العربية في العهد المملوكي، ومن ثم نقل هذا الفن إلى الدولة العثمانية السلطان سليم الأول الذي أراد أن يرفه عن ولده، وعن طريق الدولة العثمانية انتقل إلى الكثير من البلاد العربية، حيث أصبح فيما بعد جزءا هاما من التراث الشعبي.
إن قصة دانيال الموصلي مثيرة وطريفة حقا، وأنصح القارئ بأن يبحث عنها ويطلع عليها لما فيها من الكثير من المواقف التي أدت به لتحويل تخصصه من “مكحلاتي”ـ ما يساوي طبيب عيون في وقتنا الحديث ـ إلى مؤلف مسرحيات، أو كما كانت تسمى “بابات” لمسرح “خيال الظل”. وهو أيضا يعتبر أول من أسس هذا النوع من الفن الشعبي في العالم العربي، فلم يكن ناقداً شعبياً وأديباً فقط، بل سريع البديهة وحاضر النكتة، كما كانت لديه القدرة على تغيير وتيرة صوته ولهجته، وهي من السمات التي أصبحت فيما بعد من متطلبات كل من أراد أن يمتهن هذا المجال.. وله عدة مسرحيات نقلت واشتهرت في أوروبا بعد الترجمة منها: “طيف الخيال”، و”عجيب وغريب”، و”المتيم”، التي كانت تثقيفية كما كانت ترفيهية، فيها من المحادثات في العامية والفصحى، الفكاهة والجدية، المنولوج الغنائي وأشعار للأطفال.. والأهم هنا أنها كانت تعكس الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر في زمن السلطان الظاهر بيبرس. 
بالنسبة لشخصيات مسرح الظل نجد أنها تأثرت وأثرت بتاريخ وتراث المناطق التي احتضنتها، ففي بلاد الشام نجد على سبيل المثال: العسكري، الفرنجية، أبو الشباب، وطبعا كراكوز وعيواظ وتوابعهم من الأسرة، والأخيران من أبرز شخصيات مسرح خيال الظل.. اسمان خرجا من التراث العثماني، كركوز “كرة كوز”، أي العين السوداء الكبيرة، والتي اتخذت صفات الشخصية المشاكسة التي تدبر المقالب وأحيانا الأذى، و”عيواظ” أي الواعظ الذي يلقي نصائحه دائما.. وفيما بعد تطورت الشخصية لتصبح المتلقي لأذى كركوز ومقالبه، ونجد في الكثير من الأعمال الأدبية، العربية منها والغربية، ما يمثل سمات هاتين الشخصيتين؛ الظالم والمظلوم، الصياد والضحية، الجدي والهزلي، العاقل والمجنون.. إنه الصراع الأبدي بين متناقضين، بمعنى ضع شخصيتين متناقضتين ثم ابنِ بقية القصة حولهما.. لكن وهج هذا الفن بدأ بالانحسار ثم الأفول مع ظهور المسرح ذي الشخصيات الحقيقية من الفنانين والفنانات، وأصبح “خيال الظل” وحيدا بعيدا عن الجمهور، لا يظهر إلا في الاحتفالات التراثية أو الثقافية، رغم أنني أرى بطليه يتجسدان يوميا على مسرح الحياة مع أفول وانحسار الشخصيات المؤثرة وظهور شخصيات “كراكوزية” مكانها.. ولك سيدي القارئ أن تحدد من هو “كركوز” ومن هو “عيواظ” هذه الأيام!

 

ميسون الدخيل

http://www.alwatan.com.sa

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *